أسماء علاء
تتأنى في مشيتها، ترسو على هوادة، يُهيأ لها أن ظهرها مغمور في مشهد سينمائي بينما لا يلاحظ أحد مرورها. تدخل من حجرة إلى حجرة، يداها مضمومتان إلى بعضهما البعض، وفي قلبها ثِقل الباحث عن شيء ليس له. تجده في الحجرة الوسطى، الحجرة التي كلما دخلتها كلما لعنت تقسيمة الشقة والظروف التي جعلتها توافق زوجها على استئجارها منذ البداية. تجده منكبًا على عمل، في يده هاتفه، وبجواره الحاسوب مضاء دائمًا فتقرر الجلوس لبعض الوقت تتأمل عالمه يتحرك أما هي فتشبه النجوم السابحة في فضاء لا تعلم عنه شيئًا. تذكُر البداية، تذكُر أنها لم تستمع لروحها، لم تستمتع للصوت الذي أمرها أن ترحل من هذا الباب، أن تدع الأيام تمر وتدع البشر يرحلون كما ينبغي لهم.
على النقيض من صوت رأسها، تمادت فيما تفعله، أمسكت بيد الخوف وعبر بها إلى حيث يجلس هذا الرجل الذي جعلها ترى شيئًا تتوق إليه وما زال حتى اليوم تكشف يداه عما تنتظره وترضاه. إنه يأخذ بيدها من عالمها المترب، ذاك العالم المترامي في كل الدنيا لا له بعد ولا نهاية لكنه غارق في الصمت والكبرياء والعزلة. عالم تغيب شمسه في ثوانٍ وتتسرب نجومه إلى بالوعة حوضٍ وتموت تفاصيل لحظته وراء صفحة الموج التي لا تغيب عن وجهها. أما هو، فكانت شمسه في السماء دائمًا، قاهرة ومهيمنة، عالمه يملأه الهواء، وأصوات الناس وجنون الدنيا. كانت تملك دبيب الأرض وروحها إذا ثارت وغضبت وقررت أن تغير كل شيء، بينما هو لم يجد أسبابًا لكل هذا وكان أسهل ما لديه أن يبسط يديه لما أمامه في حين تفكر هي وتتأمل ألف مرة قبل أن تتزحزح عن مكانها.
تخرج من الغرفة الوسطى بعد أن تشاورا فيما يأكلان اليوم. تخلفه وراءها كأنه مسافر إلى مكانٍ بعيد، تغرق في النظرة الممتدة بينهما وهي تعرف بداخلها أن هناك شيء ليس في محله. تُكمل جولتها المضطربة في الشقة، تحفظها، تقدسها وتلفظها في آنٍ واحد ثم تجلس على كرسي مكتبها تنتظر الميعاد. ميعادها لتخبره بكل شيء حتى لو تصدعت حوائط الدنيا، وميعاده ليقلب الطاولة على رؤوس الجميع بدون أي انتباه للعواقب تمامًا كما تعوَّد وفشلت هي في التعود عليه. تشعر أنها في رداء أسود ولها هيئة امرأة خمسينية لكنها ليست على هذه الهيئة وبالرغم من ذلك تشعر بالقِدم كأن كل تراب عالمها استقر على جسدها.
كيف تخبره أنها تؤمن بتوازن القوى؟ كيف تخبره أن هواءه السافر يدور حول قمم جبالها يحمل من أتربتها ما يحمل، يبعثرها في كل اتجاه ويرحل. كيف تخبره أن شمسه التي تسربت إلى عالمها تؤذي عينها في بعض الأحيان، تجبرها على التخفي وتهدد عزلتها الداخلية. كيف تشكل الكلمات إن أرادت أن تعبر عن حبها وتوقها إلى الانعتاق من هذا الخلاف الكبير بينهما؟ كيف تقول أنها اكتشفت بالصدفة أن الأرض التي تبدو قاسية ومنعزلة وباردة تحفظ في جوفها نارًا تتوق إلى هذا الرجل الذي يتحرك كالهواء، يرحل من هنا لهناك، ويريد أن يتخفف منها متى أراد وأن يلتصق بها كأنها نصف روحه متى أراد. لم تعد تطيق أن تجلس في هذا الانهزام كلما تجدد الوعد بالرحيل، الوعد الذي لا يعلنه صراحةً لكنه يضمنه في أفعاله، وكلماته المترددة المتغيرة التي لا يعرفها عالمها الراسخ في الأرض.
في عالمها، كل الوعود علانية، صوتها يتردد في كل الأماكن، ظلاله المنسحبة تتراجع من كل الزوايا وعلى التراب الباقي أن يمتص ما حدث، يحفر مقبرة، ويثور ويسقط إلى أن يستقر مجددًا. على ما يبدو لها، فإن هذا العرف ليس ما يُسيِّر عالمه المليء بزوبعات الهواء.
تنظر إلى أظافرها الطويلة وتشعر بالحاجة إلى التخلص منها وليس تقليمها. لا طاقة لديها الآن. تردد لنفسها.. لاحقًا. تصنع كوبًا آخر من الشاي وتتجه إلى الشرفة. هناك برد وشمس، يجتمعان ويفترقان من آن لآن بسرعة شديدة وبقوة شديدة، أضداد متجابهون مثلها هي ورفيقها. السماء الواسعة والغيم الأبيض يذكرانها برحابة الدنيا وصدق الخلاص، فتؤمن بما حدث وتؤمن بما سيحدث. كل الراحلين كان عليهم أن يرحلوا وكل العذاب الذي توشك على تذوقه كان لابد له أن يقع لأنها بسطت يديها لما أرادت الحياة أن تعطيه لها. إننا لا نأخذ بالقوة الخالدة ولا نستولي على شيء دون مقابل وهي ترضى أن تدفع المقابل لقاء الحقيقة والقرب والحب والنضج وكل ما تتسع له أراضيها اللانهائية.
إنها ليست زوجة لأحد ولا تسكن شقة لا تُعجبها مع رجلٍ بعيد لكنها قادرة على رؤية مستقبل الأشياء، قادرة على رؤية مخاوفٍ التي لا تشبهها، وقادرة على انتزاع قدميها من الطين مهما علقتا فيه. إنها تُسلم للوقت والمسافة والقدر إن كان هنالك واحدًا وتُسلم لنفسها التي تعلم أن الأرض ذات الغبار ليست ميتة وإنما فقط لها شمس مختلفة وحياة مختلفة وثورات يجب أن تكون، يجب أن يُنظر إليها ويجب أن تظل على الخارطة، ولها يد إن كانت ستبسطها فليمد الآخر يده. انتهى كوب الشاي وبرد الحزن قليلًا فقررتْ أن الوقت قد حان لقص أظافرها والنظر لاحقًا فيما تحمله الأيام. فلتنتظر الأيام.