النبىُّ موسى، مريم العذراء، وعمر بن الخطاب

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد الفخرانى

 

النبىُّ موسى

مشيت فى المَمَرّ، انقطعَتْ الموسيقا، شعرْتُ أنى انتقلْتُ إلى زمن ومكان جديدين، تطلَّعْتُ حولى: الصحراء، الجبال، السماء، النجوم، القمر، وقبلهم مرَرْتُ بالبحر، النهر، الأشجار، الشروق، والغروب.

أعتبر هذا كله أعمالاً إبداعية، البشر أيضًا، الطيور، الحيوانات، والأسماك، وغير ذلك، أعتبر الكون، بكل تفاصيله، عملاً إبداعيًا كبيرًا.

توغَّلْتُ فى الصحراء، رأيت هالتَيْن من نور تنزلان معًا جبلاً قريبًا، إحداهما مستديرة، بحجم وجه إنسان، والأخرى أسفل منها بمسافة ذراع أو أكثر قليلاً، مستطيلة الشكل، وبحجم كتاب، توقَّفْتُ أتأمَّلْهما، كانتا تتحركان بإيقاع خطوات إنسان، فكَّرْت أنهما ربما ترافقان رجلاً صالحًا، مشيْتُ إلى الجبل، وقَفْتُ على بُعْد أمتار قليلة منه، أتأمَّل الرجل الذى وصل الآن إلى السَّفْح، كانت إحدى هالَتَى النور حول وجهه، والأخرى حول شىء يمسكه بيده ويضمُّه إلى جنبه، كان يرتدى عباءة بسيطة، مشى باتجاهى، خطواته قوية، عندما وصل إلىَّ تمهَّل قليلاً، ربما توقف لحظة، لم أتبيَّن ملامحه بسبب هالة النور، أو ربما تبيَّنتُها أكثر من اللازم، نظَرْتُ إلى ما افترضْتُ فى البداية أنه كتابًا يمسكه بيده، كانت أكثر من لوحٍ حجرى واحد، فيها سطور مكتوبة أو محفورة بلغة لم أرها من قبل، ويده تخفى أجزاء من تلك السطور، قرأتُ منها: “لا يكن لك آلهة أخرى أمامى”، “لا تقتل”، دقَّ قلبى بقوة ونظرْتُ إلى الرجل، قلت لنفسى “النبىّ موسى”، ابتسمَ لى بعينيه، ابتسمْتُ له، أكمل النبىُّ طريقه، تأمَّلْتُه وهو يبتعد بخطواته القوية، وهالَتَى النور، فكَّرْتُ: كان يُكلِّم الله فوق الجبل، لذا، تحيط بوجهه هالة النور، وقد تَسلَّمَ لتوِّه “الوصايا العشر”، فكَّرْتُ أنَّ هذا النبىّ الذى يحمل هذه الوصيَّة “لا تقتل”، سيحزن جدًا لو عرِفَ ما سيكون فى العالم مِن قَتْل.

 

مريم العذراء.

تطلَّعْتُ إلى الجبل، شعرْتُ بشجن خاص أعرفه، وأُحبه، كأنه شعور سِرِّى بين وبين نفسى لا تعرفه مشاعرى الأخرى، فكَّرْتُ فيما يكون وراء هذا الجبل، مشيْتُ حوله على شكل قوس، كان الليل يتلاشى تدريجيًا، حتى رأيت انعكاسات نور الشمس تأتينى من خلف الجبل، أدرَكْتُ أنه الصباح هناك، أو الغروب.

صِرْتُ خلف الجبل، شمس الصباح، أدرَكْتُ أنى فى مكان وزمان جديدَين، رأيت طريقًا ترابيًا يمتد حتى يدخل بين مجموعة من التلال، مشيتُ فيه، أوصلنى إلى مدخل مدينة صغيرة، توقفْتُ أتطلَّع إليها، بيوتها من طابق واحد، بسيطة ومتلاصقة، أرضها بيضاء، تتوزَّع فيها بعض أشجار نخيل وزيتون، وهناك جبل يرتفع خارجها على الجهة الأخرى.

دخلْتُ المدينة، شعرْتُ بإيقاعها الداخلى الهادئ، شمَمْتُ رائحة عطريَّة خفيفة، مرَّ طفل يضحك واختفى بين البيوت، ظهَرَ رجل ومعه حمار يضع على ظهره بعض الأخشاب ومشى فى عمق الطريق، سمِعْتُ ثغاء شاة، رأيت بئرًا للماء محاطة بحاجز من الطوب، وهناك حبل ودلو، مرَّتْ بى شابة ترتدى ثوبًا واسعًا، وتضع غطاءً للرأس، تحمل بين يديها إناءً فُخاريًّا، طار سِرْبُ عصافير باتجاه الجبل، مرَّت نحلة فوق كتفى، الأبواب والنوافذ تنفتح، وتطلُّ منها وجوه صباحيَّة، ظهر أهل المدينة فى الشوارع، الإيقاع الداخلى الهادئ يسيطر، وشعرْتُ بجوع مُفاجئ.

كانت شوارع المدينة تتقاطع مع بعضها بعضًا، دخلْتُ شارعًا جانبيًّا، رأيت على مسافة قريبة ثلاث عجائز يرتدين عباءات سوداء تتخلَّلُها ألوان رمادية وخضراء، ويُغطِّين رؤوسهن بجزء من عباءاتهن، كُنَّ جالسات تحت شجرة بمواجهة أحد البيوت، كان بابه مفتوحًا، خرجَتْ منه شابة، ترتدى ثوبًا أزرق سماوى، واسع قليلاً، يصل إلى قدميها، تحيط خصرها بحزام لطيف من قماش أبيض، وتُغطى رأسها بشال أبيض ينسدل على ظهرها، كانت تحمل بيدها سلَّة صغيرة من القَشّ، بها خبز.

 بمجرَّد أن رأيت الشابة غمَرَتْ الطمأنينة قلبى، وتوقفْتُ فى مكانى، شعرْتُ أنَّ كل ذرَّة حزن قد انمَحَتْ من العالم، كأنَّ أحدًا لم يؤذ أحدًا، ليس هناك مخلوق واحد حزين، أو يتألم.

ابتسمَتْ الشابة إلى العجائز الثلاث وقالت:

“صباح الخير”، قالتها بلُغة لم أسمعها من قبل، لكنى فهمتُها.

 ردَّت العجائز: “صباح الخير يا مريم”.

 أدرَكْتُ لماذا شعرْتُ بهذا السلام عندما رأيتها، الآن أنا أقابل “مريم العذراء”.

التقطَتْ “مريم” من سلَّتِها رغيف خبز أعطته إلى العجوز الأولى، ووضعَتْ فوقه بعض حَبَّات التمر، شكرَتْها العجوز، فعلَتْ “مريم” الشىء نفسه مع العجوزين الأخريان، ثم تلفَّتَتَ حولها كأنما تبحث عن شخص تعطيه من خبزها وتمرها، توقفَّتْ عيناها عندى، ابتسمَتْ واتجهَتْ إلىَّ، بقيْتُ فى مكانى، أتأمَّلُها وأبتسم، وصلَتْ إلىّ، توقفَتْ أمامى، رأيت نورها الداخلى.

 قالت: “صباح الخير”.

 قلت: “صباح الخير”.

 سألَتْنى: “أنت مسافر؟”.

“نعم”.

 التقطَتْ رغيف خبز من السَلَّة، وضعَتُه فى يدى، وفوقه حَبَّات التمر، شكرْتُها وظلَّتْ عيناى مُعَلَّقتان بنور عينيها، ووداعَتِها، قلت:

“هل تقولين لى شيئًا فى سفرى؟”.

 ابتسمَتْ وقالت:

“لا شىء تُقدِّمُه للعالم أفضل من المَحَبَّة”.

 واندفعَ إليها طفل وطفلة يضحكان ويقولان:

“نريد خبزًا وتمرًا”.

 ابتسمَتْ لهما “مريم”، أعطتهما آخر رغيفَيْن، وآخر حبَّات التمر، ظهَرَ حولها أطفال آخرون، يضحكون ويطلبون منها: “خبز وتمر”.

 قالت لهم: “هيا إلى البيت، هناك ما يكفيكم جميعًا”، مشَتْ بهم وهم يتقافزون حولها، يضحكون ويقولون: “خبز وتمر”، وهى تبتسم لهم، حتى دخلوا البيت. 

بقيْتُ فى مكانى لبعض الوقت، أرى وجه “مريم” عَبْرَ نافذة البيت وهى تبتسم لأطفال لا أراهم، لكنى أسمع أصواتهم وضحكاتهم، ثم غادرَتْ “مريم” الحجرة، فلم أعُد أسمع أصوات الأطفال.

نظرْتُ إلى الخبز والتمر فى يدى، قطعْتُ لقمة، ومعها نصف تمرة، ومشيْتُ باتجاه الجبل خارج المدينة.

 

عمر بن الخطاب.

شَبِعْتُ بالرغيف والتمرات، وصلْتُ إلى الجبل، تتناثر فيه بعض الخضرة، رأيت خمس أو سِت عنزات يلعبن معًا، والراعية الصغيرة تلاحق فراشة تطير فى دوائر، حَطَّتْ الفراشة على رأس الراعية، فثَبَتَتْ بمكانها ورفعَتْ عينيها تحاول رؤية فراشَتها، ابتسمْتُ لها، ومشيْتُ فى مَمَرّ داخل الجبل، دار بى كأنى فى متاهة، وجوانب الجبل حولى تحجب نور الشمس، وتُغطينى بظِلّ رطب، حتى خرجْتُ أخيرًا إلى الجهة الأخرى، وكان الليل.

أدركْتُ أنى فى زمان ومكان جديدَيْن، كنت فى صحراء، القمر هلال، والنجوم صغيرة، رأيت على مسافة قريبة بقعة نار، تجلس إليها امرأة ترتدى ملابس عربية قديمة، بدَتْ كأنها تنتظر أن ينضج شىء ما فى ذلك الإناء، وهناك كانت خيمة يأتينى منها أنين أطفال وبكاء مكتوم، مشيْتُ باتجاهها، سمِعْتُ وقع أقدام قريبة منى ورجلٌ يقول بتأنيب: “ويحكَ يا عمر، ويحكَ يا عمر”، رأيته على بُعْد خطوات يدُبُّ بعصا يقبض عليها بيُسراه، ويحمل على ظهره جوالاً، وإلى جواره رجل يقول له: “هَوِّن عليك يا أمير المؤمنين”، كانا يتجهان إلى بقعة النار.

 توقفْتُ أراقبهما، ثم تبعتهما، شعرْتُ أنى أعرف هذا المشهد، قرأتُه من قبل فى كتاب: الرجل الذى يحمل الجوال هو “عمر بن الخطاب”، ومعه مساعده، يتجهان إلى المرأة التى كان “عمر” قد رآها فى وقت سابق من هذه الليلة، وهى تضع على النار قِدْرًا به ماء، كى تُوهِم أطفالها الجوعى بأنها تطبخ لهم طعامًا، وفى الحقيقة هى تُلهيهم حتى يناموا، فليس لديها ما تطعمهم إياه، عاد “عمر” بعد أن رآها على هذه الحال إلى بيت المال، وها هو قد جَلَبَ الدقيق.

رآنى مُساعِدُ “عمر” وأنا أمشى خلفهما، لم يمانع وجودى، وَصَلا إلى المرأة، وضعَ “عمر” الجوال على الأرض، فَتَحه، وغرف منه دقيقًا وضَعَه فى القِدْر.

استندَ “عمر” بكفَّيْه وساقيه إلى الأرض بجوار النار، وظلَّ ينفخ فيها، رأيت الشَّرَرَ يتطاير منها ويمرُّ خلال لحيته، لم يتوقف حتى نضج العجين، رفَعَ القِدْر عن النار، طلب من مساعده طبقًا، وضعَ فيه الخبز، وقدَّمَه إلى الأطفال، وقال لهم: “كلوا، كلوا”.

 ظَلَّ “عمر” رابضًا عند أقدام الأطفال يُطعمهم حتى شبِعوا، ظلَّ يداعبهم حتى ضحكوا، وناموا.

 غطَّاهم “عمر” وقبل رؤوسهم، ثم جَمَع الخبز الفائض فى طبق، وضعَه بالقرب منهم، وقال للأم: “هل تحتاجين شيئًا يا أختاه؟”، شكَرَتْه المرأة ودَعَتْ له دون أن تعرف مَنْ يكون، استأذنها “عمر” فى رغيف خبز واحد، ثم أمسَكَ بعصاه واتجه إلىَّ، كنت أعتقد أنه لم يرنى.

قال لى: “مُسافر أنت؟”.

 قلت: “نعم”.

 وضعَ الرغيف فى يدى وقال:

“هذا لك”، شكرْتُه، قال: “تعرف طريقك، أليس كذلك؟”.

 “نعم، لن أضيع”.

 تأمَّلنى لحظة، وقال:

“يحفظك الله، السلام عليكم”، واستدار ماشيًا.

 قلت: “وعليكم السلام، عمر بن الخطاب”.

 سمِعْتُ “عمر” يبكى وهو يبتعد مع مساعده ويقول:

“أبكاهم الجوع، وسهَّرَهَم، ويْحكَ يا عمر، ليغفر الله لى”.

نظرْتُ إلى الأطفال النائمين، وبجوارهم طبق ملىء بالخبز، كانت أمهم مشغولة وهى تلملمُ الفُتات من حولهم، ابتسمْتُ للأطفال، ومشيْت.

……………………..

*مقطع من رواية “مزاج حُرّ”، قريبًا عن المصرية اللبنانية.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون