بدأ نجاح الرواية فى رأيى من اختيار بطليها فى شهور محددة بين عامى 1881 و1882: نيتشه لم ينجز بعد عمله الأشهر “هكذا تحدث زرادشت”، ولكنه أرهص بانقلاب شامل فى النظر الى المسلمات والأخلاق السائدة بكتب نادرة التوزيع مثل “هذا هو الإنسان”، وبريوير، الذى اشتهر كطبيب للجسد وللجهاز التنفسى، يقترب من عالم اللاشعور دون أن يبلور بعد نظرية متكاملة. جاء هذا الإقتراب من خلال تعامله مع حالات من الهيستريا، آلام ومتاعب جسدية، ولكن دون أسباب عضوية.
عقلان من القرن التاسع عشر لم يلتقيا أبدا فى الواقع، ولكن يالوم قرر أن يجمعهما على صفحات روايته ليختبر حدود العقل، وحدود النفس، ليس من خلال أفكار الرجلين فحسب، ولكن من خلال تحليل شخصياتهما أيضا.
افترض يالوم أن الرجلين مأزومان لأسباب مختلفة، وأن أفضل لعبة يلعبانها هى أن يعالج كل طرف نظيره الآخر، وأن يختبرا أفكارهما العقلية والنفسية على ذواتهما. هنا مولد طريقة العلاج بالكلام، أساس التحليل النفسى، أو “كنس المدخنة” على حد تعبير قول بيرثا مريضة بريوير، وهنا أيضا الأسس التى ستقوم عليها فلسفة نيتشة التى تمجد القوة، وتحلم بالسوبرمان، وترفض الإعتماد على أى قوى غيبية.
نحن إذن أمام حوارية طويلة فى سبيل اكتشاف إنسان أفضل وأقوى: يعرف ما فى داخله من عقد ومخاوف، ويقود العالم محاولا إخضاعه لإرادة القوة. فكرة كهذه تبدو جافة تماما، وتعيدنا الى محاورات كبار الفلاسفة ومناظراتهم، ولكن دراسة يالوم الممتازة لحياة وأفكار بطليه نيتشة وبريوير، ونجاحه فى رسم معالم شخصيات أخرى هامة ومؤثرة مثل لو سالومى وسيجموند فرويد وماتيلد زوجة بريوير، وربطه الأفكار المجردة بالحياة اليومية ومشكلاتها، كل ذلك ساهم فى تماسك البناء، وإعطاء العمل حيوية كاملة. هناك فعلا حبكة جيدة ومبتكرة تؤدى الى تقاطع عالمى نيتشة وبريوير بشكل تدريجى ، رغم حدة طباع نيتشة المعروفة.
لم يعتمد يالوم على أفكار محلّقة فى الفراغ، ولكنه رسم أولا، وبالتفصيل، معالم شخصيتى نيتشه وبريوير: لدينا فيلسوف فى منتصف العمر يعانى من اضطرابات جسدية مؤلمة، ولديه ميول اكتئابية، وأفكار عميقة عن اليأس، كما أنه فاشل عاطفيا، بالذات بعد تعلقه بالروسية الحسناء لو سالومى. كان قد تعرف عليها من خلال صديقه الفيلسوف بول رى. نشأت علاقة ثلاثية عجيبة. ولكن لو سالومى المرأة المتحررة، رفضت حب نيتشة، وهاهى تلجأ الآن الى د بريوير لكى يعالج الفيلسوف الذى أعياه التماس العلاج. لو سالومى تؤمن بعبقرية نيتشة، وتشعر بأنها مسؤولة عن يأسه، وربما تفكيره فى الإنتحار.
بريويرالذى يتمتع بحياة مستقرة، فهو طبيب ناجح، وزوج لامرأة ثرية، كما أنه أب لخمسة أولاد، يقبل نيتشة كحالة مرضية، ولكن الطبيب الذى تجاوز الأربعين يبدو أيضا مأزوما لأسباب تتعلق بمريضة أغرم بها تدعى بيرثا. صورتها تطارده فى أحلامه، وتصنع حاجزا بينها وبين زوجته ماتيلد. بريوير يعترف بمشاعره الجنسية التى عادت بعد اقترابه من بيرثا مريضة بالهيستريا، ويشعر بالذنب لأنه تخلى عنها بسبب غيرة ماتيلد، التى أجبرته أيضا على التخلى عن ممرضته وصديقته العزيزة.
الصراع فى الرواية هو صراع أفكار وإرادات: نيتشه الذى يعتبر نفسه قد تعرض للخيانة من فاجنر ( صديقه السابق) ومن بول رى ومن سالومى، لن يستسلم أبدا لعلاج بريوير. هذا الفيلسوف المنهك الذى يصرخ من الصداع، والذى يقىء دما، والذى ينقذه بريوير من الموت بأعجوبة، نيتشة الذى يمجد القوة يحمل داخلة رجلا آخر وحيد وتعيس، يطلب المساعدة، ويتمنى مكانا ينتمى إليه.
وبريوير الطبيب الناجح، يحمل فى داخله أيضا عالما موازيا يفسد عليه استمتاعه بالحياة، ويحاول مع تلميذه فرويد اكتشاف عالم الأحلام الغامض بكل رموزه. حيلة بريوير فى إقناع نيتشة مبتكرة: يحاول بريوير شفاء نيتشة من نوبات مرض الشقيقة الذى يسبب الصداع القاتل، على أن يحاول نيتشة بالمقابل أن يعالج بريوير من داء اليأس.
أراد بريوير أن يدّعى اليأس حتى يعترف نيتشة أمامه بآلامه النفسية دون حرج، ولكن بريوير سيكتشف فعلا أنه مريض، وأن وراء هروبه الى بيرثا فى عالم الأحلام، حالة أكثر تعقيدا من الخوف من الموت ومن الشيخوخة ومن الزمن. حياته تحولت الى سجن لم يختره، ولم يشعر يوما بالحرية.
أما نيتشه فإنه يكتشف أيضا وحدته المستمرة، ومأساته العاطفية، من خلال مساعدته لبريوير فى التخلص من الخوف. لعبة الأقنعة التى ستتم بين الرجلين فى المصحة ستبلور فلسفة فردية تمنح الإنسان حق الإختيار، وتكشف له قوته الذاتية، بأن يكون هو نفسه، وبأن يعرف أن حياته الآنية هى حياته الأبدية. لعبة الأقنعة ستبلور من ناحية أخرى دور الأفكار الراكدة فى عالم اللاشعور فى تجسيم معاناة نفسية ليست أقل ألما وخطورة من صداع الرأس.
أهم ما سنكتشفه من تجربة نيتشه/ بريوير أن الإنسان يمتلك جانبين واضحين: عوامل ضعف وتخاذل، ونقاط قوة وسيطرة. والصراع طوال الوقت بين هذين العالمين. هذا فيلسوف القوة يبكى كطفل وهو يعترف بفشله مع سالومى، تنهمر دموعه لأنه أكثر الرجال وحدة فى العالم. نيتشة الذى يمقت الضعف، سيقنع نفسه بأن وحدته ومرضه وإحباطاته ليست سوى درجات يصعد بها الى فلسفة القوة. لم يستطع أن يكون وسط الناس، فاختار أن يكون فوق ربوة عالية، مرتديا قناع النبى زرادشت، ومطالبا بأخلاق بديلة، وحالما بكائن أقوى وأكثر تحكما فى إرادته، وفى العالم.
براعة السرد فى أن الأفكار الكبرى فى الرواية تصطدم دوما بالضعف الإنسانى: الجسدى والنفسى والعاطفى. نيتشة أخذ بريوير الى أفكار وجودية كبرى مثل حرية الإختيار الفردى، وصراعنا الحقيقى ضد الزمن، وبريوير كشف لنيتشة عن هشاشة العاطفة، ومحنة القلب الكسير، ومأساة الإنسان بين قدرة العقل وخذلان الجسد. فى الحالتين يعود الإنسان بجانبيه القوى والضعيف كائنا فريدا ومعقدا، ولكن يكفى أن نيتشة حاول أن يطور جانب الإرادة بفلسفته العقلية، وأن بريوير حاول أن يكنس مدخنته الداخلية، وأن يتجاوز العوائق النفسية التى تحول دون الإنطلاق والتحرر.
هذه رواية تقدم التحية العميقة للفلسفة وللطب النفسى، للعقول التى لم تتوقف عن البحث رغم آلام الجسد، و رغم جراح النفوس والأرواح. لم يكن مطلوبا من إرفين يالوم أن ينهى روايته بصفحات يشرح فيها للقارىء مساحات الخيال ومساحات الواقع فى عمله البديع، فكل شخصية حقيقية أصبحت شخصية فنية مستقلة عن أصلها، منذ اللحظة التى صارت فيها جزءا من بناء الرواية. وحتى لو كان نيتشة قد التقى بريوير فى الواقع، فإنهما كان سيصبحان شيئا آخر فى إطار بناء روائى يريد أن يعيد بناء الأفكار ، ويطمح الى صنع عالمه الخاص. منذ اللحظة التى يضرب فيها النحات بإزميله، لم يعد الحجر حجرا. صار شيئا آخر. يحضرنى هنا أن الكاتب الأمريكى نيكولاس ماير أصدر فى العام 1974 رواية بعنوان ” 7% solution” تخيل فيها لقاء بين شيرلوك هولمز ( الشخصية القصصية الخيالية الشهيرة) وعالم النفس الأشهر سيجموند فرويد. الروايات (والفنون عموما) إذن تعيد بناء الحياة بأكملها سواء كانت مادتها الواقع أو مادتها الأخيلة، إنها عالم مواز متكامل ومستقل عن أى أصل.
“كن أنت نفسك”، “يجب أن يكون فى داخل المرء فوضى وجنون مؤقت حتى يلد نجما راقصا” . هكذا تحدث نيتشه، وهكذا تغيرت حياة بريوير، مما ساعده على التخلص من معاناته النفسية، ولكن رغم هذه الحفاوة بأفكار نيتشة، فإن يالوم ( وهو أستاذ بارز فى الطب النفسى) ، لاينس أن يترك لكل قارىء حرية الإختيار، ولا ينس أن يذكرنا (فى إحدى صفحات روايته) بمقولة جوتة التى كتبها فى إحدى طبعات روايته “آلام فرتر”. قال جوتة: “كن رجلا .. ولا تتبعنى” . اختر أنت طريقك، حتى لو كنت وحيدا متألما، فوق جبل، تظلله السحب الحمراء، وبدون صديق أو حبيبة ، وحتى بدون جواز سفر، أو مكان تنتمى إليه.
قل كلمتك، وامش، واترك مكانك لآخرين يتسربون فى ساعة الوجود الرملية الأبدية.