حاوره: الأمير كمال فرج
عمار علي حسن روائي وناقد أدبي وخبير في علم الاجتماع السياسي، تخرج في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وجمع بين الأدب والسياسة، صدر له أكثر من خمسين كتابا في الرواية والقصة والشعر والدراسات الأدبية والسياسية. معه هذا الحوار
1 ـ الأدب ضد السياسة أو على النقيض منها ، فالأدب رسالة مهمتها إصلاح السياسة، والسياسة في العالم العربي مهنة مختلطة وأحيانا ـ للأسف ـ سيئة السمعة . أنت خريج كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وتحمل درجة الدكتوراه في الاجتماع السياسي، ولك كتب كثيرة في هذا الحقل المعرفي، ورأيناك تلعب أدوارا سياسية، فكيف تعاملت مع الجبهتين؟
ـ لم أمارس السياسة كمحترف، بل بوصفي مثقفا منتميا يسعى مع الناس، بكل جهد مستطاع، في سبيل تحسين شروط الحياة. قد يكون حديث جرامشي عن “المثقف العضوي” هو الأدق في وصف وتحليل ما أقوم به، لأني رفضت عضوية كل الأحزاب التي سعت لانضمامي إليها، ورفضت دخول انتخابات البرلمان في وقت كان فوزي فيه سهلا عقب ثورة يناير، واعتذرت عن عدم تولي مناصب سياسية كبرى منها وزارتي الشباب والثقافة أو مستشار لرئيس الوزراء، لأن الكاتب داخلي لم يرض أن يزعجه أي من هذه الأدوار. وإذا كنت قد مضيت في البحث في علم السياسة، وتوالت كتبي، فإني جعلت من هذا إضافة إلى مساري الأدبي، وليس خصما منه. فدراسة السياسة وسعت أفقي الأدبي، لأني أدركت مبكرا عدة أشياء أولها أن للفن شروطه المختلفة عن البحث العلمي، وله طرائقه وأساليبه وعوالمه وجنونه، الذي يختلف كثيرا عن مسارات العلم في مسارات براهينه. لكن يمكن للفن أن يستفيد من العلم الإنساني في التقاط بعض الأفكار وفي صناعة البنية المحكمة، وهي مسألة تحتاجها الرواية بالأساس، وتتخفف منها القصة القصيرة كثيرا وعميقا، وتغيب في الشعر تقريبا. وثانيها أن الأدب ليس وعظا ولا أيديولوجية ولا منشورا سياسيا، وأن الكتابة التي سقطت في هذا الفخ أهانت نفسها وصاحبها، ولفظها الفن. وكنت دوما أنبه، وأنا أمارس النقد الأدبي، إلى هذا، وأضرب مثلا بالأدب الروسي قبل الثورة البلشفية وبعدها. وثالثها أنني لم أنس الأدب في عمق انشغالي بالدراسات السياسية. فقد اخترت موضوع رسالتي للدكتوراه عن “القيم السياسية في الرواية العربية”، وخلالها وسعت بعض مداركي الأدبية وكنت أهدف إلى هذا بالأساس. ولا يجب أن ننسى أن كثيرا من كبار الأدباء مارسوا السياسة، ومنهم من حصل على نوبل، وبعضهم كتب الرواية السياسية.
2 ـ كتبت الرواية والقصة والشعر .. فما هو القاسم المشترك بين الفنون الأدبية؟
ـ بالإضافة إلى الرواية والقصة والشعر كتبت أيضا أشكالا أخرى وهو “المتتالية القصصية” و”القصة القصيرة جدا” و”أدب الأطفال” و”نصوص” لا يمكن تصنيفها و”السيرة الذاتية السردية. كل هذه ألوان من الأدب، بينها مشتركات كثيرة، فالرواية عندي تذهب في بعض الوصف إلى منطقة شاعرية كما يقول نقاد، ويمكن لها، حين تتوالد في بطنها الوسيع حكايات صغيرة، أن تبدو قصصا. لكن كل لون له شكله وشروطه. وأنا مؤمن بأن الكاتب، كما ينوع مضمون أدبه، فعليه أيضا أن يجتهد في تنويع الأشكال.
3 ـ ماهي الفكرة أو الرسالة أو القضية التي تتمحور حولها رواياتك؟
ـ رواياتي موزعة على موضوعات وقضايا وأماكن متعددة، فهي موزعة على الريف والمدينة والصحراء، وتعرض قضايا تنهل من التصوف والتهميش الاجتماعي للفقراء والمعدمين ومظالم النساء، وبعضها يدور حول الثورة والحرب ومختلف بيئات العمل في المكاتب والحقول والمعمار، وبها مسار عريض من “الفانتازيا” و”الواقعية السحرية والروحانية” والحكايات التاريخية والمعاني الفلسفية، وفي مقدمتها أشواق الناس إلى الحرية والعدل. أنا أؤمن بالتنوع في الشكل والمضمون، حتى لا أكرر نفسي، ويساعدني في هذا أنني خضت تجارب متنوعة فعلا، وأقرأ في اتجاهات عديدة، فحتى في دراساتي أعبر الأنواع.
4 ـ عملت في شبابك في مهن بسيطة مثل الفلاحة والمعمار كيف كانت هذه التجربة وماذا طبعت على ملامحك الشخصية؟
ـ تعلمت كثيرا من هذه التجارب، علمتني الجلد والمثابرة، وأمدتني بعوالم حافلة بالأنماط البشرية والحكايات والمعاني لا أزال أنهل منها إلى الآن، واشعر بالامتنان الشديد لها، والفخر بها.
5 ـ كتاب “مكان وسط الزحام” هل يعتبر جزءا من السيرة الذاتية؟
ـ من يطالع العنوان الفرعي لهذا الكتاب يدرك ما ركزت عليه في سيرتي، وهو “تجربة ذاتية في عبور الصعاب”، ولذا لم أكن في حاجة إلى الإغراق في تفاصيل لا تهم ما وددت الذهاب إليه. وقد توسلت بالسرد، وقانون تداعي المعاني والحكايات في هذا الكتاب، ونوعت في المضمون وطريقة التناول بين الأقسام الثلاثة للسيرة. وطبعا إن أمتد بي العمر فسأضيف إليها تجارب وخبرات أخرى.
6 ـ هل بالفعل هذا عصر الرواية؟
ـ لا يمكن أن ننكر أن الرواية تعيش أزهى عصورها، لكن الألوان الأدبية الأخرى موجودة ومتحققة، مثل القصة القصيرة والشعر والمسرحية، وأعتقد أن القصة القصيرة، والقصيرة جدا، ستلبي حاجة جيل يفعل كل شيء في سرعة، وهي فنون لا بد أن نحرص على وجودها، ونرعاها، ونضيف إليها.
7 ـ أصدرت كتاب “على خطى نجيب محفوظ”، يرى البعض أن صاحب نوبل حجب جيل كامل من الروائيين وظلمهم، هل تتفق مع ذلك؟
محفوظ نفسه ظُلم في البداية، فقد أنتج كثيرا وسط تجاهل النقاد، وتحدث هو عن هذا ووصفه بأنه كان “ظلما وظلاما” عاش فيه، وكاد يجعله يتوقف عن الكتابة، لكنه ثابر وعاند وجدد وأجاد حتى وصل إلى القمة. كان محفوظ هو البنَّاء الكبير الذي وضع الأرضية لمن يأتي بعده من الروائيين العرب، ويكون من حقهم أن يضيفوا ويتمردوا ويبدعوا الجديد، ويشعروا بالامتنان له لا الغضب منه أو الإدعاء بأنه قد حجب أحدا. فالساحة مفتوحة للجميع، وأعتقد أن الرواية المصرية والعربية أضافت إلى إرث محفوظ الكثير.
8 ـ بعد التحولات الاجتماعية والسياسية التي حدثت في السنوات الأخيرة ، هل تغيرت وظيفة الأدب؟
ـ وظيفة الأدب مستمرة، فهو منذ بداياته يعمل على “تغيير العالم” على مهل. وهو في هذا لا يبالغ في مهمته، ولا يزعم أنه يقارع أهل القرار السياسي والثروة في قدرتهم على التغيير، فهو يغير بطريقة غير مباشرة، حين يساعد الإنسان على أن يعي الأمور بعمق، ويسهم في بناء رؤية حقيقية للذات والمجتمع والعالم والأشياء والمعاني والرموز، ووقتها يمكن للفرد أن يقرر الانحياز إلى الأفضل والأنجع، ومن هنا يأتي دور الأدب في التغيير.
9 ـ بعد تطور التقنية وطوفان المعلومات، وظهور الإنترنت ، كيف تواكب الثقافة العربية التقليدية التطور؟
ـ عليها أن تجدد نفسها، في المضمون والشكل، فتستجيب لحاجة الواقع، ليس للنزول إليه والخضوع له، إنما للأخذ بيده إلى أفاق من الحرية والعدل والنهضة والتقدم واستقلال القرار أو تمكنه، وعليها أيضا أن ترى ما يذهب إليه الشكل الذي تٌقدم به الثقافة إلى الناس في عصر الثورة التقنية وتحول العالم إلى غرفة صغيرة، وميل الجيل الجديد إلى أدوات وطرق مختلفة في تلقي الثقافة والتفاعل معها.
10 ـ ترجمت بعض أعمالك الأدبية والعلمية إلى لغات أجنبية، وهنا أقول لك: رغم التاريخ الثقافي العربي، برأيك لماذا فشل الأدب العربي في الوصول إلى العالمية؟
ـ إبتداء فنحن نتوهم في أن العالمية تعني اعتراف الغرب بنا، مع أن العالم أوسع من هذا. والثقافة العربية ساهمت منذ زمن بعيد في تشكيل الحضارة الإنسانية، وبعض رواسبها لا تزال سارية وجارية في عروق الحضارة الحديثة. أما الأدب فنحن للأسف أبتلينا بترجمات لا تعبر عن قوة ومكانة وتنوع مضامين واتجاهات الأدب العربي، فالمترجمون يذهبون إلى الأدب الذي يكرس الصورة النمطية للغرب عن العرب أو إلي الأعمال المكتوبة بلغة بسيطة بل ركيكية أحيانا حتى تسهل ترجمتها، ويتم التعامل مع آدابنا من باب الاستشراق ودور الأدب في التعبير عن حال المجتمع أو “علم اجتماع الأدب”. وهذا يظلم الأدب العربي كثيرا، مع أن العالم العربي حافل بأدباء كبار، منهم من يستحقون نوبل نفسها، بل منهم من يتفوق على بعض حائزيها.
11 ـ البعض يرى أن العمل الثقافي لا يجب أن يقتصر الانشغال به على الجهات الرسمية، وأنه دور على الجميع المشاركة فيه، فما رأيك؟
أنا من المؤمنين بضرورة وجود دور كبير للمجتمع المدني والوجهاء وأصحاب الثروات في تعزيز الثقافة، شرط ألا تخضع لمصالحهم الضيقة. فالثقافة إن وضعت في يد الدولة وحدها، ستكون في حقيقة الأمر في يد السلطة، والأخيرة ستستعملها بما يحقق منافعها. الدولة عليها دور لا شك، لكن ليست وحدها. المهم أن يكون الفعل الثقافي مستقلا ولصالح الناس.