كريمة أحداد: تعلّمت الحكي من النساء البسيطات

كريمة أحداد
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حاورها: رضوان بن شيكار

تقف هذه السلسلة من الحوارات كل اسبوع مع مبدع أو فنان أو فاعل في إحدى المجالات الحيوية في اسئلة سريعة ومقتضبة حول انشغالاته وجديد انتاجه وبعض الجوانب المتعلقة بشخصيته وعوالمه الخاصة.
ضيفة حلقة الأسبوع الكاتبة والإعلامية كريمة احداد المقيمة في إسطنبول
1.كيف تعرّفين نفسكِ للقراء في سطرين؟
إنسانةٌ تنظر إلى العالم بفضول كبير. أحبّ الخوضَ في التفاصيل المهمشة والمنسية عبر فنّ الحكي، وأؤمن أن الأدب خُلِق ليطرح الأسئلة، ليزعِج، لا ليُمتِع فقط.
2.ماذا تقرئين الآن؟ وما هو أجملُ كِتابٍ قرأته؟
أقرأ حالياً ثلاثة كُتبٍ بالتوازي: “في الرواية ومسائل أخرى”، لإميل زولا، ورواية “اسم الوردة” لأمبرتو إيكو، ويوميات سوزان سونتاغ “ولادة ثانية”.
3.متى بدأتِ الكتابة؟ ولماذا تكتُبين؟
بدأتُ الكتابة في سنّ مبكرة جداً. كنتُ في العاشرة أو أكبر بقليل حين وجدتُني أوّل مرّةٍ أفكّرُ في خلقِ عالمٍ ما. أمسكت ورقةً وقلماً، وصعدتُ إلى سطح بيتنا باحثة عن الهدوء والعزلة، ورحتُ أخلق شخصية خيالية، أصِفُ شكلَها ومشاعرها وأتحدّث عن قصتها. أذكُر جيداً أنني سمَيتُها نورا. بعد ذلك، أصبحتُ أقتني دفاتِر إضافية مع كلّ بداية عامٍ دراسي، وبدأتُ أكتُب قصصاً أطول. ما زلتُ أحتفظ بتلك الدفاتر في بيتنا في الحسيمة.
أظنّ أنّ الجوابَ على سؤال “لماذا أكتُب” معقّدٌ قليلاً، وتتداخل فيه عواملُ كثيرة. لقد عشتُ طفولتي في كنفِ عائلةٍ كبيرة، ونشأتُ في منطقةٍ تنتمي رسمياً إلى المدينة، لكنّها كانت ما تزال تحتفظ ببعضِ مواصفاتِ البادية، حيث تزورُ الجاراتُ بعضهنّ بعضاً، وتقضي نسوة العائلة كثيراً من الوقت معاً. كنتُ أجلِسُ معهنّ وأنصِتُ إلى أحاديثهنّ وقصصهنّ مسحورةً بتلكَ العوالم التي يتحدّثن عنها، متتبّعةً مسارَاتِ “الشخصياتِ” التي يسردن قصصها، متشوّقةً للتعرّف إلى مصائرِها، ومنتبهةً إلى أدقّ التفاصيل التي أدّت إلى هذه النهاية أو تلك.
باختصار، تعلّمت الحكي من النساء البسيطات، من جدّتي ومن أمي ومن خالتي وعمّاتي وجاراتنا القديمات. ربّما لهذا أميلُ إلى الواقعية الأدبية الملفوفةِ في ثوبٍ خيالي.
بالإضافة إلى ذلك، قضيتُ مراهقتي بين الكتب. كنتُ أستعيرها من المكتبات العامّة، وأمضي معظم وقتي في القراءة. ألهمتني قراأتي الكثيرة في الأدب والفكر وعلمَي الاجتماع والنفس، وغذّت فضولي تجاه النفس البشرية وتعقيداتِها، ولم أجِد طريقةً لفهم نفسي والآخر والعالم المحيط بي أفضل من الكتابة.
4.ما هي المدينة التي تسكنك ويجتاحك الحنين للتسكع في أزقتها وبين دروبها؟
إسطنبول، بشوارعها الكبيرة وأزقتها الضيّقة، بأبنيتها التاريخية العتيقة، ومآذنها، وحرّيتها، وقططها، وروحها. بذلك المزيج المذهل فيها بين الشرق والغرب. عِشتُ في الحسيمة والرباط وطنجة والدار البيضاء وباريس وبون، لكنْ، لم أجد مدينةً تضاهي في جمالها وإلهامها إسطنبول.
5.هل أنتِ راضية على إنتاجاتك؟
لا أظنّ أن هناك كاتباً راضياً تماماً عن كتاباته. حتى العظماء من الأدباء كانوا دائماً يشعرون بالقلق والشكّ إزاء أعمالهم، خاصةً في لحظاتِ الخلق والكتابة، ويمضون سنواتٍ بكاملها وهم يبذلون جهداً كبيراً لصقلِ أعمالهم، يحذفون مقاطعَ بكاملها، ويعيدون صياغةَ الجُمَل، ويكتبون مِن جديد فقراتٍ معيّنة، ويتحققون من الأشياء والمعلوماتِ التي كتبوها، ويبحثون عن المفردات الدقيقة التي توصل المعنى المضبوط… حتى فلوبير نفسه كان مسكوناً بهاجس الكمال، وكان حين ينتهي من كتابةِ مقطعٍ ما، يعود ويتناوله من جديد، وكان هذا يأخذ منه أسبوعين أو ثلاثة، وأحياناً أكثر، ويقرأ عشراتِ الكتب والمجلّدات، ويعملُ عليها حتى يكثّفها في صفحةٍ واحدة، لأنه كان يرغب في أن تبلغ كتاباتُه كمالها النهائي.
أظنّ أن على الكتّاب أن يكونوا مسكونين بهاجس الكمال ليعطونا أعمالاً أدبيةً جيدة، لأن هذا الهاجسَ يجعلهم يكدّون ويبذلون مجهوداً لتخرج أعمالهم في أحسن صيغةٍ ممكنة. وما الكتابةُ إلا كدٌّ مستمرّ لبلوغ الكمال، ولو أن الكمالَ لا يتحقق أبداً. هذا ما أسعى إليه أيضاً، أن تخرج أعمالي في أحسن صيغةٍ ممكنة. لكنْ، بمجرّد أن يصلَ العملُ إلى المطبعة، أحاول نسيانه وتركَه يسلك طريقه في الحياة لوحدِه. أما بعد النشر، فإنني أتفادى ما أمكن قراءة ما كتبتُه، حتى لا أشعر بالندم لأنني لم أستعمل مفردةً ما بدلَ أخرى!
6.متى ستحرقين أوراقك الإبداعية وتعتزلين الكتابة؟
عندما “يشيب الغراب وتزهر العصا”، كما نقول في الريف. الكتابةُ هي الهواء الذي أتنفّسه، هي صديقتي التي ألجأ إليها في لحظاتِ الوحدة والحزن والاغتراب، هي النور الذي أستضيء به في طريق الحياة المعتم، هي “لُعبتي” المفضّلة التي تسلّيني وتمتِعني وتمنح حياتي معنىً ما. رأسي يضجّ بالحكايات والشخصيات، ولا يمكنني أن أقاوم رغبتي في أن أحكيها للعالم.
7.ما هو العمل الذي تمنّيتِ أن تكوني كاتبته؟
لا أتمنى أن أكون كاتبةَ أعمالِ غيري، لكنني حين أقرأ عملاً يدهشني جمالُه، أتمنى أن أستطيع صياغة ما أريد قوله بشكلٍ جميل ومدهش أيضاً، لكنْ، بأسلوبي الخاصّ. أما الأعمال التي تمنّيتُ أن أكون كاتبَتها فقد كتبتُ بعضها، والبعض الآخر ما يزالُ في رأسي، وأتمنى أن أخرجه في أجمل صيغةٍ ممكنة.
8.هل لكِ طقوس خاصة في الكتابة؟
لا أحتاج أيّ طقوس لأستحضر الكتابة. حين أكون بصدد العملِ على مشروعٍ روائي ما، قد تداهمني الأفكار وأنا في الباص أو الميترو أو المكتب أو حتى وأنا أمشي في الشارع أو أطبخ أو أغسل الأواني، حينها، أتركُ كلّ شيء، وأسرع في تدوين تلك الأفكار حتى لا تنفلت مني.
لكنّ الوقت الذي أفضل الكتابة فيه، هو الصباح الباكر، وبالضبط السادسة صباحاً، حين يكون الناس نياماً، والشارعُ الذي أفتح عليه نافذتي خاوياً وساكناً. أعِدّ قهوتي وأفتحُ الحاسوب وأشرعُ في الكتابة.
9ـ ماذا يعني لك العيش في عزلة إجبارية وربما حرية أقل؟ وهل العزلة قيدٌ أم حرية بالنسبة للكاتب؟
لا أظنّ أن جميع الكتّاب في العالم يفضّلون العزلة، والعزلةُ ليست شرطاً للكتابة! هناكَ من الكتّاب مَن لا يأتيه الإلهام إلا إذا كان في مكانٍ غاصٍّ بالبشر. شخصياً، أفضّل العزلة حين أكتب، لكنّها ليست عزلةً إجبارية، وهذا لا يعني أيضاً أنني أظلّ منعزلةٌ طول الوقتِ في البيت. الأدباء لديهم حياتهم العادية مثلَ جميع الناس، يذهبون إلى السوبرماركت، ويلتقون أصدقاءهم، ويزورون عائلاتهم، ويُخرجون أكياسَ القمامة. في النهاية، الكاتبُ يستمدّ مادّته من الحياةِ من حوله، ومن الناس الذين يراهم، ومن الحكاياتِ التي يسمعها.
10ـ شخصيةٌ من الماضي ترغبين في لقائها؟ ولماذا؟
هناكَ أدباء كثيرون تمنّيتُ لو أنهم ما زالوا على قيد الحياة لأستطيع لقاءهم، منهم نجيب محفوظ، إميل زولا، فيرجينيا وولف وسوزان سونتاغ… كنتُ أتمنى لو أستطيع لقاءهم، لأنني قرأتهم وأذهلتني كتاباتهم ومواقفهم وحياتهم ومعرفتهم، وأعرِف أنّ مقابلةً واحدة مع واحدٍ منهم، ستمدّني بالإلهام الذي سيكفيني لأكتُب طيلة حياتي.
11.ماذا كنتِ ستغيرين في حياتك لو أتيحت لك فرصة البدء من جديد، ولماذا؟
لا شيءَ على الإطلاق. عندما أنظر الآن إلى حياتي التي مضت، بانكساراتِها وآلامها وأخطائها وانتصاراتها الصغيرة وأحلامها، لا أشعر بالندم على أيّ شيء اخترتُه، ولا بالحسرةِ على شيءٍ لم أختره، لأن كلّ خيارٍ قمتُ به جعلني أتعرّف على نفسي أكثر، وأكتشفُ في كلّ مرةٍ جانباً مني، صفةً، جرحاً، نقطةَ قوة. أما ما لم أختره، فقد علّمني النهوض والقوة والشجاعة وعدم الاستسلام.
12.ماذا يبقى حين نفقد الأشياء، الذكرياتُ أم الفراغ؟
نتعلّم الاستعداد للفقدِ من جديد.
13.صياغة الآداب لا تأتي من فراغ، بل لا بدّ من وجود محركاتٍ زمانية ومكانية. حدثينا عن روايتك “حلم تركي”. كيف كُتِبت؟ وفي أي ظرف؟
كنتُ قد انتقلتُ منذ بضعة أشهر إلى إسطنبول، حين بدأتُ التفكير في روايةٍ عن الحُلم التركي تدور أحداثُها في هذه المدينة الساحرة. كنتُ أعملُ في الصحافة، بدوام عملٍ كامل يبدأ في الثامنة صباحاً ولا ينتهي حتى السادسة مساءً، وكنتُ مضطرّةً للكتابة بعد انتهاء الدوام، بالرغمِ من التعب والإرهاق. تخلّيتُ عن كلّ المُتَع وعن الاستراحة التي كنتُ أحظى بها في نهاية الأسبوع، وصرتُ أعملُ كثيراً، في الصباح قبل أن أذهب إلى العمل، وفي المساء بعد العودة منه، وطيلة النهار خلالَ عطلة نهاية الأسبوع.
لم تأتِ كتابة روايةٍ عن الحلم التركي من فراغ، فقد قُدّر لي العيش في إسطنبول في زمنٍ تحوّلت فيه تركيا إلى حلم لدى كثيرين في بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، منهم من صعُبَ عليه الإمساكُ بالحلمين الأوروبي والأمريكي، فاتخذ تركيا منطقة عبورٍ لا غير، ومنهم من أبهرته الصورة التخييلية التي خلقتها المسلسلات التركية الرومانسية والتاريخية التي غزت هذه البلدان منذ دبلجة أول مسلسلٍ تركيّ إلى العربية عام 2008. ثمّ هناكَ حكاياتٌ كثيرة وساحرة ومتنوعة لمَن اختاروا أو اضطروا للعيش في إسطنبول، وهناك افتتانٌ مثير للتساؤل بكلّ ما له علاقةٌ بتركيا وتاريخها وثقافتِها ومنتوجاتِها… هناكَ أيضاً تيمةُ الحبّ، لارتباطِها الوثيق بهذا الحُلم، عالجتُها من خلال قصّةِ الشخصيتين الرئيسيتين في الرواية، وهما زوجان مغربيان ينتقلان إلى إسطنبول لإنقاذ حياتهما الزوجية الآيلة للسقوط وما تبقى من حبّهما. تطرحُ الرواية أسئلةً عن الحبّ والعلاقات، لكنْ، ليس عن الحبّ كما عرفناه بشكله الرومانسي الذي ينتهي نهايةً سعيدة، بل بشكله الواقعي، المليء بالجروح والنقائص والانتظارات والإحباطات.
هكذا وُلِدت حلمٌ تركيّ لتتحدّث عن كلّ هذا، في قالبٍ أدبي، محتشدٍ بالقصص، متدفّق وحرّ.
14. إلى ماذا تحتاج المرأة في مجتمعاتنا لتصل إلى مرحلة المساواة مع الرجل في مجتمعاتنا الذكورية بامتياز. إلى دهاء وحكمة بلقيس أم إلى جرأة وشجاعة نوال السعداوي؟
الحيلةُ والدهاء اللذان نجدهما عند بعض النساء في مجتمعاتنا، ليسا إلا نتيجةً لهذه الذكورية نفسِها. الحيلةُ هي أن تلجأ المرأةُ، بسبب الضغوط المجتمعية، إلى طرقٍ ملتوية لتحصل على ما تريده وتعيشَ حياتها بالشكل الذي تريده دون أن تتواجه مع المجتمع. أما تحقيق المساواة فيتطلّبُ وضوحاً في المواقف، انسجاماً بين القول والفعل، جرأةً وشجاعةً ونضالاً منظّماً بأهدافٍ واضحة، وخلخلةً للقيم المجتمعية التي تمنح الأفضلية للرجال. وإلا فكيف يمكن أن تتحقق المساواة بطرق تكرّس الذكورية وتهادن ضغوطَ المجتمع على النساء؟
15. كيف ترين تجربة النشر على مواقع التواصل الاجتماعي؟
سأستعير مقولةً لأمبرتو إيكو في هذا الخصوص أرجو تأمّلها جيداً، لأنها تلخّص الوضع كلّه: “أدواتٌ مثل تويتر وفيسبوك منحت حقّ الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلّمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بضرر للمجتمع، وكان يتمّ إسكاتهم فوراً، أما الآن فلهم الحقّ في الكلام مثلهم مثلَ من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء”.
طبعاً، لا يمكن تعميم هذه المقولة على الجميع، فهناك دائماً استثناأت. وقد قرأتُ نصوصاً جميلة على مواقع التواصل، سواء لكتّاب وشعراء مكرّسين، أو مِمّن لم يحالفهم الحظّ للنشر بعد، فصارت هذه المنصّاتُ مكاناً لمشاركةِ نصوصهم مع الآخرين.
16. كلمة أخيرة أو شيء ترغبين الحديث عنه
لكلّ قارئٍ نهم، أودّ أن أقول: اقرأوا للنساء أكثر. للنساء الكاتبات، للروائيات، للشاعرات، للمفكّرات والفيلسوفات أيضاً. سيقدّمن لكم نظرةً مختلفةً عن العالم، بل سيقدّمن لكم العالمَ من زاوية أخرى، زاويةٌ ظلّت مهمّشة ومقصيةً ومنسية لوقتٍ طويل.

مقالات من نفس القسم