أشرف العشماوي: الكتابة “لعبة” والرواية “كذبة”.. والتاريخ منجم قصص لا ينفد

أشرف العشماوي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حاوره: صبري الموجي

بين “زمن الضِّباع” روايتِه الأولي، التي عَرضَ مسودتها علي الكاتب الكبير أنيس منصور فاندهش لموهبته، وتنبأ بمولد “نجيب محفوظ” جديد، ورواية “البارمان” الحاصلة علي أفضل رواية بمعرض القاهرة الدولي للكتاب عام ٢٠١٤، نشرَ نحو ١٠ روايات حصد معظمُها جوائز، ونال بعضُها شرف الترجمة للغات أجنبية. رُشحت روايته “تويا” للقائمة الطويلة للجائزة العالمية (البوكر)، وفازت روايتُه “كلاب الراعي” بجائزة أفضل رواية تاريخية، ووصلت مؤخرا روايتُه “الجمعية السرية للمواطنين” للقائمة القصيرة لجائزة “كتارا” للرواية العربية.

مع الروائي أشرف العشماوي، حاصد الجوائز، صاحب أعلي نسبة مبيعات، والذي يري بتواضع الفنان أنه “محظوظٌ” جماهيريا ونقديا هذا الحوار.

بدأت ككاتب مقال وصاحب رأي بالصحف وتأخرت في نشر رواياتك.. حدثنا عن أسباب التأخر ودوافع النشر؟

بداياتي في الكتابة الروائية والقصصية كانت في التسعينيات دون أي محاولة للنشر، لا أحد يقرأ لي سوى عائلتي الصغيرة وأمي وفي منتصف الألفية، بدأت في كتابة مقالات بالصحف والدوريات العلمية المعنية بالآثار والقوانين، وكانت فترة مُمتعة بالنسبة لي، لكن ظل حلم الرواية يراودني فكنتُ أكتب مسودات لروايات، ولا أُقدمها لناشرين والسبب هو خوفي من القارئ، فكنتُ أتساءل: هل لديّ ما أقدمه للقراء؟ هل أنا أُجيد كتابة رواية؟ هل أفكاري تستحقُ أن تُحكى؟ كيف سيستقبل الناسُ ما كتبت؟ وكلها أسئلة بلا إجابات مما جعلني أكتبُ وأدفنُ ما أكتبُه في درج مكتبي، ثم تشجعت مرة بعدما تشبعتُ من الكتابة، وأصبحت أتوق للنشر، فكنت أريد أن يرى الناس ما كتبت، ويقولون أي شيء عنه، المهم أن أصل لهم، وشعرتُ وقتها بأنني لو لم أنشر سأتوقف عن الكتابة وهو أمرٌ أزعجني، فتشجعتُ لما جمعتني الصدفة بالكاتب الكبير أنيس منصور، وقدمت له مسودة رواية فشجعني وقدمها لثلاثة ناشرين، وكتب عني مقالا بعدها، وقتها شعرت بميلاد جديد لي خاصة أن إحدى أهم دور النشر تحمست للغاية لمسودات الروايات التي عندي، وشعرت بأنني وقفت على بداية الطريق، لكنَّ خوفي من القراء لا يزال مصاحبا لي ليومنا هذا، وبالعكس يتزايد مع كل نجاح أحققه بصورة مرهقة نفسيا .

قلت إن “القصديَّة ضد الفن” فهل أفكار رواياتك تأتي عفو الخاطر؟

قصدت بهذه المقولة أنني لا أذهبُ للفكرة، وإنما أنتظرُها وأترُكها تختمر أيضا، هي بالفعل ترد لذهني عفو الخاطر، فأنا محظوظٌ إلى حد كبير والحمد لله، وعلى سبيل المثال.. القصدية أن تقرر كتابة رواية عن اليهود المصريين مثلا، والفن أن تأتي لك فكرةٌ المزاد وتشابهه مع الحياة في نواح كثيرة، فتكتب عن اليهود المصريين الذين سيطروا على صالات مزادات مصر منذ بداية القرن العشرين حتى منتصفه.. هذا هو الفارق.

يعتبر المبدعون الكتابة أشغالا شاقة وتعتبرها لعبة.. تصريحك السابق يُعبر عن ثقتك بنفسك أم عن ماذا؟

الحقيقة أن الكتابة الروائية والقصصية هوايتي الأثيرة، وأرى أن الكتابة حياة، وبالتالي أنا أستمتعُ جدا بخلق شخصيات وعوالم وتحريك الأبطال فيها في إطار زمني مُحدد مع حبكة درامية ومشهدية عالية، وبعض التشويق حتي لا يمل القارئ خاصة أنني أكتبُ روايات طويلة نسبيا، فالكتابة لعبة لكننا نلعبها بمنتهى الجدية، والرواية كذبة ومع ذلك نرويها بمنتهى الصدق لتدلنا إلى الحقيقة. أما الأشغال الشاقة ففي رأيي هي مرحلةُ المراجعات التي قد تكون على مدار شهور طويلة ولعدة مسودات، ففكرة الحذف والتجويد والتعديل والإضافات مرهقة ومُتعبة بالفعل، أما ما قبلها فهو اللعبة المُمتعة.

رواياتك نصفها حصد جوائز والنصف الآخر تُرجم للعديد من اللغات بدول كثيرة ورغما عن ذلك فهي بعيدة عن شاشات العرض الصغرى والكبرى.. ما تفسيرك لهذا الأمر؟

عندما أكتب لا أفكر في سينما أو تليفزيون، ولو سألتني عن رأيي فأنا أحبُ أن تتحول أعمالي إلى الإذاعة، وسأكون سعيدا بسماعها كحلقات درامية، أنا أفرح بالجوائز ولا أنتظرها، وأسعدُ أكثر بالترجمة،  وأسعى إليها لأنها تحقيقٌ لحلمي وطموحي بالوصول لكل قارئ في أي مكان بلغات عديدة، أما التحويل الدرامي فربما السؤال يناسب شركات الإنتاج والقائمين على السينما والدراما التليفزيونية أكثر مني لأنَّ من المدهش أن جميع رواياتي بيعت لشركات بالفعل، ولم تظهر واحدة للنور، وكل عام تتناثر أخبار عن إحداها وأنباء عن تعاقدات مع مخرجين وممثلين ومواعيد لبدء التصوير ثم لا شيء بعدها . لذا فأنا منذ فترة لم أعد أنتظر حدوث أي شيء ولا تفسير منطقيا لدي لأني في الواقع لا أتعامل مع شركات الإنتاج مباشرة، وإنما من خلال وكيلي الأدبي بحكم مهنتي وحساسيتها، وبالتالي لا توجد عندي إجابة يقينية.

زمن الضباع” روايتك الأولى رواية رمزية بها إسقاط سياسي فهل وراء رمزيتها وتاريخ نشرها هدف قصدَه العشماوي؟

لا يوجد روائي يكتب رواية رمزية بدون هدف، لكن في أغلب الأحيان لا يحب أن يقوله ويُفضل أن يتركه لفطنة القارئ. أنا كتبتُ الرواية متأثرا بـ”جورج أورويل” كاتبي المفضل عالميا وروايته “مزرعة الحيوانات” لكني بالطبع كتبتُ عن عالم خيالي في غابة مجهولة ثم قمتُ بتأنيس الحيوانات في روايتي كي تصبح مثل الإنسان في كل تصرفاتها من واقع مشاهدات كثيرة في حياتي، وسأروي لك سرا ربما أقوله لأول مرة، أنا لم أكن راغبا في أن تكون تلك هي روايتي الأولى التي يتعرف بها القراء عليَّ ككاتب، وكنتُ أتمنى أن أقدم لهم رواية مثل “البارمان ” أو ” تويا “، وكانت لدي الأفكار الأساسية لرواية “بيت القبطية” وقتها وكان ممكنا العملُ عليها والانتهاء منها، لكن ناشري اختار الرواية التي أعجبتْ الأستاذ أنيس منصور، وهي “زمن الضباع”،  وقرر البدء بها.

فكرة التنبؤ بثورة يناير لم تكن في بالي بالطبع وقت الكتابة، لكن فكرة الرواية تتحدث عن أنَّ كلا منا بداخله أسدٌ كامن ينتظر لحظة للخروج، وهذه اللحظة حانت في الرواية بعد تأزم الأوضاع لحد الاستحالة، وخرج الأسد بعدما تأخر خروجه لسنوات طالت، ولأنها نشرت في ديسمبر 2010، أحال البعض الأمر الى أن الرمزية والإسقاط السياسي بها مقصودان في هذا التوقيت، هذا شرفٌ لا أدعيه، لكن أنا غالبا محظوظ كما قلت لك، وتاريخ النشر الذي حدده ناشري وموضوع الرواية التي اختارها، خدماني من حيث النقد الأدبي  والاهتمام الصحفي والإعلامي الذي حظيت به تلك الرواية .

البارمان” أحد أعمالك الروائية التي كشفت فيها زيف الخمر في تحقيق النشوة الكاذبة وكذب رجال السياسة وغيرهم بوعودهم المعسولة.. ألم تخف من أن تفتح عليك صراحتك “عش الدبابير”؟

الرواية فنٌ، والفن لا يحتمل نصف فكرة أو فكرة مبتورة أو مُجتزأة أو مائعة، الفن جرأة ومجاهرة وشجاعة، ميزة الرجوع بالزمن أنك تكتسب مساحة أوسع من حرية الكتابة كي تقول كل ما تريد عن زمن حدث، لكن لابد أن تحرص على أن تعيش روايتك تلك لأزمنة أخرى تقرأ فيها وكأنها طازجة ابنة اليوم وابنة العصر هذا هو الفن الحقيقي، والحقيقة أنني لو شعرت بالخوف فلن أكتب كما كتبت، لكن من الفن، ومن الفطنة أيضا ألا يكون صوتك عاليا في الكتابة، وأن تجيد التخفي وراء الشخصيات، وتصنع حبكة قوية لا تفتح عليك “عش دبابير” بسهولة بل تجعل الدبابير تهاجم من يفكر في منع روايتك، وفي ظني أنَّ القارئ هو المحامي الأول عن الكاتب، وهو الذي يدافع عنه ضد أي هجوم غاشم، وأنا أكتب للقارئ فقط لا لناقد أو لجائزة أو لتملق أحد، ولديَّ قاعدة جماهيرية من قراء أعتز بهم جدا، وأحترم عقولهم، وأنتقي ما أكتب من أجلهم وبالتالي لا أشعر بأي خوف مع وجودهم بجواري.

المرشد” رواية تكشف شبهة تآمر الإرهاب مع سرقة التراث الأثري في إسقاط البلد وإغراقها، تزامن نشرها مع حراك سياسي مُلتهب فماذا قصدت من ورائها ؟

المرشد ظهرت في يناير عام   2013،  وكنت كتبتُ أغلب فصولها منذ عام 2004، لكن في عام 2012 وقبل نشرها بشهور أضفت لها فصلا أخيرا، وقمت بإعادة كتابة بعض مشاهد أخرى وعدلتُ فيها بما يُناسب الحراك السياسي في مصر وقتها، بلدنا كادت تضيع عام 2012وكنت قلقا مثل غيري ودوري ككاتب أن أكتب وأنبه، ولأني لا أجيد سوى كتابة الرواية ففعلت، وأتفق معي ناشري في أنَّ توقيتها مناسب جدا، ولاقت وقتها نجاحا كبيرا وحصدتْ جائزة جماهيرية، لكن إذا ما عدنا لسؤالك عن القصدية والفن أقول لك بمنتهى الصراحة إن الفصل والمشاهد التي أضفتها كان بها قدر من المباشرة والقصدية وهو ما لا أحبه ولا يصح روائيا، لكن الظرف السياسي جعلني أفعل ذلك، هذا ليس عذرا ولا ينفي القصدية ، لكني مدركُ الخطأ وعلى الأقل لم أكرره مرة ثانية.

رواياتك واقعية ومُستقاة أحيانا من التاريخ فهل قصدت بولوج ساحة التاريخ “التَّقية” أم ماذا؟

لا يمكن لأي روائي في العالم إغفال التاريخ، التاريخ أشبه بصندوق أسود لكل ما جرى، لكن يوجد به حذف هنا، وقطعٌ هناك وإخفاء مُتعمد أحيانا لبعض ما حدث، وعلى الروائي استكمالُ الناقص بخياله، ونقل رؤيته وفكره عبر إعادة حكي ما جرى لعل غيره يقرأ ويبحث عن مصادر تاريخية موثوق بها، فيعرف الحقيقة أو بعضا منها، فالرواية بكل الأحوال ليست مرجعا تاريخيا، لكن كون التاريخ يُعيد نفسه فهي فكرة في حد ذاتها تمثل دراما هائلة وتخلق في خيال أي كاتب عشرات القصص، التاريخ ملهمٌ ومُعلم ومنجم قصص وأفكار لروايات أظن أنها ستعيش أطول من أعمار كاتبها، والكثير من قرائه، ومن الإنصاف الاعتراف بأنَّ أغلب الروائيين في العالم العربي لا يعودون للتاريخ مجانا، إنما كي يمرروا بعض الأفكار التي تحتاج لبعض التورية، كي تكسبها مزيدا من البريق من خلال المفارقة.

هذا النجاح قطعا وراءه مساعدون وعوامل دهشة نود معرفتها؟

في الحياة يُدهشني المهمشون بحكايتهم وعالمهم، يدهشني أصحاب المهن الغريبة وغير المألوفة، يدهشني سلوكُ الحيوانات، وكنتُ زائرا دائما لحديقة الجيزة لسنوات طويلة، وفي الفن يدهشني المُفتتح القوي لأي عمل فني، وبداية شغفي ودهشتي بالفن القصصي والروائي من أمي، فهي أحد الذين كانوا سببا في أن يكون اسمي مسبوقا اليوم بالروائي أشرف العشماوي، أمي صاحبة الفضل الأول في تشجيعها لي على القراءة، وكانت تتبادل معي الكتب، وتكافئني بكتب وصارت أول قارئة لمسودات رواياتي حتى رحيلها – رحمها الله – ثم يأتي أبي بعدها، والذي ساعدني على أن أكون قارئا نوعيا في مرحلة مبكرة من عمري من خلال مكتبته وحديثه عن الكتب، ثم تشجيع زوجتي لي على النشر كل هؤلاء ساعدوني في البداية، واقتنعوا بما أكتب، ومن بعدهم جاء ناشري محمد رشاد الذي وثقَ في كتاباتي،  وتحمس لها فوق ما أتخيل، ثم الكاتب الكبير إبراهيم عبد المجيد ومكاوي سعيد ومن قبلهما المبدع أنيس منصور، فهم جميعا أصحاب الدفعة الأولى التي كنت أحتاجها بشدة، ثم في مرحلة تالية جاء العظيم خيري شلبي الذي وجهني لاستثمار موهبة الحكي عندي، وتزامن ذلك مع دور الناقد الكبير الدكتور صلاح فضل في مسيرتي وكتابته عني سواء مقالات أو فصولا في كتبه، واقتناعه بأن لي مدرسة خاصة في الكتابة المشهدية، هؤلاء لهم أياد بيضاء في مسيرتي وبداياتي وأسهموا كثيرا جدا في أن يكون لي اسم ومكانة مقبولة في عالم الأدب العربي اليوم .

نجاحك كروائي يفرض علينا أن نسألك عن معايير العمل الروائي الجيد؟

لا أميل لتقديم نصائح ككاتب، لذلك فسأتحدث من كوني قارئا في الأساس، فأنا أرى الرواية جيدة إذا أدهشتني، وإذا جذبتني من المُفتََتح أو الصفحات الأولى، وإذا كانت خالية من التقرير والمباشرة، واذا كانت مراوغة تطرح أسئلة ولا تقدم إجابات واضحة، وإذا كانت لغتها عذبة وسلسة وإذا حوت القدر المناسب من التشويق والمشهدية، وفي النهاية إذا كانت مُكثفة بلا تطويل حتى ولو كانت 600 صفحة.. المهم أ ن تكون جاذبة، بحيث أشعر بالحزن اذا ما انتهيت منها، وكأنني أفتقد جلسة مع صديق عزيز.

مقالات من نفس القسم