ياسمين مجدي
تحمل بعض قصص سمير الفيل نكهة الأفلام القصيرة، باعتمادها على لقطات بصرية، لنجد الأستاذ ميشيل في القصة الأولى يقف أمام “النياشين الموضوعة في دولاب زجاجي كبير… والأوشحة قد ذهب بهاؤها، فصارت أقرب للملابس القديمة المصفرة بفعل الزمن”، فتصنع الجمل مشهدًا بصريًا دالًا على مضي الزمن بميشيل ووحدته.
يمثل هذا دورًا معاصرًا منتظرًا من القصة القصيرة كي تصبح نواةً لفنون العصر، خاصة الفنون المرئية أو الأفلام القصيرة. في “أرصفة قديمة” لسمير الفيل، تتكرر الحركة المشهدية فالولد الذي يطالب بمعاش أمه، يتحسس “ملابسها المعلقة في الدولاب بقدر من الأسى والشجن”، لتتقاطع بذلك الأحداث مع المشاعر والمفردات البصرية.
تمتلك مجموعة “أرصفة قديمة” عددًا من العناوين المثيرة للتساؤل، مثل: منحه الترتر، كشك خشبي، تصريح ميم، خل وجمل، معضلة النملة.
قدمت المجموعة نصوصًا نفسية، وغرائبية، وإن غلب عليها النصوص الاجتماعية، وتراوحت بين الحكايات اللافتة فنيًا كامرأة تبيع البخور الهندي ومن يشترونه يرغبون في الانتحار، أو الحكايات العادية، مثل: الخلاف على ميراث أو شاب يشرب الخمر لشعوره بالفشل.
تُعتبر “أرصفة قديمة” كتابه شخصيات في المقام الأول، فالحضور في كل نص لبطل أساسي وشخص مميز، مثل: عم شطا وأستاذ ميشيل، وآخرين. وتنوعت أجواء القصص، فكل قصة لها عالم يتسم بالفرادة عن غيرها، وهو تنوع يُحسب للمجموعة، خاصة مع كتابتها خلال أيام معدودة، قدم فيها المؤلف نصوصًا من مساحات مختلفة، كالسيرك، والسوق، والصيدلية، والمخزن، ومناطق غرائبية.
يلقي عدد من الأبطال نظرة على حياتهم الماضية، منهم من يراجع زيجاته، أو يشعر بوحدته أو يتأكد إذا كانت اختيارات حياته تستحق ما دفعه لأجلها، فأحدهم يقابل حبيبة قديمة، أو يسترجع فوزه القديم في بطولة ملاكمة، أو يتذكر أسباب فشله في الزواج، أو شخص يراجع أسباب انتحاره في نص عذب، أو من أنهى فترة سجنه ويحاول البدء من جديد. ويلخص حكمة تلك النصوص “محنة ترتر”، فالبطل يُطرد من الجنة، يقف وحيدًا، ويبحث عن التأكد من يقين اختياراته، ويدخل رحلة طويلة يتألم فيها، لعله ينال الترتر الذي ومض في وسط الرحلة وميضًا مفاجئًا، فهو إغواء دخول معركة الحياة الذي يدفع الأبطال ثمنه.
ويقوم المؤلف نفسه باسترجاع الماضي، حين يسترجع شخصية فلفل من مجموعة قصصية قديمة صادرة له، غير أنه يُحدث تحولًا في نهاية القصة، ليصبح الراوي هو نفسه فلفل، مستخدمًا تقنية التويست. واستدعاء شخصية قصصية يعكس قيام المؤلف نفسه بالنظر إلى ماضيه السردي، كما يفعل أبطاله في القصص. وعلى الجانب الآخر يستدعي ماضي دمياط، فيكتب قصة “موسم الشتاء” عن مدينة دمياط في ستينيات القرن الماضي.
يتعرض الأبطال للسحق الاجتماعي أو الظلم أو الاستغلال الاقتصادي أو يطمح أحدهم لمقابلة مسؤول يموت دون لقائه. وتخرج بعض المفردات من لغة الحياة، فيقول أن وجه الطفل “مثل نواة البلح الأبريمي، لا ينطق وجهه بالشقاوة.”
النساء شريكات الرحلة، يجعلونها أهون، حسب ما ورد بأحد النصوص: “الأنثى يمكنها أن تخفف عني شعوري بالشقاء”، وسيفقد بطل قصة أخرى في الرهان ما يملك، سيفقد أثمن شيء، زوجته ليلى لصالح رجل غريب كسب الرهان.
تظهر ملامح المكان وبصمة جغرافيا دمياط في القصص، من خلال أماكن مثل: شارع العرصة، ومقهى شاهيند وعائله الأبجر، وسوق الحسبة، وسوق البلح، وحارة النفيس.
جاءت بعض النهايات غير موفقة، فبطل الأكروبات يقول لزوجته: “سأكون الى جوارك الليلة على السرير”، ليعكس رغبته في إنجاب طفل جديد، وهو ليس التعبير الملائم. وفي نص آخر يعلق البطل عن حكاية سمعها في صيدلية، ويعود إلى بيته صامتًا “بعد سماع الحكاية الغريبة”. على الجانب الآخر جاءت نهايات فنية وجميلة، مثل الرجل الذي مات وهو يحاول مقابلة مسؤول وقد وصل الى ما يرغب، ليتركنا المؤلف نتساءل هل الوصول يعني الموت أم محاولة التقدم بالورقة للمسؤول.
كُتبت مجموعة “أرصفة قديمة” في أقل من شهر، حيث دوّن المؤلف تاريخ كتابة كل قصة، فهو يكتب بمعدل كل يوم قصة، وهذه المجموعة كُتبت بشكل متتالي يوميًا، من ٣ يوليو حتى ١٧ يوليو، وهو ما يثير تساؤلات عن الإبداع اليومي، وقدرة المؤلف على التنوع والاختلاف والوصول لجودة فارقة في ظل إنهاء نص كامل يوميًا. لذلك من المدهش أن تحمل المجموعة في عدة أيام هذا التنوع الكبير للعوالم، ربما يعود ذلك، إلى ما ذكره الكاتب سمير الفيل أنه يكتب على المقهى يوميًا، وكل ما يمر في طريقه يكتبه قصة. يبقى أن الكتابة اليومية أيضًا تثير تساؤلات عن المخزون الإنساني والفكري وتكراره أو تذبذب المستوى الفني للنصوص، بسبب ضغط الوقت اليومي.
“أرصفة قديمة” واحدة من ثلاث مجموعات قصصية أصدرها سمير الفيل مطلع ٢٠٢٥، ليواكب ذلك تدفقه في الكتابة. إنه سمير الفيل الشاعر الذي انحاز وتحول إلى كتابة القصة، ولكن حين تقرأ سيرته الذاتية ستكتشف إنه بدأ كاتبًا مسرحيًا للطفل، وقد سجل في السيرة أن أغلب نصوصه تم تمثيلها على مسارح مركز ثقافة الطفل بدءًا من سنة ١٩٧٤، ليسبق ذلك إصداره الشعري الأول عام ١٩٨٢.