أَمْشِي ولا أُبالي

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 22
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

البشير الأزمي

العيون التي تحدِّق فيَّ تُخْفي وراء ابتسامتها شماتةً واضحةً للعيان..

وأنا أمشي ولا أبالي..

أصواتٌ من الخلف تلاحقني..

وأنا أمشي ولا أبالي..

الرجلُ المُسِنُّ الأحدبُ الذي يحدق فيَّ يضحك فتبدو أسنانه المخلَّعة، يخفي فمه بيديه ويتابع مشيه، يضحك دون أن يكون هناك داعٍ للضحك وأنا أمشي ولا أبالي..

أُتابع سيري وأَهمس لنفسي إلى متى سأظل أمشي ولا أبالي..

غبشُ المساء يزحف نحوي وكلُّ شيء في طريقي يَتَوَشَّحُ بالأسْوَدِ.. بأنمُلَيْ سَبَّابتَيَّ أصُدُّ صدى ضحكاتٍ تتسلل إلى أذني. وأبحث عَمَّن يحيطني بعنايته ويغمرني باهتماهه.. أرى الجدران التي كَانت تحميني بدأت تنهار وينهارُ معها أملي في أن يتضاءل هذا الحزنُ ويختفي.. وأستحضر أبي وهو يربت على كتفي ويقول:

” اِمش ولا تبالي.. “

لا أعرفُ سببَ هذا الحزن الذي أوشك أن يُجْهِزَ عليَّ، ولا أعرف إن كان حزناً أو شيئاً آخر لحد الآن لم أستطع فهم كنهه، كما لا أعرفُ سببَ هذا الضحك المجاني لكل من يمر قربي..

عَبْرَ أزقة ضيقة وشوارع مُتْربة، أحفظُ تفاصيلها كما أحفظ اسمي الثلاثي، عدتُ إلى البيت؛ أزقة كنتُ أتحاشى المرور منها من قبلُ. وقفتُ.. ظللتُ، للحظة، أنتظر.. لا أدري ماذا أنتظر.. أنتظر كما ينتظر الفرد موتاً مؤجلاَ.. طال انتظاري ولم يحضر ” جودو”.. خيبةُ الانتظار شَلَّتْ قدميَّ وكَبَّلَتهما..

عدتُ إلي البيت. أبي جالسٌ على كرسي خشبي ذي مسندين يقص أظافر قدميه ويُدَرّمها. راعني منظرُه، في عينيه يُقيمُ الحزنُ.. لم يعد حريصاً على تهذيب لحيته، اقتربتُ منه وأنا في أوج قلقي. حاولت أن أسأله كيف لي أن أمشِي ولا أُبالي.. لكن أحسستُ بكابحٍ يربط لساني. ضَمَّ سبابته إلى طرف الوسطى ثم نقر، كنت مغمض العينين سمعتُ نقره، أعرف أنه عندما ينقر سطح الطاولة يضم سبابته إلى الوسطى. تمنيتُ لو أنه يحدثني عن أسباب ضحكات الاستصغار. كررتُ سؤالي:

” كيف لي أن أمشِي ولا أُبالي..”

لم تنفذ كلماتي إلى عقله وقلبه، أحدسُ أنها لم تصل إلى أذنيه.. فتح عينيه، نظر إليَّ وهو يغالب دموعاَ. بدأ يقبص شفتيه، عندما يقبص شفتيه بأنامله أعرف أنه يفكر في أمر هام أو أنه على وشك أن ينفجر غضباً.. حدقتُ في وجهه وقلت: ” كيف لي أن أمشي ولا أُبالي”  لم يجبني.. ألَمَّ بي وجع… تركته ودخلتُ إلى غرفتي..

في غرفتي قعدتُ وحيداً.. أخذتُ ألبوم الصور، في صورة رأيتني وأنا صغير، صحبة والدي أتعلم ركوب الدراجة الهوائية. تذكرت كنتُ أسير وأسقط، أنهضُ من جديد أركب وأسقط. الأطفال حولي يضحكون، يؤلمني ضحكُهم .. أترك الدراجة الهوائية أرضاً وأشرع في البكاء، يقترب أبي منِّي، ينفض الغبار عن ثيابي.. يربت على كتفي ويقول:” اركب ثانية.. اِمش ولا تبالي.. اِمش ولا تبالي”..

أضعُ ألبوم الصور جانباً، انتعلُ حذائي وأخرج..

  أرفع  رأسي إلى السماء، تلاشى ضوء القمر.. أشعرُ أن أحلامي، بدورها، تتلاشى أمامي.. أصيح بصوت. عالٍ: ” أيها القمر أنت لم تعد قمراً، لقد اغتصبوك[1]“.. وأتابع سيري..

أمشي ولا أبالي..

…………….

[1] – ادريس الخوري، الأعمال الكاملة. منشورات وزارة الثقافة والاتصال 2001

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون