علبة الثقاب

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 46
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد اللطيف النيلة

خُذ فنجان قهوتك، انسل من المشربة حيث صوت التلفاز يصك الآذان، والنزلاء يتبادلون الحديث، وبعضهم يناجي نفسه جهرا، وبعضهم الآخر يلوذ بصمت عميق لا يعبأ بالصخب.. اقصد الحديقة التي استطالت نباتاتها بجنون، اجلس فوق مقعد الخشب العتيق الذي تدلت فوقه أغصان شجرة الخروب، حط بنظرك على الأوراق اليابسة التي تفرش الأرض.. وفيما الشمس تتأهب للغروب ارتشف قهوتك على مهل ودعني أحدثك عن الوحشة.. أحدثك بالأحرى عن رحيل من سكنوا منك الأحشاء، عن هجر الأحبة فلذات الكبد.. شبّوا عن الطوق، ما عادوا صغارا، وطاروا إلى ما يعنيهم من رغبات ومصالح… كانوا في قلب العالم الذي بنيتَه بالحب والصبر على امتداد السنين.. انفلتوا من بين الأصابع على حين غفلة، نأوا مخلفين وجعا غائرا بين الضلوع الواهنة… ما بالي أنكأ الجراح؟

دعني أحدثك فقط عن أشيائك العزيزة، شغفك، مثلا، بعلب الثقاب. هل تستطيع أن تكتم لوعة الفقد التي تحسها تجاه هذه العلب الجميلة التي كانت تسمى “رْبيعة لوقيد”؟

كنت مولعا بجمعها، مثلما كان أقرانك مولعين بجمع أشياء أخرى كصور لاعبي كرة القدم أو طوابع البريد أو كريات البلي.. ما أن تنفد أعواد الثقاب حتى تسارع إلى الظفر بالعلبة قبل أن تقذف بها أمك إلى سطل القمامة.. وعندما لاحظت أمك كيف تصير العلبة بين أصابعك، أصبحت تنادي عليك كلما فرغت واحدة. كنت تحدث ثقبا في وسطها، وتلونها بالأسود أو الأزرق، ثم تدنيها من عينك اليمنى، فترى الأشياء عبر الثقب، وتضغط على زر لامرئي لتلتقط الصور. أو تخرق ضلعيها الجانبيين بسلك، عند الوسط تماما، ثم تركب في طرفي السلك غلاّقتي قنينة، ثم تجرها بخيط وقد أصبحت سيارة أو عربة. أو تصفّ أربع علب واحدة خلف الأخرى، مستعملا سلكا أو مصفات سجائر لإلصاق بعضها ببعض، وتصنع بعودي ثقاب مدخنة للعلبة الرابضة في المقدمة، ثم تجر القطار: طك طك طك… هوووو…

مضت الأعوام، لكن لا أحد فوجئ سواك. أصبح الناس يستعملون الولاعات لإشعال النار، وما عاد هناك من أثر لعلب الثقاب؛ توارت تدريجيا من غير أن تشعر باختفائها، رغم أنك أنت نفسك كنت تشعل موقد الغاز بكبسة سريعة على رأس الولاعة، مثل الآخرين تماما!

يتناهى إلى سمعك الآن وقع أقدام، تلتفت فيلوح لك عبد الغني قادما. بقامته القصيرة وكتفيه العريضين يخطو في هدوء فوق الطريق المفروش بالحصباء، ويجيل نظراته في الأشجار. يتوقف بعد ثوان، يسل سيجارة من علبة التبغ التي لا تكاد تفارق يده، و يخرج.. “ربيعة وقيد”، من جيب منامته (مذ وقعت عيناك عليه في هذه المصحة لم يخلع تلك المنامة! كان يرد على الفضوليين: ما حاجتنا إلى لباس آخر ونحن نائمون منذ قرون؟).. لست واهما، إذ أنت تراه اللحظة ينخرط في طقس الإشعال: يفتح دُرْج العلبة بدفعة من السبابة، يلتقط عود ثقاب، يغلق الدرج، وبرشاقة يضرب الرأس الأزرق للعود بالشريحة الخشنة، فيشتعل مُفَشْفِشا.

تتبدى يده ممسكة علبة ثقاب السّبُع، تلك العلبة التي كنت قد أهديته إياها يوم اكتشف هوايتك. فأصبح يزهو أمام الآخرين بامتلاكها، ولم يكن يخفي أساه على نفاد أعوادها، غير أنك وعدته مطمْئنا بتعويض علبته بأخرى.. مع ذلك كان يقتصد في استهلاكها، إذ أنبأك مرة بأن “الرْبيعة” قد ساعدته على تخفيض وتيرة التدخين، فكلما قل تدخينه زاد عمر علبة الثقاب. تراه اللحظة قد اقتعد كرسيا نائيا، ملوحا لك بيده، تعبيرا عن احترامه لعزلتك.

ارشف رشفتين متتاليتين، وانظر إلى الغسق يغلف بلونه الأشياء، ودع الذاكرة تنتعش.. لقد كنت تعيش أياما عصيبة حين ركبت سيارتك ذات صباح واتجهت صوب أقرب قرية، بحثا عن “رْبيعات لوقيد”. كانت الدار قد صارت موحشة، بعد شهور من رحيل رفيقة عمرك. سمير ولطيفة لم يكونا يزورانك إلا لماما، وربما يشعران ببراءة ذمتهما بعد أن رفضت عرضهما حيث يقترحان عليك الإقامة عندهما بالتناوب. أما أحمد فلم تسمع صوته مذ هاجر إلى أمريكا. لم يكن في متناول يدك وسيلة تخرجك من الإحساس بالوحشة القاتلة التي كانت تتضاعف مع مضي الأيام. حتى مشاهدة التلفاز أو سماع الغناء أو ارتياد المقهى لقراءة الصحف، كعادات لذيذة في عهد فقيدتك، لم توفر لك العزاء والسلوى. لكن وأنت تقلب، ذات ليلة، محتويات أرشيف المرحومة، عثرت على علبة ثقاب مغلفة بورق وردي وقد رُسم فوقها قلبان متقاطعان يحمل كل واحد منهما الحرف الأول من اسميكما، أنت وفقيدتك. آه! اجتاحتك للتو ذكرى بعيدة: كنت قد أهديتها حلقات من ذهب، وقد وضعتها وسط قطن بداخل تلك العلبة الوردية. دوما كنت تصنع من “رْبيعات لوقيد” شيئا مميزا. أمضّتك الذكرى، إلا أنها ألهمتك طوق النجاة. هكذا وجدت نفسك تبحث عن “رْبيعات لوقيد”. فبعد صدمة اكتشاف اختفائها من حوانيت المدينة، طفقت تطوي المسافات إلى الأماكن التي يتأخر وصول سيل انقراض الأشياء إليها. حين سألت في القرية الأولى عن بغيتك، فوجئت بوصول السيل..، لكن بقالا أعطاك علبتين مجانا، وقال موضحا:

– هذا ما تبقى لدي من علب. أصبح الناس يتحاشون العلب ويطلبون الولاعات. يقولون إن الولاعات اقتصادية وتستمر لمدة أطول.

عدت صفر اليدين وأنت تزور قريتين أخريين. لكنك لم تستسلم؛ انشغل رأسك بطيف “الرْبيعة” حد الهوس، حتى أنك بدأت ترى نفسك في الحلم تبني جدران بيت بلبنات ليست سوى علب ثقاب، أو تفتح أدراج خزانة عملاقة تتألف من علب ثقاب، تفتحها واحدا تلو الآخر بحثا عن كنز مفقود.

لم تكف من ثم عن التفتيش عن “الرْبيعات”، متبعا خطة لا ترهق ميزانيتك كمفتش تعليم متقاعد: كنت تسافر كل شهر إلى ثلاث قرى متجاورة. على هذا النحو استطعت أن تملأ وقتك وتبلغ بعضا من السلوى والعزاء، غير أن إخفاقك في العثور على بغيتك كان ينمي تدريجيا إحساسا خاصا بداخلك: تحس بعبث البحث، بانسحاب المعنى. وأخذت تنظر إلى حياتك برمتها من هذه الزاوية، فأطبقت عليك الكآبة من كل جانب، وتعاظمت رغبتك في القبض على ما يستنقذك من عنق الزجاجة الوجودي.

لا تدري ما الحالة التي كنت ستتردى إليها لو لم تفاجأ في قرية جنوبية بما غمرك سعادة، إلى حد أن القرويين الذين رأوك ترقص وتصيح نظروا إليك بإشفاق وقالوا: «الله يستر!». فذات عشية سألت حوانيت تلك القرية واحدا واحدا، وكدت تنصرف يائسا ذلك اليأس البارد، لولا أن شابا أشار إلى بيت بجواره حانوت بباب حديدي موصد، وقال لك:

– ربما تجد حاجتك لدى أصحاب هذا البيت، فأبناؤهم يشتغلون بالطليان، وحانوتهم مغلق منذ سنوات لأنهم لم يعثروا على شخص مناسب لإدارته. لكن نساء البيت لا يرددن أي مشتر خائبا. من يسأل عن بضاعة تباع له من خلف باب البيت.

قرعت الباب على استحياء، ففتحت لك امرأة عجوز، خاطبتها كما لو كانت أمك وأريتها علبة ثقاب قائلا إنك قطعت مسافة طويلة بحثا عنها.. استمهلتك قليلا ريثما تسأل البنات، ثم خرجت امرأة في العشرينات لتتحقق من طلبك، وعندما أكدت لها مرادك سألتك:

– كم من “رْبيعة” تريد؟ ومن أي صنف: الشمع أم العود؟

فرددت على الفور:

– أعطيني كل ما عندك.

فضحكت وقالت:

– لدينا مئات الصناديق!

وأنت تودع ذلك الكم الكبير من “الرْبيعات” جوف سيارتك، لم تتمالك نفسك فانخرطت في الرقص أمام الأنظار المشدوهة لأطفال ورجال قرويين… وقفلت راجعا يغمرك شعور لم يخامرك مذ كانت الدار عامرة بأنفاس الأسرة الصغيرة.. الأسرة التي ضاعت، يا ويل حظك، بين تلافيف الزمن.

لم يداعب النوم أجفانك في تلك الليلة إلا في وقت متأخر، إذ بت تفكر في الآفاق التي تشرعها أمام أصابعك تلك العلب: تجلت أمام ناظريك الأشياء التي كنت تصنعها في الماضي، وراودتك أفكار مبتكرة.

وقت الزوال، باشرت الاشتغال على علب الثقاب. اقتنيت ما تحتاجه من أدوات ولوازم، هيأت سطح المكتب، ثم دونت أفكارك في دفتر صغير، وأنجزت رسوما تقريبية لعدد غير قليل منها، قبل أن تشرع في تنفيذها واحدة بعد الأخرى. استغرقت في العمل كليا لتفاجأ، بعد أيام، بمصنوعات مختلفة الألوان تملأ سائر أرجاء غرفة المكتب: عمارات، صناديق، رجال آليون، مصوّرات، أسرّة، مناضد، عربات، قطارات… بدت لك رائعة، فطفقت تجول بينها مستمتعا بإنعام النظر في صنعتها، مجريا تعديلات طفيفة على بعضها. فجأة، خطرت ببالك فكرة إنجاز ما رأيته في أحد أحلامك: خزانة كبيرة بمئات الأدراج. أفرغت العلب من أعواد الثقاب، وأخذت تلصقها ببعضها البعض، متحريا غاية الدقة، إلى أن استوت خزانة عجيبة بأدراجها الكثيرة. جعلت للأدراج مقابض من أعواد الثقاب، وآثرت أن تستثمر كل الألوان في صباغة الخزانة، بحيث تقتسم الأدراج الألوان فيما بينها، على نحو متناسب متناغم. ألقيت نظرة رضا على ما صنعت، كانت الخزانة تجسيدا حيا لفكرة حكيمة: وحدة في كثرة، وتفرد مع تلاحم. كل علبة تبدو بلونها المختلف مستقلة عن غيرها، لكنها تشكل جزءا لا يتجزأ من مجموع العلب.

يأتيك الآن، عبر نافذة الغرفة التي تتقاسمها مع خمسة نزلاء، الصوت العالي المشروخ للبشير، الشاب الأسمر المهووس بالشعر، التهاما واجتراحا، والذي تدهمه من حين لآخر نوبة يردد فيها لازمة واحدة لا تتغير: «لمَ لمْ تصفقوا؟ ماذا كنتم ستخسرون؟ أعطيتكم ولم أستبق شيئا، فلم لم تصفقوا؟ لم تخليتم عني؟».

أنت أيضا تخلى عنك فلذات الكبد، ولم يصفقوا لإبداعك، جحظت منهم الأعين وفغروا الأفواه ولطموا الخدود حين رأوك في سوق الحومة تعرض مصنوعاتك، أحد ما حمل إليهم خبرك، فجاؤوا كلهم، وغمروك بنظرات مفعمة دهشة وحيرة وحزنا وشفقة، ورأيتهم يتبادلون النظر ويتهامسون. قال ابنك سمير:

– بحق الله ماذا تصنع في هذا السوق؟ ما هذه الأشياء التي تتاجر بها؟ من أين حصلت عليها؟

وقالت ابنتك لطيفة:

– هل ينقصك شيء يا أبي؟ هذا المكان لا يناسب مقامك! ولطمت الخدين: يا للفضيحة!

لكن زوج لطيفة قال:

– ما لنا ولهذا الكلام كله، صهري العزيز لقد جئنا للاطمئنان عليك، نرغب أن تكون سعيدا، ولذلك نقترح عليك أن تغير الجو، هيا انهض معنا…

لم يصفقوا، رموك بتلك النظرات التي تبث في الدم الشعور بالرعب والذل والضعف، لقد أحسست تحت المفعول السيئ لتلك النظرات أنك قد أتيت شيئا فريا، كما لو أنك لطخت شرف العائلة بالعار، وخذلتك ساقاك، أوشكت تقع لولا بقية من قوة، هناك مع ذلك من يقدر عملك حق قدره، ألم تبع عددا كبيرا من المصنوعات؟ لم يكن هدفك البيع، يهمك فقط أن يتعلم الأطفال اللعب بأشياء غير معلبة، تجترحها أصابعهم الصغيرة بروح الخلق وشغف الإبداع. ألم يقف ذلك السائح الأجنبي منبهرا أمام مصنوعاتك، والتقط لها صورا ممطرا إياك بسيل من الأسئلة حول المواد التي تستخدمها في عملك؟ قال إنه باحث في حقل الفن، وأعرب عن رغبته في شرب فنجان شاي معك، مجددا تقديره لمصنوعاتك، وقد بهرته الخزانة ذات الأدراج الكثيرة، على وجه الخصوص. أطلق عليها اسم الخزانة اللانهائية، وأبى إلا أن يبتاعها منك بسعر باهض كما لو كانت قطعة من الفن الراقي. كنت ترغب في مجالسته، والاطلاع على ما يملك من صور(التقطها في بلدان أخرى) لأعمال فنية مماثلة لمصنوعاتك، تستخدم فيها مواد مغايرة. لكنهم دمروا كل شيء.

احتالوا عليك حتى عدت معهم إلى البيت. بعد رد الفعل المستغرِب المستنكِر، لاذوا بالكلام اللين والاهتمام المتفهم، وتركوك تتحدث عن علب الثقاب مثلما تشتهي، بل إنهم اختاروا قطعا من مصنوعاتك، تملوها بإعجاب، وقالوا إنهم سيهدونها لأحفادك. صاحبوك إلى البيت، تكفلوا بالغداء، أشعلوا التلفاز الذي ظل مخلدا إلى الصمت منذ رحيل شريكة عمرك، وأطلعتهم على مخزونك من علب الثقاب، وطريقة اشتغالك، ومشاريعك الإبداعية. عشت للحظات في جو الأسرة المترع بالدفء والحب. لكن سحنات وجوههم انقلبت حين رفضت الذهاب معهم. لطيفة تقترح عليك الإقامة معها على الرحب والسعة، إلا أنك تفضل المكوث في بيتك الذي ينبض كل ركن فيه بعبق الذكرى. انصرفوا ليعودوا إليك في الغد، عسى أن تكون قد غيرت رأيك.

وعندما عادوا ألفوْك عاكفا على إنجاز مصنوعات جديدة. تجاذبوا معك أطراف الحديث، فاستحليت الخوض في موضوعك الأثير: “ربيعات لوقيد”. أطلت حتى رأيتهم، في إحدى اللحظات، يتبادلون النظرات. التمست لطيفة منك مرة أخرى الذهاب معهم، فرددت عليها بحسم قائلا:

– راحتي في بيتي.

ولا يسعفك رأسك بتذكر ما حدث منذ اللحظة التي قدموا لك فيها شايا أو عصيرا، لا تدري بالضبط. ربما سبق تلك اللحظة حديث عن الطبيب، تذكر أنهم قالوا لك:

– لابد من إجراء فحص شامل، لتعرف مستوى ضغط دمك، ونسبة السكر..، وحالة جهازك الهضمي.. إلخ. لابد أيضا من.. فحص نفسي، يعني.. يعني أنك ربما تحتاج إلى تصريف ما تراكم في النفس من أحاسيس فادحة..

وقال زوج ابنتك محاولا تهوين الأمر:

– ضغوط الحياة وإكراهاتها تحمّل النفس فوق طاقتها.. لذلك نحتاج كلنا في أوقات الشدة إلى مراجعة طبيب نفسي..

لجأوا إلى المشروب حين أبيت أن تستجيب لطلبهم، مستشيطا غضبا. شعرت بالنوم يرخي أجفانك بقوة، ولما صحوت وجدت نفسك في المصحة. على هذا النحو يكفرون عن ابتعادهم عنك وانجرافهم خلف الرغبات والمصالح! ليس عليهم الآن سوى أن يزوروك من وقت لآخر، وينفحوا الممرض المسؤول عن غرفتكم مالاً كي يسهر على راحتك.

اشرب آخر جرعة من القهوة، أغمض عينيك بعمق، و”تصَنّتْ لعظامك”: قاومت في البدء، إلا أن الحقنة كانت تبث في أعصابك ارتخاء، وتسلمك إلى أحضان النوم. مع مرور الأيام، تآلفت روحك مع المكان الذي أحببت عزلته واكتشفت روعة عدد غير قليل ممن يأوون إليه، مثل عبد الغني والبشير. ما زينه أكثر في عينيك هو حرية ممارسة شغفك. عندما حملوك إلى المصحة جردوك من علب الثقاب، لكنك أبديت للطبيب رغبتك في استعادة أشيائك، فرأى أن اشتغالك بالفن سيعجل بشفائك، وحدث ابنك في الأمر…

صخب عال يبلغ مسمعك الآن. تلتفت خلفك ناظرا ناحية مبنى المصحة: دخان يتصاعد وصياح. من نافذة غرفتكم، بالضبط، تتعالى نيران ملتهبة. نهضت واقفا ترتجف، وأسرعت مهرولا صوب المبنى. صادفت في طريقك قامات تركض، وأخرى تولول أو تضحك، ورأيت بعضهم يحملون دلاء تتمايل فتتدفق المياه من حافاتها. قبل أن تصل إلى الغرفة، التقيت ممرضا قال لك:

– الحمد لله على لطف الله!

ورأيت آخر مقبلا يمسك بين يديه مطفأة الحريق، وعند مدخل الغرفة كان رئيس الممرضين يحاول إخلاء الطريق المختنق بسبب ازدحام النزلاء. أطللت على الغرفة من خلف المزدحمين: شبت النيران تقريبا في كل الأسرّة بمرتباتها وأغطيتها، وطالت حتى خشب المناضد. سمعت أحدهم يقول:

– ما كانت النار لتسري بهذه السرعة لو لم تكن المرتبات محشوة بالإسفنج!

باشر الممرض عملية الإطفاء متعقبا النيران بصبيب الأكسجين المنطلق من رأس المطفأة الحمراء. تضوع المكان برائحة الاحتراق الخانقة، وأخذت ألسنة النيران تنحسر شيئا فشيئا.

وأنت ترنو إلى سريرك ومنضدتك المحترقين، أكلتك الحسرة على كنزك الذي تحول إلى رماد. لم تعد الآن تملك علبة ثقاب واحدة، أتت النار على المصنوعات التي كانت تستوي فوق سطح المنضدة وتحت السرير، أتت أيضا على علب الثقاب التي كنت تحتفظ بها في أدراج المنضدة، بل إنها اغتذت وتأججت بأعواد ثقابها. ماعدا الطيراني، لم يمس أحد بسوء. كان الطيراني يكلم نفسه طوال الوقت، متأرجحا بين بث لواعج قلبه لامرأة تتخايل له وحده ويسميها أحيانا ربيعة (هل أقول لك: الله يستر! لكل ربيعته!)، وبين كيل الشتم واللعنات لها متوعدا إياها بالويل ما دامت قد سافرت ولم يخطر ببالها توديعه على الأقل. لا يكتفي بتوجيه الخطاب إليها فقط، وإنما يرفقه بحركات من جسده، فتراه يرقص ويصفق بفرح، أو يلوح بيده في غضب وقد تضرج وجهه حمرة. كان يحييك باحترام في لحظات هدوئه، وأحيانا كان يبدي ملاحظات رصينة بصدد بعض الموضوعات. لم يفصح قط عن أي تعليق حول اشتغالك على “رْبيعات لوقيد”، لكن عينيه تظلان معلقتين بالمصنوعات. يقول أحد النزلاء إن الطيراني غادر المشربة قبيل العشاء وحده، ويقول عبد الغني إنه لحظة كان يتمشى في الخارج، حانت منه التفاتة إلى نافذة الغرفة، فرآه يرقص كعادته، بل إنه لوح له بيده فلم يتلق منه أي رد. الطيراني هو الذي أشعل النار، وربما كانت تستبد به حينئذ حمّى الشتم واللعن.. شبت النار في ثيابه وأصيب بحروق بالغة، غير أنهم تمكنوا من إنقاذه.. أما أنت فكنت تشعر بالوحشة الجارفة تشب في أعماق نفسك، لا أحد سارع، في الوقت المناسب، إلى إنقاذ ربيعات قلبك، لا أحد إطلاقا.. ورغم ذلك يشيرون إليك بأصابع الاتهام ويقولون:

– “رْبيعات وْقيدك” هي سبب الكارثة!

 

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال