عطشى بالفطرة

جمال أزروفي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

جمال أزروفي

ينحدر الأربعة من نفس القرية وهذا يكفي لأن تتوطد علاقتهم منذ الصغر وتستمر ببلاد المهجر وهم شباب يافعون، محطتهم الاولى في رحلة سفر شائكة كانت مدينة “دينهاخ” الهولندية، مدينة واعدة ولها قدرة خاصة على منح الدفء واحتضان الغرباء واستثمار الحلم رغم قساوة الجو وكثافة الأجساد المتحركة -على أنواعها-في الشوارع مما يوقع في النفس إحساس دائم بالقلق والانقباض.

 معارفهم كُثْرٌ هنا، أقارب وأصدقاء طفولة وجيران قدماء، من كل بيت في القرية شخص أو شخصان بل أكثر أحيانا انتهت بهم دوامة الهجرة إلى هنا، وهذا ما سَهَّلَ استقرار الأربعة بادئ الأمر ومكنهم من الحصول بِيُسْرٍ على سكن وعمل قار وذاك أرقى ما يمكن أن يتمناه مهاجر سري في بلاد الأراضي المنخفضة، بعد ان أفنوا سنوات شبابهم الأولى في أوراش البناء، وحقول الحصاد الصيفية، يدخنون الكيف، ومن حين لآخر يتقاسمون زجاجة نبيذ رديء يجرعون مرارته مع حبات الزيتون والحمص . 

بعد محاولات عديدة للهجرة، باءت كلها بالفشل، نجحوا أخيرا في الالتحاق بالضفة الأخرى بطريقة مشروعة، حين أفرجت الدولة عن حق الجميع في الحصول على جواز السفر، هذه الوثيقة المشؤومة التي ظلت لسنوات تستنزف جيوب المواطنين، حين كان استخلاصها يمر عبر شبكات من الوسطاء والسماسرة الذين تخصصوا في ابتزاز أرزاق الناس دون رادع. 

اكترى الأربعة سكنا يتقاسمون ثمنه، يعملون سويا في المزارع المغطاة على هامش المدينة لدى “خيرارت” الهولندي، عملاق بشري مقاس حذائه يقارب الخمسين، يقتنيه من محلات متخصصة في القامات الطويلة. رغم ذلك فهو أودع من حمل وأصمت من صخرة، قلما ينفعل أو يغضب،  همه الوحيد هو جمع المال واحترام الوقت، لا يضيع فلسا بالقدر الذي لا يضيع ثانية. نزوته الوحيدة ولعه الشديد بالأشياء العتيقة “الأنتيك” التي تكلفه مبالغ لابأس بها من أرباحه. ورث عدة مزارع يُنَاوِبُ فيها اسْتِنْبَاتَ الطماطم والورد والفلفل، وبما أن العمل القانوني كان يكلفه أموالا طائلة ووقتا هائلا لجأ الى استخدام المهاجرين السريين وخاصة المغاربة الذين كانوا يدقون أبواب مزارعه عشرات المرات في اليوم. 

عمليات الزرع كيفما كان نوعها كانت تكلف جسد المهاجرين الأربعة، خصوصا في الأيام الاولى، من الجهد ما يجعل أظهرهم تَتَقَوَّضُ ألما منذ الصباح الباكر الى حين العودة الى البيت لِيَتَنَاوَبُوا على الدَّلْكِ والتَّمْسِيد بل والمشي فوق أظهر بعضهم البعض لتبديد ألمها وتسوية تقوسها الذي دام ساعات النهار. 

وتيرة حياتهم بعد الانتهاء من العمل كانت رتيبة وجد دقيقة: المرور الى المخبزة وشراء ما يلزم من لدن الجزار والخضار … 

 اراد صالح يوما ،وهو أكثرهم قابلية للمغامرة، أن يرافق قريبا له الى المسبح البلدي بعد الخروج من العمل وكاد أن يقوده الأمر الى الترحيل لولا فطنة قريبه. قفز في المسبح بعد يوم كامل من العمل في جني الفلفل المرشوش بمادة الكبريت الصفراء وبدل الاغتسال قبل ولوج المسبح كما تفرضه الإرشادات العامة خلع ملابسه وركض قافزا إلى أن لاحظ أن كل المحيطين به قد فروا من المسبح، آنذاك اكتشف غطاء اصفرا يطفو على سطح الماء…أخرجه الحارس من المسبح بغضب وأخرجه قريبه من الورطة بصعوبة. 

  في الشقة المقابلة لمقر إقامتهم تسكن جينيت ودانيال، زوجان هولنديان لطيفان، وقمة في الأدب والأخلاق، حرص الأربعة من جهتهم كذلك على تحصين علاقة الاحترام وتوطيدها، فرغم حفلاتهم الساهرة يوم السبت فإنها لحسن الحظ كانت غالبا ما  تصادف خروج الزوجين للسهر خارج المنزل وبهذا لم يثيروا يوما أدنى شبهة حول احتمال خرق هذه العادة، لذلك لم يترددوا في قبول دعوة “جنيت” لحضور حفلة عيد ميلاد زوجها حين دعتهم إلى ذلك، والطريف في الأمر أنهم كانوا يجهلون حتى كيف يُحْتَفَلُ بمثل هذه المناسبات مادام أَيًّا منهم لا علم له ولو بتاريخ ميلاده، لكن ابنة رئيسهم في العمل كانت دليلهم في كل ما التبس عليهم. 

اختار صالح باقة ورد جميلة جلبها من حقل العمل بمساعدة ابنة “خيرارت” التي أعدتها بأناقة واحترافية واشترى عمر طاجينا مغربيا من الطين بينما تقاسم يوسف و علي ثمن زجاجة نبيد.  

استقبلتهم الجارة بترحاب صحبة زوجها وتقدمت بهم الى غرفة الجلوس وهم يتبعونها بحذر، حين تلقت هداياهم سألت إن كانوا يشربون فأجابوا بالإيجاب وهم يبتسمون بمكر. 

بدأت الحفلة بفتح أول زجاجة،  تكلف الزوج بتوزيع الكؤوس وفي ظرف وجيز أتوا على الزجاجة الهدية. جاءت جنيت بالثانية والثالثة وبعد مراسيم إطفاء الشموع وانشاد طقوس عيد الميلاد ارتفعت حالة سكرهم وتحرروا من قيودهم بتدرج فأفرغوا كل ما تحتويه الثلاجة من جعة وشراب، وبمجرد ما اكتشفوا خزان النبيذ في حجيرة محاذية للمطبخ تناوبوا على إحضار القنينات الواحدة تلو الاخرى دون استئذان بينما جنيت وزوجها يراقبان الأمر ببرودة اعصاب وكأنهما يشاهدان مسرحية سخيفة دفعا ثمنها غاليا.  

تحول المرحاض إلى نافورة للبول المستمر وتعالى صياحهم لطلب الإسراع في الخروج من المرحاض قبل إفراغ المخزون أمام الباب فتصاعدت رائحة عطنه في كل أرجاء المنزل وتضببت الأجواء من كثرة التدخين الذي لم يتوقف منذ وصولهم. 

بعد أن علا ضجيجهم وشرعوا في المشاحنة وتبادل فيما يشبه الاتهامات بلغتهم الأصلية أمرتهم جنيت  بالمغادرة بحجة أن الحفلة قد انتهت وان الجارة السفلى لا تستحمل وقع الأقدام ليلا. 

زوال بداية الأسبوع وبعد عودة الأربعة من العمل، وقفوا ينتظرون المصعد  في بهو  العمارة، ولج الجاران  الهولنديان باب العمارة يتأبطان علبا من زجاجات شراب تشبه تلك التي أخذوها قبل أمس من الخزان ، أشاحت جنيت بوجهها عنهم وفعل زوجها نفس الشيء وبدل أن ينتظرا المصعد كعادتهم هرولا نحو الدرج تفاديا للاختلاط بهم. 

قال صالح: 

-مساكين جيراننا لم يكونا يعلمان أننا عطشى بالفطرة وأننا وفدنا من بلد لم نشبع فيه حتى الماء. 

منذ تلك الحادثة صار الزوجان يتفاديان الالتقاء بالعصبة مما ضاعف من خوف هؤلاء بأن يُكْتَشَفَ سر وضعيتهم غير القانونية كمهاجرين دون أوراق إقامة فيشيا بهم الى الشرطة رغم حرصهم على عدم إفشاء ذلك منذ التحاقهم بهذه العمارة، لكنهم خمنوا بأن ذكاء جنيت كفيل بان يكتشف الأمر بسهولة وذلك فقط من خلال تصرفاتهم الحذرة٠ 

صعوبة العمل في مزارع الهولندي أَنْسَتْهُمْ ما وقع مع الجيران بسرعة فقد كان التنافس على أشده بينهم وبين عمال آخرين من جنسيات مختلفة يصل عددهم أحيانا الى الثلاثين وفي فضاء يتسم بالحرارة والرطوبة المفرطة.  

كان العمل يبدأ بالصلاة على النبي بصوت مرتفع يثير ابتسامة ” خيرارت” وزوجته، ليتحول الجميع في رمشة عين الى آلات ميكانيكية تجعل زوجة الهولندي فاغرة فاها في قدرة هؤلاء العجيبة على إنجاز العمل بهذه الفعالية. لم تر مثل هذا منذ دخلت العائلة ميدان الفلاحة منذ اربعين عاما. 

كان جني مزرعة طماطم واحدة يكلفهم اسبوعا كاملا بدل يوم واحد مع هذه الآلات البشرية القادمة من الجنوب والمتعطشة للعمل والكسب ولم يكن هذا الأمر يزعج هؤلاء فثمة أشخاص آخرين بالمئات يصولون ويجولون على دراجاتهم الهوائية بحثا عن عمل وهم محظوظون لأن الشرطة نفسها لا تقترب من مزارع “خيرارت”. 

كان عملهم ذاك يدر عليهم مداخيل لابأس بها يتقاضونها  غالبا يوم السبت. يرتاحون فقط يوم الأحد يخصصونه لتنظيف المنزل وغسل الملابس المتسخة يدويا والتزود بما يلزم من الحاجيات لمدة اسبوع واحيانا زيارة بعض اقاربهم لادخار ما زاد عن حاجتهم من نقود . 

مقهى الحسيمة كانت تمكنهم من الالتقاء بباقي المهاجرين الذين تعج بهم المدينة…تتناسل قصصهم الطريفة بعد ان شهدت المدينة في السنوات الاخيرة هجوما ملحوظا لجحافل المهاجرين من كل حدب ، أطرفها قصة الريفي الذي طعن تونسيا بدون أوراق في احدى المزارع. هرب الريفي على دراجته ونقل التونسي الى المستشفى بحضور الشرطة…بعد شهور تناهى الى سمع الريفي ان طعنته كانت سببا في تسوية وضعية التونسي القانونية، نظر الى أصدقائه وقال : 

-ناكر للجميل هذا التونسي لم يكلف نفسه حتى عناء البحث عني ليشكرني على الطعنة… 

طلب صالح من خيرارت” ان يعفيه من العمل يوم السبت، لم تعجب هذا الأخير طلبية صالح لان نضج الطماطم كان قد داهم المزرعة ولم يتوقع هذا الغياب لذلك يصعب ان يُفَرِّطَ في آلة بشرية مثله ليوم كامل. سأله لماذا يريد السبت عطلة؟ 

-اريد ان اشتري سريرا جديدا لأن الذي أملكه قديم 

-وماذا ستفعل بسريرك القديم؟ 

-سأرميه مع المتلاشيات يوم الاحد. 

-هل هو متكسر ام قديم فقط؟ 

-هو في حالة جيدة لكنه قديم 

لا تكترث! إِحْضَرْ للعمل يوم السبت وأنا سأتكفل بمشكلتك. 

بعد الانتهاء من العمل يوم السبت امر خيرارت صالح ان يرافقه في سيارته واتجه به الى منزل الأخير. 

ركن السيارة عند مدخل العمارة فتح الباب الخلفي وأمر صالح أن يساعده في حمل السرير الجديد الى فوق. 

-هذا سرير جديد لك مقابل ان تعطيني السرير القديم فانا اهتم بكل ما هو قديم. 

حين دخل خيرارت الى الغرفة المتواضعة والمؤثثة بِالْأَسِرَّةِ الأربعة تجول يبحث عن السرير الأنتيك غنيمته التي اصطادها. سارع صالح الى جهة اليمين، أماط الغطاء عن سريره…لوحات طويلة ألصقت بعضها ببعض مثبتة على أعمدة من قوالب اسمنتية غُطِّيَتْ بفراش وأغطية. الشكل فقط يوحي بأنه سرير لكنها في الواقع مجرد صفائح من اللوح تم تثبيتها بإحكام فوق قوالب اسمنتية…انبهر خيرارت من المفاجأة وطفق يسب الدين والحظ والسرير،  ثم توجه الى صالح بالحديث: 

-انت أحمق. هذا ليس سريرا. هذه لوحة فقط. 

– لا يا سيد خيرارت إنه سرير لكنه قديم فقط.

خرج خيرارت بغضب تاركا صالحا في حيرة من أمره هل يفرح لسريره الجديد أم يغضب لغضب رئيسه الذي أصفق الباب وراءه بعنف وهو يصرخ بغضب: 

خوت فردوما..خوت فردوما… يالنهار سيئ !!!

مقالات من نفس القسم