“عطر الليل”.. قصص قصيرة جدا تحمل رؤى فلسفية عن البشر وتجارب العيش

عطر الليل عمار علي حسن
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

سعيد نصر

في مائة واثنين وسبعين قصة قصيرة جدا تشملها مجموعة “عطر الليل” يقوم عمار علي حسن بأنسنة الأشياء والحيوانات، ويجعل من هذا وسيلة لخطف ذهن المتلقي، إلى جانب وصفه الجارح للواقع المعيش، وتحريضه على تغييره.

المجموعة القصصية عطر الليل تشتمل على 172 قصة قصيرة جدا، عدد كلمات بعضها لا يتجاوز 15 كلمة، وبعضها الأخر لا يتجاوز 25 كلمة ، وأطولها لا تتجاوز 70 كلمة، وعنوان المجموعة مناسب لها، فالليل والغروب حاضران بقوة في الأقصوصات، ومصحوبان بأحاسيس الخوف والقلق من المشيب واقتراب الرحيل، وتتميز النصوص بالجمل القصيرة والإيحائية ويتوافر فيها عنصر الدهشة من خلال بدايات خاطفة للذهن ونهايات مفتوحة وتميل إلى الرمزية، وصور تعبيرية وحركية يستفيد فيها الكاتب من الأجناس الأدبية الأخرى، كالسينما والفن التشكيلي في تصوير صراع الإنسان مع ذاته والواقع المحيط به، وسرديات مثيرة ومشوقة وجذابة يتداخل فيها الرمزي بالمباشر، والواضح بالغامض، والواقعي بالسحري، وتتسم بعمق الدلالة وغاية القصد، وذلك لوضوح الفكرة والهدف فى معظم القصص.

النظرة إلى الأشياء العادية بنظرة غير عادية أهم ما يميز الكاتب في مجموعة عطر الليل ويجعله مختلفا عن الأخرين، لأنها تزيد من جماليات النص وتجذب القارىء له وتزيد من درجة تفاعله معه،  فالكاتب ينظر إلى الأشياء العادية بنظرة غير عادية، وكأنه يؤمن بأن كل عادى بداخله شىء غير عادى، بدليل أنسنته للكائنات والأشياء المحيطة بالإنسان، واستخدامه لتلك التقنية الأدبية والقصصية فى رفض أشياء والسخرية من أشياء أخرى، منها على سبيل المثال لا الحصر، الحروب فى أقصوصة “حديد ودم”، والعنف والبلطجة فى ” سلام”، وإيذاء الأخرين فى” حجر”،”….. إلخ”. 

السخرية من بعض مظاهر الواقع الإنسانى والاجتماعى والسياسى ورفضها والتحريض ضدها أحد أهم مميزات البنية السردية فى “عطر الليل”، ففى قصة “طريق” رفض للظلم وتحريض على  مقاومته، حيث يقول الكاتب:” ظل يطوح الفأس في الهواء وهو يجري هاتفًا بسقوط كل جائر وقبيح، وراح ينادي الواقفين خلف الستائر أن ينضموا إليه، ويشاركوه الغضب والأمل، حتى يعود القمح والزهر والمدى الأخضر.”، وفى قصة “سلام”، ترفض العصا أن تكون أداة لتهشيم روؤس الناس فى الخناقات، وتقوم فى نفس الوقت مقام الدال للإنسان الشرير على فعل الخير، عن طيب خاطر، حيث يحكى الكاتب:” طوح الرجل المهيب العصا، وشرخ بها الهواء، ثم صوبها في اتجاه خصمه اللدود، فأحنى رأسه ليتفاداها وهو يسمعها تقول: :لو خيَّروني لبقيت مكاني غصنًا يرقص في الريح، وينصت إلى تغريد العصافير، ويرخي ظله على رؤوس العابرين. فألقى  خنجره تحت قدميه، ومد يده إلى من يقاتله مصافحًا.”، وفى قصة “حديد ودم” سردية رافضة لمنطق الحروب لدرجة أن نياط القلوب العاصية تتقطع من هول تفاعلها مع استغاثات ضحاياها على مر الزمن.

وفى أقصوصة “نظارة” يتبدى الرفض من خلال محاكمة قاسية ولكنها عادلة ينصبها الكاتب للمنافقين والأفاقين والمخادعين ،فالبطل يرى الناس بنظارته صورا مقلوبة يمشون على أذرعهم، فيصاب بالدهشة، فيذهب مسرعا ويصرخ فى وجه بائع النظارات العجوز:”الصورة مقلوبة .. شىء يجنن”، فيضحك العجوز طويلا ، ويقول: ” إنها الصورة الحقيقية، لكننا نكذب أنفسنا.”، ويحكى الكاتب عن الرجل العجوز : “ومد يده والتقط النظارة من فوق الطاولة، وأعطاها له، وقال فى ثقة متناهية:امش على رأسك، وستراهم كما تريد أنت، ويريد كل المخدوعين مثلك. “

المجموعة القصصية تلقى الضوء ، بسردية القبول والرفض ، على موضوعات وقضايا كثيرة ، تكاد تغطى كل جوانب الحياة الإنسانية، منها على سبيل المثال لا الحصر،الرقص السياسى فى أقصوصة “رقص”، و الفساد الحكومى ومؤتمرات السبوبة “فساد”، ونفاق جمعيات حقوق الإنسان للحكومة على حساب معتقلى الرأى “توقيف”، والذكريات المؤلمة وقسوة الفراق والهجران وتأثيرها الرهيب فى نفسية الإنسان”حديد ودم”، و “هاتف”، والجمال الفتان الآسر للروح” اللقاء المنتظر”، وقسوة الشرطة مع الباعة الجائلين “غنيمة”، والتوق للتوبة بعد المعصية” ممحاة”، والمشيب وتذكر الموت “مصعد”، والفوضى والعبثية التي تتحكم فى مواقف الناس وردود أفعالها “كرة”، والتسلى بالوقت وتضييعه والاعتقاد بأن الحظ هو السبب الأول للربح والخسران “دومينو”، وادعاء تحقيق إنجازات لا يشعر بها الناس”قزم ونخلة”،و”خولى الأنفار”، وغياب الأمان والاستقرار “موت الحارس”، وتفاعل مركزية الكون مع أحلام الناس وهواياتهم”قراءة”، ووصال العاشقين كمصدر للسعادة واستمرار الشباب”عشق”، وسلوكيات وتصرفات كذابين الزفة فى المظاهرات”مظاهرة”، والتسول عن طريق جمع التبرعات للجمعيات الخيرية “مهمة دائمة”، وبقاء معدن الإنسان السىء على حاله الردىء، على الرغم من تغير شكله إلى الأفضل”تغيير”، ورفض الفلاح العالم بأصول الزراعة لصورة الأطعمة المرشوشة بمبيدات مسرطنة “طعام”، والقراءة هى الفارق الأساسى بين الإنسان والحيوان”رابطة عنق”، وعلاقة الموسيقى والجمال والروح “خسوف”، و”جمال”، والإعلام الذى ينافق الحاكم ويحمل الشعب مسئولية كل المشاكل “خبر”، والهلع حتى الموت بسبب الخوف مما يجرى فى أقسام الشرطة “زبد”،والربط بين الإرهاب والخطاب الدينى السلفى المتطرف”خطبة”، والعدل حلم بعيد المنال”العدل”،والصمت يولد الانفجار”صمت”، والايمان بالله والثبات على المبدأ والغناء يقوى إرادة السجين “سجينان”.  

أنسنة الحيوانات والنباتات والأشياء أحد أهم عناصر جماليات النص الأدبى فى مجموعة عطر الليل، لأنها تعكس علاقة ارتباط من نوع خاص بين الكاتب والكائنات والأشياء المحيطة به، والأمثلة على ذلك كثيرة، ففى أقصوصة” مقعد” يتحول مقعد بعيادة طبية كئيبة لإنسان يشعر ويحس بآلاف المرضى الذين جلسوا عليه أملا فى الشفاء دون جدوى، ويتألم لآلامهم ،حيث يقول الكاتب فى سردية عجائبية مثيرة للدهشة:” بعضهم جاء مرات سعيا وراء شفاء عصى، وآخرون ذهبوا بلا عودة، دون أن يدرى أى منهم أن مرضًا عضالًا قد أصابنى، وأننى أجبر نفسى على تحمل أجسادهم الثقيلة، وأؤجل انهيارى على قدر استطاعتى، إشفافًا عليهم.”

وفى أقصوصة”كلب” ، تظهر معايشة الحيوان للإنسان فى كلب يريد أن يدفن بعد موته كما يدفن الإنسان بعد موته، ولكن صاحبه لم يفهم إشاراته وتوجعاته وتوسلاته له ، وتشعر بالإيحاء والتورية أنه كان يتمنى أن تقام له جنازة وسرادق عزاء، حيث يحكى الرجل:” فجأة رأيته أعلى تبة يموج ويثير غبارًا كثيفًا، فجريت والتقطت نظارتي المكبرة، ورفعتها في اتجاه الغبار فوجدت الكلب، الذي كان أمامي، قد حفر حفرة وتمدد فيها بلا حراك، فأيقنت أنه كان يستنجد بي كي أستره ميتًا.”، وفى أقصوصة”أنين” تشعر نبتة بالألم وتئن منه كما لو كانت إنسانا يحس ويشعر، حيث يقول الكاتب :” داس بقسوة على العشبة الواهنة، فانطلق أنينها حادًا ليزلزله، ويدفعه إلى رفع قدميه فزعًا، فسقط فوقها صارخًا من شدة الألم.”

 وفى أقصوصة “وحشة” لا يطيق الجمل الوحدة ويبحث عن أنيس له فى الصحراء، حيث يقول الكاتب:” وضع النظارة المكبرة على عينيه سريعًا، فوجده جملًا وحيدًا شاردًا، لا يجد أنيسًا له فى هذا القفار سوى علبة محشوة بأجسام البشر، تطير بعيدًا عنه، ويصل إزيزها إلى أذنيه.”، وفى أقصوصة “ثقل”، تنكسر رجل الكرسى فتئن الأرجل الثلاثة المتبقية وتكلم الرجل البدين الجالس عليها وتستعطفه أن يخفف الحمل عنها، حيث يقول الكاتب:”انكسرت الرجل الرابعة من الكرسي القديم، فقالت الأرجل الثلاثة للرجل البدين الجالس فوقه شاردًا: ارفع جسدك قليلًا، ليحمل الهواء عنا ربع الحمل الذي نطيقه.”، ويحكى الكاتب عن الطائر فى أقصوصة “أنس”:” لكنه حين يلمح النبتة يمرق إليها، ويقف عندها مغمضًا عينيه، وفاتحا منقاره يحدثها، وهو يميل برأسه ليصغى إلى حفيفها الخفيض بحثًا عن أى أًنس.”

السرد العجائبى أو ما يعرف بالواقعية السحرية فى السرد القصصى يعمق المعنى والمغزى من القصص فى ذهنية القارىء،و يضفى على بعض القصص طابع الشجن ويضفى على بعضها الأخر طابع الدهشة ، وكلاهما يزيدان من تأثير الدفقة الشعورية القصصية فى قلب وذهن المتلقى، وقد ظهر السرد العجائبى فى أقصوصات كثيرة منها ، ” طعام، صور ، إرهاق، مخطوط ، خطبة ، تثاؤب ، عجول “، ففى أقصوصة طعام يرسم الكاتب لوحة سينمائية تشكيلية شجية يعبر بها عن قلق الجوعى على مصير أولادهم ، فالرجل يرمى  الحجر فى النهر فيصير سمكة فيملأ حقيبته أحجارا ويعطيها لزوجته لتجهز العشاء ،و يحكى الكاتب عن الزوجة:” حين ألقت الأحجار فى الزيت المغلى صار ماءً، وراحت الأسماك تتقافز منه، وتتساقط على أرضية المطبخ النظيفة، وتزحف نحو أدراج صارت قوارب صيد مشدودة إلى شباك متينة، يثقلها جوع أولاده، الذين ينتظرون على طاولة لم يوضع عليها طعام منذ أيام.”

وفى أقصوصة”إرهاق” يظهر سلطان النوم فى صورة شبح ، يقهقه ويقول لرجل يحاول أن يغلبه: ” مغرور من يظن أن بوسعه العيش كما يريد.”، وفى أقصوصة” تثاؤب” يخرج كائن غريب من فم الرجل المتثائب ، ويحكى عنه الكاتب:”هرول الكائن وشمر عن ساقيه استعدادا للعودة من حيث أتى وهو يقول:عيب على من يعرف عيبه ولا يغادره.”، وفى أقصوصة “خطبة” يستخدم الكاتب سردية عجائبية لتأكيد الربط بين الخطاب البدينى المتطرف والإرهاب، فالواعظ يطلق من عينيه شررا كثيفا يختلط برذاذ فمه ويتحولان إلى بقع سوداء تغطى جلبابه الأبيض، ويحكى الراوى:” كل شرارة أحدثت ثقبًا في الجلباب، وكل رذاذة بللت جزءًا صغيرًا،ولمَّا طالت الخُطبة، امتزج الشرر بالرذاذ، وانسالت خيوط سوداء،حتى صار الجلباب قطعة فحم،يتصاعد منها دخان كثيف غطت وجه الخطيب ووجوه كل مستمعيه.”، وفى أقصوصة “مخطوط” ينتقد الكاتب المتمسكين فى العلم الدينى بإعمال النقل وتجميد العقل، ويستخدم سردية الواقعية السحرية فى غرس فكرته الأساسية فى ذهن القارى، حيث يحكى عن رجل كانت شغلته فى الماضى الكتابة فى الدين:” فجأة ظهرت له شفتان غطتا السطور العتيقة، بينهما لسان عريض، نطق فى هدوء:ما خطه يمينى كان على أيامى مهجورًا منكورًا، فصار لديكم من المقدسات.”

وفى أقصوصة “صور”، يفرط الكاتب فى السرد العجائبى ، وقد يكون هدفه من ذلك إيضاح أن الناس تعيش بعد موتها فى الأدوات التى كانت تستعملها فى حياتها، حيث يحكى:”حملق فى تجاويفها الناعمة التى يحط عليها غبار كثيف، فرأى رجلًا وسيما يقبل امرأة جميلة، ولاعبًا يركل كرة فتهوى بعيدًا، وشجر يهتز تحت مطر شديد، وعرائس من خشب وقطن تتراقص يمنة ويسرة، وأسد يلتهم وعلًا، وضباعًا تربض بعيدًا تنتظر انتهائه من طعامه، وهدهد يحلق في سماء قريبة، ثم يهبط على مهل، ونهرًا عذبًا جاريًا، ينجرح فى طريقه، فتظهر ترعًا وسيعة، ومسارب ضيقة، وشابًا يتشاجر مع قرينه على جسر عال. “

بعض النصوص غامضة وقابلة لتأويلات عدة، ويكتنفها مفارقات تزيد من عنصر الدهشة،  وهذا ما جعلنى أتفاعل معها بالنظرة السيميائية، فعلى سبيل المثال لا الحصر، استشعرت أن الديدان السوداء فى قصة “نعش” هى أعمال المشيعين للرجل المتوفى الذى أطل برأسه عليهم وأطلق ضحكة مدوية ، حيث يحكى الكاتب عنه :” وبعدها أخرج لسانه، وراح يصفع به  وجوه السائرين، فيتساقط منه ديدان أسود، تكاثر حتى سد أمامهم الطريق.” ، وفى أقصوصة غُسل، ليس من المستبعد أن تكون فكرة من له حق الشرعية فى الحكم حاضرة فى ذهن الكاتب،حيث يقول:” اختلفوا على من فيهم أحق بغسله. تجادلوا طويلًا فوق جثته الملقاة بين سيقانهم، لكنهم لم يحسموا الأمر، فقرروا أخيرًا أن يسألوه، ليحدد هو من الذي سيجهزه للدفن.”، وفى أقصوصة النخلة ، قد تكون فكرة الهوية والأصالة والمبادىء الثابتة حاضرة فى ذهنية الكاتب، حيث يقول:” أخذهم النوم من فرط التعب، وحين استيقظوا مع خيوط نور نهار جديد، اتسعت أحداقهم حتى غطت وجوههم، وهبوا مذعورين، يبحثون عن النخلة التي اختفت تمامًا.”

الكاتب يعزف فى مجموعته القصصية عطر الليل على وتر المفارقة والرمزية، والصور التعبيرية المؤثرة فى النفس، فعلى سبيل المثال لا الحصر، فى أقصوصة “خسوف”، تتبدى الصورة التعبيرية فى رجل كبير فى السن يرى روحه فتاة فائقة الحسن فيغرق فى شعور غامر بالرضا، وفى أقصوصة “ثعابين، تتبدى المفارقة فى أن الثعابين تصبح مصدرا للسعادة وسمها القاتل يصبح طوق نجاة لرجل بائس، حيث يقول الكاتب:” وأطلت ثعابين مختلفة ألوانها، وتجمع سمها، وراح يصنع أمواجا عاتية لم يلبث أن جرفتني خارج النافذة، أتراقص سعيدا بالنجاة.”، وتتبدى الرمزية فى أقصوصة “جوع” فهى تحكى عن غنى أصابه الفقر ، ولم يعد فى بيته طعاما ولم يعد فى جيبه مالا، ولكن لا أحد يشعر به، بل يطمح الفقراء فى الحصول منه على المساعدة والمعونة، والرمزية هنا للفقراء بالنمل والفئران،حيث يحكى الكاتب:” كانوا جميعا منهمكين في ملء بطونهم، لا يدرون شيئًا عن صاحب البيت الذي نفد طعامه، وضاعت نقوده منذ مدة، ويمنعه تعففه من أن يسأل الناس، ويتمنى في هذه اللحظة لو سخطه الله فأرًا أو نملة أو حتى جرثومة، كي يكفيه أقل القليل، ويستغني عن العالمين.”

مجموعة عطر الليل تشتمل على مضامين اجتماعية وسياسية ، وإن كانت لا تخلو من الصوفى والفلسفى، وينزع فيها الكاتب كعادته للحرية وينتصر لها، ويؤكد أن الحرية ثمنها غالى ولا يحصل الإنسان عليها إلا بالتضحيات ، ففى أقصوصة حقيبة، وبلغة الأنسنة ، تتحدى حقيبة صاحبها وتقول:” وسأجبره على تحطيم عظمى، وتفتيت لحمى، حتى يحصل على أوراقه، وأحصل على حريتى.”، ويظهر المضمون السياسى فى أقصوصات عديدة، منها،” قزم ونخلة”، “واجتماع”، “وشطرنج” ، ففى “قزم ونخلة” رمزية للإنجازت الوهمية للحكام حيث يحكى الكاتب:” هرع أهل القرية جميعًا، وفرغت البيوت حتى من الخُدَّج والرُضَّع ليروا القزم وهو يمتصي صهوة أطول نخلة في الوجود، ويرمي نحوهم رطبًا شهية، لكنها لا تصل إليهم أبدًا.”، وفى أقصوصة “خولى الأنفار”،رمزية لوصول شخصية لحكم دولة ما وهى غير مؤهلة له، حيث يحكى الكاتب:” وتخطى الرؤوس فى عجل، لكنه حين ارتدى بذلة الخولى القديم غطس فيها، وانكتمت أنفاسه، وسقط مغشيًا عليه.”، وفى “اجتماع” صورة وصفية معبرة عن نوعية من الحكام يتكلمون هم ولايستمعون لشكاوى أحد، وفى أقصوصة “شطرنج ” يتحدث الكاتب بطريقة بديعة ورائعة عن رغبة الناس فى تحقيق حلم الانتقال السلمى للسلطة، حيث يحكى عن فرحة شاب بفوزه فى لعبة الشطرنج:”عندها ترك الرقعة، ووقف يرقص بشدة، ويقول: من هنا فى هذا المقهى المعزول الصغير يمكن أن تجرى معجزة لا ينالها البشر فى ساحات الحياة المديدة.”

المضمون الصوفى حاضر بقوة فى ست أقصوصات هى (طريق”، تثاؤب،  “خلوة”، “ظلام”، “سباحة”،  “رسالة”، “باب ونوافذ”، “ممحاة”)، ففى “ظلام” يظهر المضمون الصوفى فى قول الكاتب:” كلما ضغط زر الكهرباء صرخت في وجهه الثُريَّا: لن يرحل الظلام حتى تضاء نفسك بنور المحبة.”، وفى “خلوة” يضع رجل كسور خبز وقلة ماء وورق وقلم فى خرج  ويحمله على ظهر حمار نحيل، ويقول:” وسرت خلفه أُمنِّي نفسي بخلوة طويلة، أتنعم فيها بالصمت الجليل مستعيدًا كل ما مضى من ساعات البهجة العامرة بما سمعت ورأيت وفعلت، وأحاول أن أرى الذى يجرى وراء الحجب، وقبيل الغروب أرفع ذراعيَّ محلقًا فى الفضاء البعيد.”، وفى أقصوصة سباحة يحكى الكاتب:” جلسوا ينصتون إلى سيمفونية “البحر” التي سمعوا أن براعة من ألفها فاقت الحد. أغمضوا عيونهم، وطوحوا رؤوسهم طربًا، وفي منتصفها راحوا يخلعون ملابسهم، سابحين فوق أنغام تسري بين الماء والسماء.”، وفى أقصوصة “باب ونوافذ” ، يحكى الكاتب:”وسمع همسًا جليلًا:آن الأوان أن تفتح الأبواب والنوافذ المغلقة داخلك لترى ما غفلت عنه.”، وفى أقصوصة تثاؤب، يحكى الكاتب:” فتح فمه عن آخره في تثاؤب طويل، فخرج من بين شدقيه كائن غريب، مغمض العينين، وقال له، وهو يتقدم نحوه في تثاقل: انهض لتلحق ما فاتك.”، وفى أقصوصة “رسالة” يحكى الكاتب:”وقالت لأصحابها:وحده الذي سمعنى، وطلبت منه غير مرة فما خيب لي رجاء.فانتفضوا، وتحلقوا حول الضريح، وأخرج كل منهم قلما وورقة من جيبه، وراح يكتب ما يريد.”

السردية عميقة الدلالة والمعنى أحد أهم مميزات المجموعة القصصية عطر الليل، ففى “توقيف” سردية دالة على تواطؤ الإعلام والحقوقيين مع الحكومة ضد معتقلى الرأى، وفى “فساد” سردية دالة على الفساد الحكومى، حيث يحكى الكاتب  عن مؤتمر لم يتحدث فيه أحد الأساتذة المدعويين لضيق الوقت، ويقول:” فى رحلة الإياب على متن الطائرة عرف أن كل هذه النفقات قد غطتها الجامعة الحكومية التى يشكو رئيسها دومًا من ضآلة ميزانيتها.”،وفى “أجر”، سردية دالة على معاناة المثقفين فى زمن الجهل،  فهى تحكى عن كاتب لديه 10 مؤلفات وليس معه أجرة الكشف ويستجدى الطبيب أن يأخذ مؤلفاته مقابل الكشف عليه فيرفض الطبيب وتنتهى بمشهد مؤثر، حيث يحكى الكاتب :” وقف الكاتب ونظر إلى الطبيب ساخرًا، وهو يسحب كتبه نحو الحقيبة، وسأله: وهل تعالجهم لشيء أثمن مما في حقيبتي؟”، وفى “صيد” سردية دالة على الرغبة فى الخلاص والحرية، حيث يحكى الكاتب:”  فلما وصل إليهم وجدوه حذاء ملفوفا في كيس بلاستيكي مملوء بالطين والقش والزجاج المكسور، وفي المنتصف تتقافز سمكة صغيرة، باحثة عن خلاص.”، وفى “زعيم” سردية دالة على بقاء الكلمة وقوتها، يحكى الكاتب:” مشي العجوز قليلًا، وعاد يقول:تكاثروا عليه وهزموه، لكن كل من قرأ وصاياه تعلم كيف ينتصر. “، وفى “باب” سردية دالة على التصاق السيرة السيئة بصاحبها ، حيث يحكى الكاتب:”لكن الواقف بالباب حين وضع أذنه وأنصت جيدًا، سمع من يقول بصوت خافت:بابكم من صفصافتى، كانت تظلنى فقطعتوها وتركتونى أنا وبقرتى للشمس تأكلنى.”

وفى “رابطة عنق ” سردية دالة على  ثنائية الجهل والحيوانية الشهوانية ، حيث يحكى الكاتب:” ومد يده والتقط رابطة العنق الأنيقة ولفها، مغمض العينين. حين فتح مقلتيه وجد أمامه كائنًا غريب الملامح، مشدود على رقبته حبل يتدلى معقودا على قدميه المفرطحتين.”، وفى “رقص” سردية دالة على ثنائية الرقص والعفة، حيث يحكى الكاتب:”ولما طال زمن الرقص قاموا مغمضي العيون وخلعوا نعالهم وراحوا يهتزون في عنف، فتسللت الراقصة من بينهم، وتركتهم يتصادمون حتى تساقطوا إعياء. “

تداخل  السرد مع الحوار يضفى طابع المتعة والإثارة على القصص ويزيد من جمالها فى نفسية المتلقى، والأمثلة كثيرة على ذلك، منها أقصوصة “رغيف” ، وأجمل ما فيها أن تربط بين الرغيف والنزعة الإيمانية للإنسان، حيث يحكى الكاتب:” قال لها مداعبًا، وهو ينظر فى عينيها بامتنان:

ـ أنت طيبة كرغيف خبز.

ردت مازحة كعهدها:

ـ رغيف! لمَ لا تكون فطيرة بالزبد والسكر، أم أنت بخيل؟

أمسك يديها، وزاد من التحديق فى وجهها الرائق الجميل، وقال:

ـ الرغيف أكثر طيبة وأصالة، والحاجة إليه أعمق وأوسع.

ومن يومها كلما مرت على بائع الخبز، وقفت دقائق أمامه تتأمل الأرغفة فى حال من التبتل والفرح.”

وفى أقصوصة “الطبيب” سرد يتداخل مع الحوار ليرسم صورة شجية مؤثرة فى نفسية المتلقى وتدفعه للتعاطف مع البطل، بل والتعاطف مع المثقفين المنكسرين نفسيا بسبب العوز والفقر، حيث يحكى الكاتب:

” جلس الكاتب الفقير إلى طبيب العيون الشهير، وأخرج من حقيبته نسخًا من مؤلفاته العشرة. مدها إليه قائلًا:

ـ ليست معى أجرة الفحص، وأعرفت أنك دودة كتب.

الطبيب

رمق الطبيب الكتب المرصوصة، وسأله:

ـ من أدراك أنك من الذين تروقني القراءة لهم؟

وضع الكاتب يدًا مرتجفة على مؤلفاته، وقال:

ـ ضعها على طاولة الصالة التي ينتظر فيها المرضى فيطالعونها.

 عاد الطبيب إلى الابتسام، وقال:

ـ أغلبهم لا يرون، كما ترى، ومن لديه بصيص من نور لا يريد أن يطفئه.

وقف الكاتب ونظر إلى الطبيب ساخرًا، وهو يسحب كتبه نحو الحقيبة، وسأله:

ـ وهل تعالجهم لشىء أثمن مما فى حقيبتى؟”

وفى أقصوصة “ملهى” يتداخل السرد والحوار لإضفاء طابع السخونة على الدرس القاسى الذى تقدمه راقصة لعلية القوم وكبار رجال الحكم،حيث يحكى الكاتب:

 

 

“طال العزف، وظلت الستارة على حالها، ثم ظهر صاحب المسرح مطأطأ الرأس ونظر إليهم وقال:

ـ رفضت الظهور، ولم أفلح في إثنائها عن القرار.

ضجوا بالاحتجاج، لكن كبيرهم، أشار إليهم بطرف إصبعه فصمتوا، ثم سأل:

ـ لمَ ترفض؟

زاد من خفض رأسه وقال:

ـ اعذرني فخامتكم، لن أستطيع الإجابة.

ولما صرخ فيه لينتزع منه الحقيقة، أجاب:

ـ تقول إنكم ترقصون أفضل منها، وإن كان رقصكم لا يُمتع ولا يُسلى.”

 

مقالات من نفس القسم