“عزيزتي سافو” لهاني عبد المريد.. رواية التفاصيل الصغيرة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 43
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

نهلة كرم

في أحد مشاهد رواية “عزيزتي سافو” للروائي هاني عبد المريد، والصادرة أخيراً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، يتخلى الراوي خالد عن آخر جنيهات في جيبه، كان من المفترض أن يشتري بها طعاماً، من أجل شراء كتاب لمحه وهو سائر. ورغم أن هذا الفعل قد يبدو للأشخاص العاديين أحمق، لكن بالنسبة لخالد أشعره قراره هذا بالاختلاف عن كل العابرين من حوله، الذين لم يعيروا مذكرات “نجيب الريحاني” أي اهتمام، بينما هو التقط الكتاب، وفضل أن يشتريه على شراء ما قد يسد جوعه.

الشعور بالفرحة الكبيرة لمجرد شراء كتاب يفسر كثيراً شخصية الراوي التي تتأرجح بين الثقة الشديدة في النفس، وانعدام تقدير الذات، سمة المبدعين التي جعلت خالد يترك كل شيء خلفه، الوظيفة الثابتة التي توفر له الأمان والدخل المنتظم، من أجل التفرغ للكتابة، التي تمنحه شعوره بذاته، بقيمته، فكان من الطبيعي أن يشعر بخلل كل شيء في حياته عندما يظن أنه فقدها، عندما لا تأتيه الفكرة، عندما يرص جملاً بجوار بعضها فلا يشعر بأن لكل جملة معنى قائم بذاته، كان من الطبيعي أن يشعر بالخوف من فقدانه لذاته، بعد أن ترك كل شيء من أجل الكتابة، ويشعر أنها تركته.

هذا الخوف الذي لم يظهر فجأة لدى خالد، لكنه كان يكبر معه. وهو صغير كان الخوف بحجمه، خوف من قسوة أبيه، وتنمر الصبية، يكبر فيكبر الخوف أيضاً، يصبح خوفاً من الغد، من الفشل، خوف أثناء انتظار صدور كتابه من أن تكون الصفحات ناقصة، يفكر جميع من حوله أنه حتماً سيكون سعيداً لأن كتابه سيصدر، بينما هو يعيش في حالة رعب من أن يكون قد حدث خطأ ما في نسخ كتابه، خوف يذكر كل من يقرأ بمخاوفه التي قد يراها الآخرون تافهة أو في غير محلها، لكنها تكدر من يشعر بها ليل نهار، فيتوحد من يقرأ مع أزمة البطل ومخاوفه، ويتعاطف معه، أو بمعنى أدق مع ذاته.

ويمكن اعتبار ذلك نقطة قوة كبيرة في السرد، فرغم أن الرواية تبدو نخبوية، بدءًا من اسمها الذي يحمل اسم شاعرة يونانية ماتت منذ قرون، وحتى مشكلة البطل التي تبدو كمأساة لكثير من المبدعين الذين يحلقون بعيداً عن الأشخاص العاديين، ويعيشون داخل ذواتهم، إلا أن التفاصيل الصغيرة تجعل الحكي ينزل للأرض، يقترب من الناس، ويجعلهم يشعرون أنهم الأبطال، هذه المخاوف مخاوفهم، هذا التذبذب، اتخاذ قرار والرجوع عنه، الأحلام التي تأتيهم ويتمنوا لو يعيشون بداخلها فقط، الأحلام الأقرب لروحهم، يقابلون بها من يشاءوا، مثلما كان خالد يقابل “سافو” التي ردت أحاديثه معها روحه إليه.

حتى بولا الذي تبدو شخصيته كفنان بوهيمي، يعيش على حد الكفاف من أجل الرسم، نراه في لحظة وهو لا يملك شيئاً، ثم في لحظة أخرى وهو يكسب من لوحاته، فيشعر المهتم وغير المهتم بالفن بالتوحد معه، الشخص الذي حقق أحلامه، لا يهم شكل الحلم، المهم أن هناك حلماً تحقق، وبالمثل قد تتحقق أحلام أخرى في حياة أحدهم.

حتى أشجان كانت تعبيراً عن ذلك بشكل أو بآخر، فتاة الليل التي لا نعرف كثيراً عن تاريخها، قد تبدو مثل أي فتاة ليل، ترضى بالحياة التي فُرضت عليها، لكنها حين لمست الأمان، الطمأنينة وسط أشخاص لا يرغبون في شيء واحد فقط منها، بدأت تأخذ قرارها بنفسها، أن تترك ما يجلب لها أموالاً أكثر ويقتل روحها، من أجل ما يعيد لها روحها ويشعرها أنها صاحبة قرارها، حتى لو كان ذلك بمقابل مادي أقل.

رواية “عزيزتي سافو” تلعب بشكل كبير على التفاصيل الصغيرة، لدرجة أنني تخيلت حين وجدت صفحات فارغة وسطها، أن مخاوف خالد تحققت، وأن المؤلف هاني عبد المريد هو خالد بطل الرواية، وأن الأمر جزءاً من السرد، ورغم أن الأمر ليس كذلك، ورغم أن الصفحات الفارغة الست تقريبا أضاعت عليً جزءًا من القصة، لكني استمتعت بها كقارئة عادية، تخاف كلما خاف أحد الأبطال، وتفرح كلما حقق أحدهم حلمه أو اقترب منه.

مقالات من نفس القسم