سارة عبد النبي
في نقطة ما من خيالي المستفيض في رسم تفاصيل الحكايات، كان صباح متوترا، حزينا للحد الذي تشعر فيه بالألم يسحق أمعاءك، بقلبك يتهاوى منك لأسفل، لبؤرة معتمة باردة بداخلك، تحيطه كل المخاوف التي كنت قد توهمت أنك انتهيت منها للأبد. أهو الوداع، وآن لذلك الخيال أن ينتهي.
أخذت تجمع زهور الياسمين المتناثرة فوق سور أسمنتي قصير، وتشبكهم معا، فصاروا طوقا جميلا. اشتهيته، مددت يدي لك، فرددتها بقسوة. وضعته فوق رأس فتاة تُحبها، ومحوتني تمامًا من ذاكرتك.
وجدتني وحدي في اللا مكان، فرحلت بعيدا حيث طفولتي، التي لم أدرك حينها أنها كانت شديدة البهجة، شيئا تعيسا أن ندرك جمال اللحظة بعد انقضائها بزمان، فتغدو كأضغاث أحلام، وتبدو الذكرى ناقصة شيئا جوهريًا ضاع في غفلة الطفولة، نظل نطارده في الكبر كالسراب.
أتعثر بين الحنين وخطوات أبي الهادئة، على نفس الأرض التي أخطو عليها الآن، ألوذ بظله الذي كان، بصمته الطويل المريح، كم كنا نجلس أنا وهو طويلا لا يزعج أحدا صمت الآخر، أما الآن فتحاولت لثرثارة، حتى أكون الصورة الأفضل التي يتقبلها الناس، فهم يعتبرون الأنطوائين الصامتين مصدر إزعاج أو مادة للسخرية على أقل تقدير، وما زالت غير سعيدة، وغير متأكدة أني أجدت ما أفعل، هذه الكلمات، هذه الأحاديث التي أتشاركها مع الآخرين لا تشبهني مطلقا، لا تخرج بسلاسة الحكي التلقائي، أعاني وأنا أخترعها، وأرتبها لتبدو جيدة، أفكر في ذلك كثيرا وتكسو الكأبة وجهي.
صمت أبي وملامحه الجادة كانت تخفي خلفها كوميديان ساخر ورجل شديد الحنان واللطف، يقف أمامي بشعيرات ذقنه السمراء وسنوات عمره الخمسون التي غادرنا بها، وعالمه الذي انطوى بعيدا خلف الزمن والسنين، وانطوت معه فترة مرحة من حياتي.
كان أبي منهمكا نشيطا كعادته، عصفورا رشيقا يغني بفيض من مشاعره المرهفة، وعيونك الصيف وعيوني الشتا، ملقانا يا حبيبي خلف الصيف وخلف الشتا، ينهمر اللحن بداخلي الآن، نهرا من الدموع، كم هى حزينة أغاني فيروز، حزنها كان فرحا غازل القلب ولم يكتمل، حلما اقتطع من داخلك، وسكبته تلك المرأة في عينيها وحنجرتها، ليخرج غناءا بساطته في التعبيرعن الأمل أواليأس تجعله موجعا في كل أحواله.
أخذ أبي يسقي الأشجار كالأيام التي كانت، يهذبها، ينثر الظل، و ضوء الشمس الذي يخفيه خلف ردائه الأبيض الفضفاض ورحل به بعيدًا حيث ذهب..
يعتني بالأزهار كأطفال صغار، يدللهم، براعم تبدو أكثر نضارة وخضرة بين يديه، يلامس الأغضان والأوراق بخفة وحنان غير عادي، عاودت الاستنشاق من جديد، روائح الليمون، الورد البلدي، الريحان، القرنفل، امتزجت في صدري كالنسيم الرطب، فشفيت، وانتعش العمر الصدىء للحظات..
عاتبته كثيرا على زراعة تلك الزهور البيضاء الصغيرة عديمة الفائدة، التي تتسلق جدار حديقتنا القصير، مندفعة منه خارج البيت، تغري الصغار، فيقطفونها بأيادي متسخة، ويصنعون منها أطواقا، يضعونها فوق رؤسهم وحول أعناقهم. شعرت بالشماتة عندما تذكرت أنها كانت أطواق هشة جدا، تسقط منهم سريعا في فراغ شارعنا الضيق، الملوث دائمًا بمياة زرقاء رائحتها بشعة.
ماتت جميع أشجار الياسمين في ذاكرتي، أحرقتها، فطالت نيراني أشجار حديقة أبي، غدت أرضها فارغة حتى في خيالي، جرداء مثل القلب الخالي من حكايات الحب، مازلنا نسميها الحديقة، ولكنها خالية من كل معاني الاسم وبهجته، كم هي صورة حزينة ومفزعة..
سلام ألا تخجل وقد خلقتك، ومنحتك اسما وكيانا ورسما، وتفاصيل كثيرة، غزت صورتك أفكاري، ولان لك قلبي على غير عادته، ألا تخجل وقد اتنزعتني من الماضي لأحيا من جديد، وأنت هنا بين أصابعي، بين نقطتي ضوء على جدار في غرفتي، صنعت أنت من هذا الوهم ساحة للحب، تتبادلان فيها القبلات والهمس، وبدايات الغرام الجميلة الدافئة التى اشتقت إليها معك، كل هذا على مرأى مني.وصوت أم كلثوم لم يفارق حتى الصباح، صالحت بيك أيامي، سامحت بيك الزمن، نستني بيك آلامي، ونسيت معاك الشجن..
ثم مشيت معها فوق الرمال، تسندها إن تعثرت، تذوبان معا في موجات البحر، ترتفعان وتهبطتان بخفة، كالطيور في الأعالي، حتى الشِجار والهجران بينكما كان مشهدا حميميا تمنيته. كل ذلك الانسجام ملأ قلبي بالغضب، بالآسى، شعور تعيس أن تملىء الأشياء الجميلة الملهمة نفسك بالآسى، بالضياع، تشعر أنك مجرد حشرة متطفلة على عالم سعيد، عالم لا مكان لك فيه، تنظره فقط من الخارج، ومن مسافة بعيدة تدور حوله، عارا عليك لو اقتربت، لو اشتهيت لأنه ليس عالمك، عالمك في أعماقك يتدفق كلهب البركان المشتعل، لا تستطيع أن تشير إليه لأحد، بل تهرب منه أنت ذاتك، لأنك لا تريد أن تصدق كل هذا الجنون..
حاولت تشتيتك عن ما تصورت أنه يبعدك عني، حاولت تشتيتك عن هذا المكان الذي يأخذك من أفكاري وتصوراتي، عن هذا الوجه الأسمر الذي يشبهك أكثر مني، كأنه تؤامك، وتسعدك رؤيته وسماع صوته أكثر من وجهي. هذا الوجه الذي تفتقده الآن وتشتاق إليه بشده، وتسهر الليالي تعذبك الألحان من أجله. أنا أشعر تمامًا بك، من يعرفك مثلي، ومن تدمي أحزانك قلبه أكثر مني. ولكنها حكاية قصيرة يا سلام، ضمن ألآف حكايات الغرام فلا تبتئس.
أتذكر في المرة الأخيرة، وكانت قاسية، حين عدت للمنزل وجدتك تجلس مع أمي في صالون منزلنا العتيق، تمضغ الكيك وتشرب الشاي سريعا لتمضي، لاحظت أنك تتهكم على أحاديثها العجوز عن الجيران وذكريات الصبا، فكها الفارغ من الأسنان، حركتها المرتبكة أمام الغرباء، قلت لك يا سلام هذه أمي، لا تسخر منها، ألك أم، أتحب أن يسخر منها عزيز لديك.
قرأت عليك فصلاً من روايتي عن الأحلام العنيدة والحب، عن عجلة الخيبات التي ندور فيها بلا توقف، عن الفنون التي يسحق جمالها عشاقها المقهورون، المرهفي الحس، تقتلهم بوداعة، قطعة قطعة منهم تذوب وتختفي، تنصهر من فرط سطوة اللذة عليهم، من فرط التناقض الحزين بين الانسحاق في عالمها الأثير، والرضا بهذا الواقع الضبابي. أي فخ هذا الذي تنصبه، نتصورها وهم نهرب من كل شيء إليه، ثم في لحظة ما ندرك جيدا كم جعلتنا نكتشف ما يدور حولنا بدقة أكثر من ذي قبل، ندرك كم هو مؤلم وحزين وغير محتمل.
أقرأ عليك كل فقرة بتأني فيظهر على ملامحك الضجر، صارحتني أنها مملة، فارغة من أي مضمون حقيقي، وهذا مصير كل ما قرأت عليك وما سأقرأ، ناصبتني العداء فجاءة، هاجمتني في كل كلمة أقولها، دارت بيننا أحاديث أرهقتني، كلمات مقحمة على حكايتي معك. قلت لا تملكين شيئًا، تقومين برص الكلمات والجمل لتبدو جميلة مبهرة، فقط لتثير مشاعر التافهين، والغثاء لي، ولكنك عاجزة عن التعبير بصدق عن شيء واحد حقيقي بداخلك، قلت لي لا تملكين شيئاً فتوقفي الآن لا أريد سماعك. أشرت لأمي وتابعت (وبالمناسبة لم أكن أسخر منها، بل منك.. ولكنك لا تسمعين إلا ما يدور بداخلك ولا ترين إلا ما تريدين رؤيته).
في لحظة كالنور الخافت في العين، دار بيا العالم، غضبت منك كثيرا، ليس لأنك لا تقول الحقيقة، بل لأنك تقولها تماما، هذا ما انقضى عمرى أهرب منه، كنت أعلم أن انغماسي معك في حكاية ما سيسبب لي كل هذا اليأس والإحباط، سيردني لحقيقتي المرعبة، أني شخص عادي جدا، عادي لدرجة الملل، لدرجة العدم. ومع ذلك غامرت بافراط دمرني. عانيت معك بشدة هذه المرة من قسوة الرجل الذي خلقته حنونا..
يا عزيزي يوما ما سأترك الكتابة، فلا تجذع وأنسى ما قرأت عليك، سأتركها مثلما تركت من قبلها أشياء كثيرة جميلة أحبها، فبيني وبين التخلي ميعاد مقدر ومحسوم.
أنا فقط وحيدة جدا، الكتابة مهربي، فلا تكن قاسيا في حكمك، لن أكن يوما كاتبة مشهورة، لن أنشر ما كتبت، لن يقرأه أحد غيري، وهذا سبب آخر للحزن، سيظل حبيس عقلي ودفاتري. هو بيني وبينك، وما بيني وبينك تنقطع أوصاله الآن..
تعرف أن الكتابة موهبة اخترعتها لتسليني، لتجعل من حولي يفكرون بي لوقت ولو قصير، الكتابة مثلك، مثلما اخترعت عندما انكرني العالم. ربما عندما أتصالح مع فكرة أني بلا أي مواهب على الإطلاق، ربما عندما أتصالح مع وحدتي، وأنتهي من التعلق بالأوهام والأمل والخيال المريض. عندما أكتفي منك تماما، وأنا أتقدم في طريق الشفاء من كل ذلك بالتأكيد..
سلام، منذ متى وأنت معي، منذ خمس سنوات مضت، ربما عشر أو أكثر، لا أعرف على وجه الدقة، هو عمر طويل فقط، ولكني أجهل البداية الحقيقية.
لا نعرف أبدا متى تبدأ حكايات الخيال المطاطة، التي تتشعب بداخلنا كالأشجار العملاقة المعمرة، ثم تسحبنا بداخلها ببطء حتى تبتلعنا تماما ونتوه، ويختلط علينا الحقيقي بالمختلق.
تلك العلاقة لم أقلق يوما فيها من فكرة الزمن، من تغير الطبائع والنفوس. طالما كنت معك أنضر، أجمل، أقل خجلا وانطواءا، خطواتي إليك أكثر ثباتا من أي علاقة أخرى كنت فيها، طفولة الأشياء في قلبي دامت، ولا أكتفيت أبدا من ما أريده من الحياة وأنا معك. دورنا على المقاهي، على السينمات والمسارح الكبيرة ذات الأضواء المبهرة، رقصنا معنا في غمرة يأسي وانكساري، حتى ذوبت زلزلة لحظات الفرح التي اخترعنها، ولم أتذقها إلا معك، شجن لحظات الحزن الذي يحيطني دائمًا بهالة من ضوءه الأزرق..
دورنا معا على أحلامي التي لم تعجزني وأنا معك، لأني كنت مثلك تماما يا سلام، صورة من ذاتك التي خلقتها بوجداني وشغفي، وفرضتها عليك. من أمنيات الشباب الأول، من ألحان أغاني عشقتها، وكم تمنيت أن يشبه رجلي الموسيقى، من مشاهد الأفلام الحلوة، من ملامح عابرة أحببتها. تكونت، ثم تبعتك كظلك عندما لم تتبعني أنت كظلي. طائرة ورقية يؤرجحها الهواء في يدي، لم أحاول أن ألجمها ولكني صرت أركض ورائها في استسلام مميت، حتى صارت هى الطرف الأقوى المسيطر، فجذبتني لأعلى، متحدية كل قوانين الجاذبية، بجانب الشمس والنجوم والكواكب كان قلبي متربعا، ولم أحسب وقتها آوان الهبوط المفاجيء.
اسميتك سلام، حتى أستطيع أن أهدأ قليلا, وتنعم روحي بالسلام والسكينة، فلا أرحتني الأوهام يوما يا صديقي.
كنت فقط أريد شخص أحكي له حكاياتي التافة التي تؤرقني، التي لا يلتفت لها أحد، أفكاري المشوشة المبعثرة عن نفسي وعن الآخرين، كنت فقط أريد من يشاركني الصمت ولا ينتقده. اخترعتك يوما ما في الليل، لأقول لك أني أحب ترافيس بيكل وأكره بيتسي بشدة، الملاك الأبيض الوديع في خيالات ترافيس الحزينة، خيالاته التي تمزق قلبي، وتجعلني أريد أحتضانه وحمايته من العالم ومن نفسه، ومن بيتسي الثقيلة الغبية، حتى جمالها النوراني يبالغ في توهمه ترفس، برغم ذلك أحببت وصفها له، هو نبي هو إنتهازي وإلى حد ما خيال. دخل قلبي بكل تناقضاته وخطاياه، عصفت روحي وحدته المضنية في سيارته التي يجوب بها ليلا شوارع المدينة. حلمت به يجلس في زاوية بغرفتي مرات، كانت عينيه كالنجم المضيء مصوبه نحوي برجاء، كان سكرانا ويبكي، يتكلم حديثا لا أفسره عن الحزن، عن الخوف، حديثا مقفى يشبه الشعر، نظرت لأمي وإخواتي مرات بخجل، ثم مرات بعتاب. تمنيت لو أن الغرفة خالية لبضع دقائق، فقط بضع دقائق. فالرغبة لاحتضانه مختلطة بوجع الندم من ضياع الفرصة تقرع قلبي بشدة، تجعلني أختنق. في غفلة من الزمن والناس، ناديت عليه من زجاج سيارته المفتوح، ترافيس، احتضتنه وقبلته على جبينه قبل أن يصلني الجواب، كان ذلك دافئا ومأسويا.. ثم وجدت من بين يدي عملاقا، ذو بشرة خميرة, رفعت وجهك وكنت لا تعرفني، انكرتني كالجميع، ثم تلاشيت من يدي في لحظات هى الأصعب والأقسي على الأطلاق.. في فراغ السيارة سكن مكانك عتمة موحشة، وأنفاسك أحتل مكانها برودة الشتاء القارص، لم يثنيك رجائي بالبقاء، ولا رغبتي الشديدة في الحديث معك ولو لوقت قصير، كنت فقط أريد أن أقول لك أني أحب ترافيس بشدة وأكره العالم الذي ينكره.