2
لو أمهلتهُ الطلقةُ
لعرف أن الحروب الأربعة التي عاصرها ,
زوجاتهُ الثلاث ,
ولدهُ الأصغر على وجه الخصوص وهو يحبّ على يديهِ ويستعطفهُ أن يسافر معه إلى البلاد البعيدة ,
كرم العنب السمّاري الذي كان يباهي به جيرانه قبل أن يرحلوا ,
الحرباء التى تظل تلصفُ بالأخضر الزاهي فوق غصن العوسج , تظن أنه لن يراها , لن يتطلع لعينيها الحجريتين وهما تدوران حول نقطة ثابتة ,
عصا اللوز التي لم تعترض على دأبهِ ومشاويرهِ الطويلة رغم تآكل كعبها الجلدي , لم يصمد لشهرٍ واحدٍ بعد أن أمضى الإسكافي ساعة أو أكثر في تثبيته باللاصق والمسامير المدببة الصغيرة ,
حتى رمل الدرب وحصاه , جمهوره المخلص ,
كل هذا لم يكن كافياً ليقنع السلاح الذي أعطاهُ ظهره هو وصاحبه
أن الشنار لا يبول ,
وأن شجرة الزيتون التي تتوسط البيت
زرعها أبوه ذات شتاء قديم
ولم يوصه بأن يقصّ لحيتها .
3
هتف في قلبه :ليست الجاذبية , لو كان نيوتن حياً لنتفت شعر ذقنه ,لم يتوقف كثيراً أمام : هل كان نيوتن حليق الذقن أم كان يطلق لحيته ؟ , قال لنفسه : لو لم تخرب التفاحة لما سقطت من الشجرة ! , لولا خرب كرم الزيتون لما شردت أسراب الدويري والحجل , لولا خربت البيوت لما رحل الناس ,
.. أما الكلاب الضالة ملعونة الوالدين فقد اختفت هي الأخرى بعد أن فشل بكل الطرق في إبعادها عن حلال البيت من نعاج وماعز ودجاج , باستطاعته الآن أن يربي ما يشاء في البيت ! , أي بيت ؟
ملعونة الوالدين لو استطاع أن يعرف إلى أين رحلت لما كان في حاجة لبراهين يثبت بها نظريته .
4
سقطت الدانة فوق سقف البيت , طبيعي أن لا ينجو شئ , أحدٌ ما كان يسعل وهو يجاهد أن يسحب ما يشبه جسداً . محكومة بالأنقاض تتكور البقايا , قاعدة أريكة هنا , قاعدة مرحاض مقلوبة على قفاها هناك , صنبور ميت , حائط يميل على وشك , فوضى بلا رئة توزع الغبار , نصف ليمونة ين حجرين , أبخرة الشاي دون أن يسأل أحد : كيف لم ينقلب الكوب على قفاه ؟ , كان واقفاً ما يزال كأن شيئاً لم يتغير , أو كأنه ينتظر فماً هو وحده من يدلهُ على سر علاقة الشاي بالليمون .
5
فاجأهُ المسلحون وهو يجلسُ فوق حجرٍ من بقايا بيتهِ , يدخن سيجارته ويجادل جاره الذي اختار حجراً أقل ارتفاعاً ليجلس فوقه حول حال البلاد البعيدة التي سيرحلان إليها , فرّ ذكران من الدويري كانا يتعاركا في الجوار , أشار كبيرهم من بعيد فهب جاره واقفاً , حرك سبابته : لا لا أنت , إلى الداخل جداً دخل نصل السبابة فحدث ما كان يخشاه , قدمُ أحدٍ غيره كانت تخطو , ” ألا تعرف أن التدخين حرام ؟ ” قال الملثم الذي لم يغادر السيارة فتحركت غيمة سيشكرها في وقت لاحق , دعس السيجارة تحت القدم التي عادت لتكون قدمه , مدّ علبة التبغ وهو يستعطف : ” بالله عليك افرمها بيديك ” , أشار إليه الملثم أن يفعل هو ففعل وهو يمدّ القداحة :” حتي تتأكد أنني لن أفعل ثانية ” , بودٍ هذه المرة قال كبيرهم : ” احتفظ بها ربما تحتاجها ” , تتابع الود فكاد أن يتورط ويقول أنه لن يمضي الليلة هنا لكن غيمة أخرى وقفت فوق رأسه ليبلع لسانه فيسأله الملثم : ” مع من تقف في هذه الحرب ؟ ” , بروحه التي دخلت إلى مخبئها قال متلعثماً : ” أي حرب ؟! , أشار الملثم إلى الأنقاض فتجمدت أطرافه , بإلهام من حمامة وحيدة لم تشرد مع سرب الحمام الذي كانت زوجته تربيه تمالك ما بقى من حواسه ليقول : ” اسمع يا رجل لو قلت لك أنني مع الطرف الأول ربما تكون أنت من الطرف الثاني , ولو قلت لك أنني مع الطرف الثاني ربما تكون أنت من الطرف الثاني , أنا مع حلالي وأهل بيتي ” , ضحك الملثم وأشار للسائق فاستدارت اللاندكروز وتحركت تجر خلفها خطاً طويلاً من الغبار .
6
كل ليلةٍ تتدللُ عليه , لا جيران هناك , ولا أطفال يختبئون تحت أغطيتهم , يفتحون آذانهم على غنجها وتوسلاتها التي بالكاد يسمعها ذكر الحمام فيرتعش ريش ظهره , ويتحرك في فقصه نشواناً ؛ الليلة – بعد هذا الدويّ الذي بدأ من بعيد – لم ينادها , هي التي رمت بكامل بشرتها الخلاسية بين يديه , لا أحد يعلم من أين عتمة جاء هذا الكروان الذي أطلق صيحة أولى وأخيرة , بعد نهارين وبجهد شاق رفع العابر بقايا السقف ليجدهما ملتحمين , على وجهها بقايا ابتسامة , أما هو فكأنه كان يبكي .
………………….
( * ) مقاطع من نص طويل