طارق إمام
(1)
تُعرّف ساردة رواية “سقوط حر” لعبير إسبر (نوفل، بيروت)، نفسها مبكراً، مطلع الصفحة الثانية من الرواية. تُصرِّح بالضمير الأول، وبنبرةٍ اعترافية: “أنا ياسمينا ابنة خليل داغر”، كأنما بتعرية هويتها الروائية في صيغتها الأكثر مباشرة، تُنكر كونها شخصاً آخر بأكثر مما تؤكد كونها هي.
كأنها تنفي بقوة الإثبات نفسها حضور هويةٍ أخرى: لستُ عبير إسبر.
وكأن “إسبر” تعرف، مسبقاً، ما قد يؤول إليه فعل التلقي حيال ساردتها، ومحكيتها من ثم، لا سيّما ونحن نخوض سرديةً بالضمير الأول لا تعدم فيها الساردة بكل تأكيد مشتركات عميقة مع المؤلفة، فضلاً عن بنيةٍ تُوظِّف العديد من فنيات الرواية السيرية، وأهمها المراوحة الدقيقة بين التسجيلي والتخييلي.
بحسم، تخمد إسبر هذا الأفق، تغلق بابه المفتوح سلفاً، ومجاناً، لتؤكد أن عملها هذا ينتمي للتخييل، باختصار: لقصة ممكنة الحدوث، وليس لقصة حدثت.
لم تشأ إسبر أن تلوذ بالحيلة السهلة التي يلجأ إليها أغلب الروائيين، بتدشين توطئة تؤكد أن هذا العمل متخيل وأي تشابه بينه وبين الواقع ضربٌ من المصادفة. الفارقُ شاسعٌ بين المنحيين، فأحدهما يقع خارج متن الخطاب، بينما الثاني، ما اختارته إسبر، ينهض في قلبه، جزءاً من جسد المقول الفني نفسه، يزيحه من اللحظة الأولى خارج خانة الإيهام نحو خانة النص الواعي بذاته، أي الميتاسرد.
نحن بالتأكيد أمام نصٍ واعٍ بذاته، يعري التخييل نفسه فيما يعري تقنية عمله، ذلك أن الواقع ليس مادة مكرسة للإيهام، بل للمساءلة. وتوظيف أدبيات السيرة، أو اليوميات، أو التسجيل، يمثل أداةً مثالية لنصوص تعرية التقنية والبحث في ما وراء التخييلي، وتقليب المتوهم نفسه ضمن رؤيةٍ “نقدية” تجعل الكتابة نفسها مادةً للكتابة وموضوعاً لها. وهذا ما تنجح فيه رواية إسبر في تقديري لأبعد حد.
تروي “ياسمينا داغر” قصة، باعتبارها تبحث عن قصة، وتُراجع تقنياتها داخل النص نفسه، النص الذي، كما سأوضح، يطمح لأن يكون “نصاً يُكتب الآن”.
(2)
لن تكتفي “ياسمينا داغر” بالاسم، كأنه يبقى هوية ناقصة إن لم تُشفع بالفعل الدرامي، أو “الفعلة” إن شئنا الدقة: “أنا ياسمينا ابنة خليل داغر، قتلتُ دون ندم الطبيب الخرف خليل إلياس داغر صباح يوم الأربعاء في 13 من شهر آب عام 2012”.
صيغة تقريرية، يمكن اجتزاؤها من محضر شرطة أو تسجيل تليفزيوني لقاتل، لكن هذه الصيغة هي بالضبط النغمة السردية الكبرى لصوت الشخصية الروائية هنا: لغة لا مبالية، تخلصت من حمولاتها الانفعالية (والعاطفية) لتسرد قصتها بأكبر قدرٍ من التقشف. هذه اللغة نفسها ستلعب دورين معاً: دوراً وصفياً يغذي التسجيلي، ودوراً تأملياً يقدم الشخصيات من الداخل، في محكيةٍ استبطانية، مادتها الصخب الداخلي الأفكار.
طريقة تقديم الشخصية تلعب دوراً آخرمهماً في سردية إسبر، فالتعريفُ يمنح النص من بدايته مسرحةً فادحة، تفترض حضوراً ملموساً لمتلقٍ ما، كأن الرواية التي تتخذ من الاسترجاع عموداً فقرياً، تتحقق هنا والآن. كأننا بصدد عرض، والعرض هنا مونودراما روائية، يُخلِّقها مونولوج داخلي طويل لا تقطعه فواصل أو عناوين، لا فراغات بيضاء حتى تعمل كوقفات، إلى أن تنتهي الذات من مونولوجها، المتدفق كأنه يبدأ وينتهي في جلسة، وكأن الرواية كلها زفرة.
تنجح إسبر من اللحظة الأولى في خط سرديةٍ توهم بالسيرية قدر ما تُحكم فوق وجهها القناع. سرديةٌ تسمح بتقديم التعليق المباشر الذي تتيحه، وتبيحه، سيرة، بقدر ما تتكئ على تخييلٍ يتاخم التغريب. يجعل هذا التعاطي من “سقوط حر” نصاً ذا كثافةٍ شعرية تؤطر، وتتخلل، وتعيد تأويل مركزه السردي، ما جعل من عدد صفحاته القليل (112 صفحة) حيزاً مثالياً لعكس المفارقة الفادحة: حكايةٌ متسعة في الزمن الكرونولوجي دمجتها، في زمن السرد، يدُ شاعر. يدعم ذلك استخدامٌ خاصٌ للغة، بغية تأمل القصيدة التي تتحرك تحت جلد الحدث، وليس فقط لتنمية محكياته سردياً.
أقول “محكياته” لأن “سقوط حر” رواية إطارية، لا تمثل فيها محكية البدء سوى منصة لمحكيات تلد إحداها الأخرى، مدعومةً بسيولة المونولوج الداخلي الذي يسهم بدوره بنيوياً في خلق “تقافز حر” وغير مشروط بين المحكيات التي تعكس كل منها نفسها في مرآة الأخرى.
(3)
من مشهدٍ عبثي، لابنةٍ تفلت يد أبيها على دَرَج، تاركاً إياه يسقط وقد أمسك الهواء، تقدم “سقوط حر” قاتلةً من نسل “ميرسو” ألبير كامو.
هكذا تنهضُ سرديةٌ جوهرها الخيانة: خيانة ابنة لأبيها لحظة تعكزه عليها، ومن قبلها خيانة أمها لذات الرجل حين رفضت المدينة بداخلها أن تمنح نفسها للريف بداخله، وفي الأخير: خيانة المدينة/ دمشق، لجميع عجائزها، وأولهم الأطفال، حين مدوا يداً تتوسّل النجاة، إلى لا أحد.
هي بلا شك رواية التحوّل السوري، لكن عبر همس الفرد لا صراخ قطيع يختزله اسمٌ ورقي يملك كل الحكايات عدا حكايته. لا تنجرف الساردة أبداً إلى فخ التأثير العاطفي، أو الإطناب، ولا تتحول اللغة الأقرب للامبالية إلى الغنائية رغم أن السرد بالضمير الأول فخٌ نموذجي للطامحين في التغنّي. وتبقى، في حدها هذا، قادرةً على انتزاع قصائد خشنة من واقعٍ لامبالٍ بدوره. ربما لهذا السبب اختارت إسبر لصوتها السردي أن يكون قاتلاً لا ضحية. حتى لو كانت “ياسمينا” ضحيةٌ بلا ريب، فإنها تقرر أن تتحدث وهي تطلق الرصاصة لا وهي تتلقاها.
“سقوط حر” هو أيضاً نص استرجاع بالكامل، حيث لن تكون لحظة القتل سوى عتبةٍ للنهوض برفات تقطن المقبرة الأشد ظلاماً: الذاكرة. ذاكرةٌ تقطن الذات مثلما تقطن مقبرةٌ بيت الأهل، كأن البيت موضوعٌ للمواراة، وكأنه مكان للرفات. والبيت، كتمثيلٍ للمدينة أو للوطن حتى، لن يُزج به لفخ الرمزية الفجة، إنه بيت “من لحم ودم”، ربما أكثر من قاطنيه أنفسهم.
في مقطعٍ واحد بانورامي، تتمكن الساردة من تلخيص دمشق، لتقدم تحوّلات المدينة عبر وظيفة فادحة الدلالة، يمثلها “طبيب التجميل”: “مع سريان التفاهة والسطحية في طرقات المدينة، تعاظم عمله التجميلي، فقد تدفق المال في شرايين الشام التي كان قد خنقها التقشف والعزلة السياسية لسنوات. ثم حملت التسعينيات رشاقةً ما إلى جسد المدينة التي بدأ إيقاعها بالاختلاف. تعلمت الشام السهر، بدأت تشاهد ما يحدث في العالم بخوف وبأناة”. إنه أداء سردي متواتر: يوصف مكان أو شخص، بمشاهد متلاحقة في حيزٍ سردي واحد، وبقفزات زمنية واسعة تقرب مشاهد ذات دلالة مشتركة في متتاليةٍ خاطفة، بمنطق “الفوتو مونتاج”.
اتصالاً بالأمكنة، تتخلق شخصية “ياسمينا” في مكان دال، يحتشد برمزيةٍ فادحة، هو المطار. قادمة من بيروت في طريقها لدبي، تنهض الساردة بين وجهتين ليس من بينهما وطنها. إنه تأسيس نموذجي لـ”رواية طريق”، مفاصلها محطات، في المكان والزمن ومن قبلهما الهوية. لن تكف الأمكنة عن التواتر والتوالد، كالمحكيات المولَّدة، بينما الحكاية/ الإطار ستخلق بالمقابل المدينة/ الإطار: مدينةٌ، دمشق، هي من تسرد سيرة المدن الخارجة من محكيتها، كأنها محض تكئة لانبثاق العالم الذي يلتقط الخيط رافضاً أن يلتفت إليها.
رغم ذلك تستبعد ياسمينا الحل المتوقع بأن نكون أمام فصول/ محطات مفصولة طباعياً. نحن إزاء كتلة منسجمة شكلانياً لكنها عامرة بالنتوءات والانحرافات والتحولات موضوعياً، في سيولةٍ سرديةٍ كتيارٍ تغذي الصخور اندفاعه بدل أن تكبحه. يسمح هذا بتحويل “اللحظة السورية” نفسها إلى لحظةٍ سائلةٍ تتدفق بين الأمكنة، دون أن تحظى بمكان واحد كإقلاع، أو كوجهة.
(4)
بمحاولة تجريد “ياسمينا” و”الأب” كشخصيتين روائيتين إلى جوهرهما الوظيفي، سنكتشف أن الصراع العميق بين الذاتين، والذي أفضى بإحداهما إلى قتل الآخر، هو صراع ذاتين تتنازعان الدور ذاته، كأنه تنافر قطبين متشابهين.
لا تختلف وظيفة ابنة “طبيب التجميل” كثيراً عن هوية أبيها، لتصبح امتداداً لوظيفته مثلما هي امتداد اسمه، فهي منتجة تليفزيونية، تنتج مسلسلات “تجميلية” أيضاً: “من ذاك النوع السوري الغنوج الذي فتن المشاهدين العرب في السنوات الأخيرة”. تجميلٌ آخر، تمارسه هي، يوسِّع رقعة الوجه الذي كان ملعباً لتقويم للأب. يُجمِّل الأب وجه الشخص، فيما تجمل الابنة وجه المدينة، والبلد ذاته، دفعةً واحدة. وكلاهما يكسب عيشه من تغيير الهوية بالذات، ومن تغريب الملامح.
ومثلما ينتقم الأب لريفيته بتجميل وجه المدينيات بالذات (هو المطعون بتخلي زوجة مدينية)، تخفي الابنة هويتها الأصلية كروائية. كأن الكتابة ريفيتها التي لا تلائم مدينة نصها الوحيد المقروء هو الصورة.
خليل داغر وياسمينا خليل داغر: قناعان يخفي كل منهما جوهر هويته الفردية من أجل هويته المعلنة كشخصٍ بضاعته الرائجة هي القطيع. قناعان، ينبغي لأحدهما أن يسقط عن وجه صاحبه ليحيا الآخر، ولا سبيل لسقوط القناع إلا بقتل الوجه.
تقتل الابنة أباها فيما تواصل توسيع رقعة عمله، كأنما هو تمكين من انفرادٍ بالميراث، إذ في حقيبة أمها المعلقة على كتفها، صفعةٌ نهائية، ترثها، كآخر ما تبقى من بيتٍ باعه هو، ليمنح ابنته المبرر اللازم لتصفيته. “الأم”، ضلع المثلث المتبقي، هي المرأة التي تبحث عن تجميل أنف عند الطبيب، وهي الجالسة أمام التليفزيون لتستهلك مسلسلات الابنة. إنها الضلع الواصل بينهما، والمستفيد من “بضاعتهما” معاً، حتى إن بدت ظاهرياً قوةً مناوئة.
ثالوث آلهةٍ مغدورة، تتخبط في أرضه الوقائع، (أقول أرضه لأن لا سماء هنا). وتتشكل بين أضلعه المفارقة الكبرى لرواية إسبر، إذ تقدم معكوس ميراث الرواية البوليسية كله وقد أوهمت بتبنيه: هذه المرة نبدأ من معرفة هوية القاتل، وننتهي بالتشكيك فيها، هذه المرة نبدأ بالإجابة وننتهي بالسؤال.
هذه المرة، الجميع هم القتلة، ربما لأن الجميع هم الضحايا.