عبد الهادي المهادي
اجتمعت الحيوانات عاشبها ولاحمها ذات عشية بأمر من الملك تحت السنديانة الكبيرة شمال الغابة حيث يوجد ضريح جده الأكبر، اجتمعوا للتباحث في شأن مرض خطير لم يكونوا قد أطلقوا عليه اسما مناسبا بعد، مرض انتشر بينهم جرّاء كثرة الذنوب والمعاصي التي يقترفها بعضهم ـ هكذا قدّروا جميعا. وقفوا متباعدين يضعون كِمامات احتياطا من العدوى، فقد اكتشفوا بمحض الصّدفة أنه ينتقل عبر اللّعاب والتنفس. كان الهدف الأساسي من الاجتماع معرفة المذنب الحقيقي وتقديمه قُربانا “حتى يرضى الإله، ويرفع عنّا المحنة والبلاء”، هذا ما شرحه لهم الأسد في خطبة قصيرة.
كان عليهم أن يعترفوا، فهم لا يدرون ما الذي يفعله كل واحد منهم في الخفاء، وتحت جنح الظلام.
ولتشجيعهم وإعطاء القدوة والنموذج، بدأ الأسد بالاعتراف قائلا: “منذ سنوات وأنا آكل ما لا يحصيه العدّ من الخراف والشياه، بل إني ذات مرّة التهمتُ راعيا أعجبتني بِنْيَتُه، ورغم أنه حاول أن يغريني بأن يقدم لي بين الفينة والأخرى كبشا سمينا، إلا أنني فتكتُ به”. توقف قليلا لاسترجاع بعض أنفاسه قبل أن يتابع بقوّة: وفي النهاية، ما الذي كان عليّ فعله وقد حاول رِشوتي!
ارتفعت الأصوات بالتصفيق الحار والتنديد بالسلوك الشنيع الذي صدر عن الراعي، قبل أن يُسكتها الأسد قائلا: دعوكم الآن أعزائي من الحماسة، فنحن في زمن جدّ عصيب، واصْدُقوني القول، ولا تخشوا شيئا: هل تروْنَني مذنبا !؟
ساد الصمت، ونظر كل واحد منهم إلى من هو أقرب إليه في شك، قبل أن ينبري بغلٌ بثقة وشجاعة نادرتين ويقول: يا سيدي، كان عليك، وأنت الملك، أن تكون رؤوفا بالراعي، ما دمت قد أكلت غنمه !
وما كاد ينتهي من كلامه حتى باغته الأسد بلطمة قوية على وجهه كادت تطير برأسه، وأوشك الأمر أن يتطور إلى إعدام ميدانيّ أمام الحضور، لولا أن الثعلب الماكر ـ لأمر في نفسه ـ أنقذ الموقف قائلا:
ـ حاشا سيدي، ولا عاش من خَطّأك، ربما صديقنا البغل خانه التعبير فقط، كان يريد أن يقول بأنهم يستحقون أكثر من ذلك… بل إنك ـ والله ـ قد شرّفتهم بافتراسك لهم سيدي.
التفت الأسد إلى الثعلب بمكر وقال له: من علّمك كلّ هذا العمق في الحكمة أيها الصّديق الشّاطر؟
ـ اللّطمة على وجه البغل سيدي، أسرع الثعلب في القول.
صفق الحاضرون بنشاط، ولم يجرؤ أحد بعده على الكلام في الذي اقترفه الأسد.
الواحد تلو الآخر راح الكلّ يعترف، دون أن يستطيعوا الوقوف عند المجرم الحقيقي، لأنهم جميعا كانوا يجدون الأعذار لبعضهم البعض… كانوا مجموعة من الملائكة والقديسين، هكذا سيخيّل لكل زائر لا يعرف أسرار الغابة.
ولكن القُدّاس لم ينته بعد، فقد انتبهوا أن هناك من تخلّف عن الاعتراف.
التفتت العيون جميعا إلى الحمار، كان هناك بجانب شجرة يقف شارد البال.
منكّس الرأس تقدم بهدوء بين يدي الجمّ الغفير وقال في خفوت: أذكر أني مررت ذات يوم من العام الماضي بغرسة صغيرة في مِلكية فقيه المسجد، ودعاني الجوعُ والفرصةُ المواتية والعشب اليانع وثقتي في سماحة الفقيه، وأعتقد أني يومها أُصبْت بمسّ شيطاني… نعم بمسّ شيطاني أُصبت، لا شك في ذلك، وإلا لما قضمتُ من حشائش تلك الغرسة مِلْءَ لساني.. ما كان يحق لي أن أفعلها… عاقبوني أرجوكم… عاقبوني، إني أستحق. وأجْهش بالبكاء !
أطلق الجميع عَقِبَ هذا الاعتراف تأوهات المفاجأة؛ كان الحمار آخر مَنْ يمكنهم اتهامه!
سريعا تحوّل الأمر إلى صرخات استهجان في وجه هذا المجرم الأحمق؛ لقد تعلموا في المدرسة أن “الاعتراف سيد الأدلة”، وها هو من كانوا يعتبرونه درويشا خارج أية شبهات يُقرُّ على نفسه. ولم يتوقف الصّراخ والاحتجاج إلا بعد أن برز الذئب من خلف الأسد قائلا في ألم وخشوع: “تأكل حشائش الغير بدون أي إحساس بالمسؤولية، وبدون أي تقدير لتعب الآخرين”، قبل أن يتابع في حزن وأسى: “وفوق ذلك هي في مِلك فقيهنا… يا لها من جريمة مُخزية !”.
…………………
[1] . تنويعٌ على أقصوصة “الحيوانات المريضة بالطاعون” لجان دو لافونتين