تامر عفيفي
ماذا لو تحولت كل أسئلتنا واستفساراتنا وتوتراتنا إلى أحلام حقيقية …. نمارس معها في الحقيقة كل انواع التصديق والإيمان كما المرئيات؟.. ماذا لو تحولت كل خفايا حياتنا ومكنوناتنا المكبوتة إلى مشهد واضح يتراءى لنا ليكون هو عالمنا الذي لا يراه الآخرون؟ بالفعل..كل أحلامنا كذلك… هي أسئلتنا التي لا يمكننا الإجابة عليها .. توتراتنا التي يخلقها المحيطون بنا.. أسرارنا التي لا ينبغي أن يطلع عليها الآخرون.. أفكارنا التي يحرمها المجتمع ونصير نعبث معها ونداعبها في نومنا وكأنها مجتمعنا الحقيقي .. كل هذه الأشياء بالفعل هي أحلامنا .. وكل هذه الأحلام بالفعل هي عالمنا الحقيقي الذي لا يراه الآخرون .. وإنما نراه نحن في زهد عن أن يدركه كل من هو خارج عن إطارنا .. عالمنا الخاص .. وأشباحنا التي تلازمنا في كل وقت وفي كل مكان … لتحكي لنا غيبياتنا في أشكال مجسدة مختلفة .. تجعل كل عوالمنا تشبه في الحقيقة ‘ عالم المندل’..
‘عالم المندل’ رواية أحمد عبد اللطيف الثانية .الصادرة عن دار العين، والتي كلفته الكثير من تورط فضوله الأدبي ليخترق احد العوالم الدفينة والمخيفة.. هذا العالم الذي يمكن أن تراه في فتاة عانس في الثالثة والثلاثين من عمرها.. ترى في منامها أن لها عضوا ذكريا.. وشاءت كل الأزمنة التي رحلت في حياتها أن تتداخل وتتصارع في تلك الساعات المختصرة الشائكة … عندما تختصر الساعات زمنا بعيدا فأنت بلاشك ستتضطر للوقوف أمامها كثيرا .. وخصوصا وهي على بعد ساعات من زواج حقيقي .. الزواج الذي يبدو للوهلة الأولى طبيعيا جداَ لفتاة مثلها.. ولكنه بدا لديها أمرا يخلق بداخلها الكثير من التساؤلات والريبة واسترجاع كل ماهو مؤلم ومضن ومخيف.. إنها تنتظر لحظة زواج في هذا اليوم المرتبك بكل تفاصيله .. يوم كامل يمر عليها وهي في طريقها لهذا الأمر الغامض .. كثير من الأشياء جعله يبدو مكانا متوترا في ذهنها .. كان أهمها هذا الحلم العنيد المستهين بكل ما تقدره لها الظروف يومها .. حلم جاء ليدمر كل محاولاتها في إبداء رغبة ولو بسيطة في الرجل. وفي هذا الزوج التعيس في خيالها .. لأنه قرر في لحظة ما أن يتزوجها.. ولكن ماذا تفعل وهي الآن بعضو ذكري ظهر لها في منامها فجأة ليغير كل حساباتها المنطقية لحياة لم تكن اصلا تحمل الكثير من المنطق ..
لم يظهر الكاتب أي رحمة تجاه بطلته وهو يضعها في مواجهة مع كل الملامح البغيضة في حياتها .. تلك الملامح التي بدت وكأنها اتفقت على تكوين كل ما هو شبحي ومقيت حول الفتاة التي اتخذت من القبح سمة لأنها في الحقيقة لا تمتلك سمة أكثر وضوحا واكتمالا منها.. ولم يظهر الكاتب أي شفقة في اقتياد تلك الشخصية إلى كل الخيالات والحكايات التي حولت حياتها إلى صراعات معقدة مع موروثات ثقافية وإملاءات اجتماعية وحكايات كانت في السابق لغيرها .. ثم صارت لها دون أن تدري .. فكل هذه الحكايات التي كانت تحكيها الجدة للأم عن العالم الآخر والكائنات الخفية التي تشاركنا حياتنا دون أن ندري .. صارت هي نفسها الحكايات التي تحكيها الأم للطفلة التي لم تكن لتختار شيئا في حياتها.. هي حقا لم تختار .. حتى تلك الصداقة بينها وبين الفتيات لم تكن تحوي أي معنى للصداقة الحقيقية.. فهي علاقة نفعية بغيضة لم تترك في ذهن الفتاة إلا السخرية والتهميش من هذا الدور السقيم التي كانت تقوم به كطرف ثالث عندما كانت تخرج مع صديقاتها ليتقابلن بعشاقهن في تجارب مثيرة للجميع.. كل الأطراف إذن كانت تدرك مدى حقيقية كونها ماعدا تلك الفتاة التي تشاهد في صمت.. تشاهد من يستخدمها في أدوار هامشية.. جعلتها طوال الوقت تتمنى ـ وهي لا تعي لماذا تتمنى ـ أن تجرب الأدوار الحقيقية يوما.. دائما ما تشاهد تجارب الوله والعشق.. وهي خارجها.. ويستأمنها الآخرون على بناتهم لثقتهم في أخلاقها.. وهي التي لم تدرك يوما أي معان حتى من بعيد .. للانحراف ، طرف ثالث في العلاقات العاطفية.. وطرف ثالث في منزلها مع حكايات أمها وجدتها ..إنه هو الطرف الثالث المهمش… ومثل هذه الفتيات بدون شك لا يملكن أي مستوى من مستويات الرؤية الحقيقية … فعندما لا تمتلك خيارات حقيقية في حياتك… لن تمتلك على الإطلاق صورة لهذه الحياة.. حتى تلك التي تفرض عليك.. لا تستطيع رؤيتها.
وبينما أنت تتابع لغة سردية هادئة متاملة توهمك بمزيد من الخضوع وشخصية لا تمتلك أي نوع من أنواع اليقين، تقودك نفس اللغة إلى حالة من حالات التمرد والمحاولات المتكررة للتخلص والفرار، ماذا لو صارت كل النساء بعضو ذكري؟ ماذا لو حاولت الفتاة الخروج من أطر حياتية لم تضع نفسها فيها على الإطلاق؟ ماذا لو عاشت في عالمها؟ حلمها المتمرد؟ مجتمعها الذي يمتليء بهذا النوع من البشر .. نوع لا ينتظر الإشارات.. نوع يكسر كل الموروثات التي لم نخترها بعد؟ مؤلم جدا للإنسان أن يكتشف فجأة أن كل ما يدور حوله بالفعل من صنع أشخاص آخرين ، ..كل الطرق التي يسير فيها لم يكن هو من مهدها.. وكل الأشخاص الذين قابلهم انضم لهم هو في سياقاتهم الخاصة بهم ولم يفكر أحدهم في الانضمام لسياقه أو حتى التفكير في شكل لهذا السياق المنعدم الملامح .لم تكن زغاريد الجيران وفرحتهم حقيقية بالفعل ..ولم تكن صديقاتها على علاقة بها بالفعل.. ولن يمثل هذا الزوج إلا شكلا من أشكال الهروب من مأساة.. للانتقال إلى مأساة ربما تكون أكثر غموضاَ.
من حقها إذن أن تستعيد حياتها الصحيحة منذ البداية.. ومن حقها أن تتخذ من حلمها نافذة لعالمها الحقيقي.. هذا العالم الذي ترى فيه النساء مبتهجات باختياراتهن العظيمة ، منتشيات بأعضائهن الذكرية … كل أنواع التحليق متاحة إذن في الحلم .وكل الخيارات في أن تعيش في مدينتها الفعلية قد تحققت .. لماذا إذن محاطة هي بأشباح من حولها ؟ ولماذا إذن لا تحاول التخلص القريب؟ يوم غريب فارق يمر عليها الآن تتذكر فيه كل هذه التفاصيل المريبة في حياتها وتشاهد في حلمها ان لها عضوا ذكريا ثم تشاهد في آخر تلك الحياة كما كانت تريدها.. ولم تكن النافذة ببعيدة عنها .. كما لم يكن الحلم ببعيد عنها.. لتخوض تلك التجربة الرائعة.. تلك التي رأت فيها.. ولأول مرة.. حياتها الحقيقية..لترى في كل النساء المبتسمات صورة جميلة حقيقية تبررها أعضاؤهن الذكرية .. فكل الفتيات صارت مثلها وكل النساء صرن أصحاب الفعل الحقيقي في النكاح .. .لم تمنعها دهشتها من الابتهاج . لأنها بالفعل رأت ما تريده منذ زمن بعيد يتحقق بكل تفاصيله ، وبقدر بساطة أحلامنا تكون عظمتها الحقيقية .وبقدر سمو تفاصيل حلمنا نثق في قدراتنا على عيش حياة أفضل لقد رأت في أهلها ورفاقها وجيرانها وزوجها القادم أشباحا حمقى تطاردها إلى أن تتخلص من لعناتهم بطريقتها الخاصة المثيرة ،ورأت في نساء حلمها كل الجسارة والطموح والإقبال ،امامها إذن الاستسلام للواقع الأليم بكل تفاصيله التي كرهتها ولا تستطيع تغييرها ،وامامها ان تتخذ من حلمها الذي رأته وحياتها الحقيقية التي تمنتها دافعا جديدا للوجود .. كان عليها أن تختار النافذة ولتتحمل إذن كل النتائج في سبيل الاستجابة إلى تلك النداءات الحقيقية للوجود كما ينبغي أن يكون.. يمكننا إذن أن نحلق ذاهبين لعوالمنا الحقيقية دون خوف.. سنرى أشباحنا القديمة تجري وراءنا في كل وقت .. ولكننا في كل الأحوال.. لا بد وأن نصل .
ـــــــــــــــــــــ
*شاعر مصري