“صاحب السر”.. رواية غرائبية تعري فساد المجتمع عبر المقبرة

صاحب السر
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

سعيد نصر

لو لم أكن قد قرأت رواية عمار علي حسن “صاحب السر” مخطوطة قبل خمس سنوات، وأعرف أنه سلمها إلى الدار المصرية اللبنانية في نهاية 2016 وكان عنوانها المبدئي يومها “جرى في قبري”، لظننت أنها تحمل إسقاطا سياسيا على السنة الأخيرة في مصر، حتى لو شملت تصورا اجتماعيا وغرائبيا ومخيفا أحيانا، وذلك من منظور الرؤية التقليدية التي تضع القرية في وجه الدولة، أو تجعل من الأولى وحدة مصغرة من الثانية، فيصير العمدة وشيخ البلد والخفر أشبه بكبار النخبة السياسية الرسمية، ويصبح من يحاول أن يخترق الحلقة الضيقة المغلقة التي تدير، أو يعرف أسرارها، معرضا لخطر شديد، وسط غموض يلف القضايا الأساسية والجوهرية للبلاد.

في روايته “جبل الطير” الصادرة عن الدار نفسها عام 2015، يجعل عمار بطله “سمحان عبد الباطن” يخترق الحلقات الضيقة العابرة للأزمنة التي يشكلها موتى غابرون صنعوا الأساطير الدينية منذ الفراعنة حتى الآن، ويتفاعل معهم، يحدثهم ويسمعهم، وكأنه صار واحدا منهم، وإن كان هذا يحدث في الهواء الطلق، لكنه في “صاحب السر” يصنع بطلا مختلفا،  هو “مرزق الحر” يكلم موتى من زمنه تحت التراب، ويعرف منهم ما كان خافيا عليه، عن قريته التي يستشري فيها الظلم والفساد، بعد أن دفنه كبراؤها ليتخلصوا منه، لأنهم عرف أكثر مما يلزم.

ورغم أن حكاية حديث الأحياء مع الموتى موجودة في أساطير عدة وكتب فقه وأحلام وقصص وحديث الناس الشفاهي في كل مكان، وتناولها كثير من الأدباء في الشرق والغرب، فإن رواية “صاحب السر” تأخذ منحى آخر، عبر حضور طاغ للقرية وشؤونها وشجونها وأحوالها الراهنة، إذ تجري أحداث الرواية كما يتضح من سردها في وقتنا، وكذلك عبر تصويرها للفساد الاجتماعي الذي ضرب القرية بشكل غير مسبوق، إلى جانب اختلاط الغرائبية بالخوف.

يبدأ عمار علي حسن روايته “صاحب السر” بمقدمة مدهشة وخاطفة ومفتوحة فيما يتعلق بمصير بطله بعد دفنه حيًا في إحدى المقابر، ورغبته الجامحة في الخروج لإفشاء أسراره بدافع الانتقام ممن دفنوه، وينهيها بنهاية مدهشة ومفتوحة ومثيرة للتساؤلات حول مصيره ومصير أسراره الخطيرة والمكتومة، بعد خروجه من المقبرة بمساعدة الزوج المربوط وزوجته، وجريه خائفًا في الجبل والفضاء، ومنطق المقدمة والنهاية في الرواية يضفي عليها طابع الوحدة الموضوعية المستقاة من وحدة الخوف من الموت، بسبب ظلم الأعداء وكثرتهم، ويُحدث تناغمًا حسيَا في ذهنية القارىء، ويرضيه بمنحه أحقية تخيل ما سيحدث حسب مزاجه النفسي والعاطفي، خاصًة بعد معايشته لأطول وأفزع صراع نفسي بين  الموت الحياة، يتخلله خناقات نفسانية متواصلة بين سلاحي اليأس والإرادة، حيث يبدأ الكاتب روايته بقوله، “لحظة استيقاظي من الموت لم يكن لدي أي يقين بأن هناك من تعمد دفني حيًا”.

 وينهي الرواية بمشهد يجسد ثنائية الموت والحياة في قلب البطل ويجمعه بشارد الذهن علي المسلوب، يقول فيه، “مضى هو صامتًا، ومضيت أنا غير عابئ سوى بالأسرار التي تملأ رأسي. رحت أضغط عليها  حتى لا تسقط مني على الحصى، ويأكلها الخوف والضياع والنهايات القريبة، التي لا بد أنها آتية”.

الرواية مليئة بالثنائيات ذات الدلالات الشخصية والقيمية،وذات التأثير القوي على ذهن المتلقي، فهي ثنائيات تكشف دواخل الشخصيات، وتتماهى مع سردية التذكر والاسترجاع باعتبارها السردية المحورية في “صاحب السر”، كثنائية الحب الحقيقي والإخلاص للحبيب ويجسدها علاقة مرزوق الحر وحميدة ، وثنائية كتمان السر ويجسدها مرزوق الحر ووالده، وثنائية الجشع والعمل بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة ويجسدها عمدة القرية وكبير اللصوص ، وثنائية الصداقة ويجسدها مرزوق الحر وصديق له، وثنائية الضعف الجنسي وتتجسد في عمدة القرية وشيخ الخفر ، وثنائية خيانة الزوجة لزوجها، ويجسدها زوجتا عمدة القرية وشيخ الخفر، وثنائية التصوف والرضا بالقليل ويجسدها والد مرزوق الحر و علي المسلوب، وثنائية المصير الواحد المتمثل في التيه والتوهان وشرود الذهن ، ويجسدها بداية على المسلوب ونهاية مرزوق الحر، وثنائية الرغبة في تخليد الاسم ويجسدها عمدة القرية والرجل المربوط ، وثنائية الجمال وتجسدها حميدة وزوجة الرجل المربوط، ابنة أخ عمدة القرية، وثنائية الموت والحياة، وهي تسير في أحداث الرواية وفي ذهن البطل كسير الدم في أجساد البشر، وكل هذه الثنائيات  تضفي على الرواية طابع الإثارة وتجعل أحداثها جاذبة لعقل المتلقي.

الكاتب قدم شخصيات الرواية وسرد أحداثها، بأسلوب النحات المطلوب منه نحت أجمل تمثال بأدوات ثمينة،وبميزانية متواضعة،حيث لا يوجد إسهاب ممل في رسم الشخصيات والحديث عنها، ولايوجد إفراط في سرد الأحداث ومشاهدها، وكأنما البطل الراوي يتوخي الحذر لكي يضع كل كلمة في مكانها، وكل تعميمة أو تفصيلة في الحدث، دون زيادة أو نقصان في السرد،وخاصة تقنية السرد الاسترجاعي، وليس أدل على ذلك، أكثر من طريقة تناوله لشخصية حميدة حبيبة البطل ومعشوقته، فهي الغائب الحاضر في القبر وخارجه، وفي كل أحداث الرواية، وهي الروح في الجسد بالنسبة لمرزوق الحر، وهي أيقونة الحياة في نفسية البطل الحي  داخل قبره ،الخائف من شبح في الموت في أي لحظة،وعلى الرغم من كل ذلك، فإن حديثه عنها كان خاطفًا ومركزًا ومكثفًا في الكلمات والحوارات، وبما لايخل من دورها الروائي في تقوية قلب البطل ومنحه الأمل في ظلمة القبر وعتمة الحياة، وهذا يعد ذكاء روائي من الكاتب، لأن هذه  الحرفية الأدبية في رسم الشخصيات والأحداث تجعل المتلقي لاينصرف ذهنه أبدًا عن الحبكة الروائية، باعتبارها المركز الذي تدور حوله كل أحداث الرواية، و المتمثل في مصير مرزوق الحر المريض بفشل كبدي ومصير الأسرار الخطيرة التى كانت سببًا في دفنه حيًا.  

التوحد بين مرزوق الحر وحبيبته حميدة يضفي على رواية صاحب السر، منطقيات الحب والعشق، فالكاتب يشعرك بأنهما متوافقان في كل شيء، فالاثنان ينتميان لأسر طيبة وبسيطة، ويحبان بعضهما بصدق وتظلمهما ظروف الحياة ويفترقا وكل واحد منهما في قلب وروح الآخر، وكلاهما يُحرمان من النسل كرمزية للخلود، فمرزوق غير مرغوب للزواج بسبب مرضه، وهي توفيت أثناء إنجابها توأم ماتا معها، والاثنان يتمنيان اللقاء والحياة معًا، مرزوق يريد ذلك في الدنيا ، وهي كانت تريد ذلك في الدنيا وتريده أيضًا في الآخرة، حيث جاءته في القبر وطلبت منه الاستسلام للموت ليعيش معها،والاثنان مخلصان في الحب لبعضهما البعض لأبعد مدي، والأدلة كثيرة على ذلك في الرواية،ومنها قول الراوي، وهو داخل قبره، عن حبيبة، ” شعرت أن يدًا خفية تربت كتفي، وسمعتها تقول لي: منذ فراقنا وأنا ميتة.”، ومنها أيضًا، قول مرزوق الحر،” لا يصبرني على ما أنا فيه إلا وجودها، أراها ولو دقيقة واحدة، ثم أموت بعدها…  فارقتني روحي بفراقها.”

تحكي  الرواية عن شاب يدعى مرزوق الحر، لم يكمل تعليمه في كلية الحقوق، ماجعله مثار سخرية لعمدة القرية، وذلك بمناداته “يا نصف متر” ، يثق فيه الناس لصفة اكتسبها عن أبيها ترزي السيدات، وهي صفة كتمان السر، فيحكون له أسرارًا خطيرة ، عندما كان يكتب لهم كل أنواع العقود والحجج، باعتباره المتعلم الوحيد الفاهم في القانون، منها جرائم العمدة وتجارته في المخدرات المصنوعة جماجم الموتى، وأخطرها أن ابن العمدة ليس من صلبه ،وإنما بن زنا من كبير اللصوص، يدخل في غيبوبة بسبب مرضه بالفشل الكبدي، فيعجل العمدة بدفنه لدفن الأسرار معه، ويستيقظ مرزوق الحر في القبر، ويدرك مرزوق  ما فعله العمدة به، فيحاول الانتقام منه بكتابة الأسرار على حوائط المقبرة، ولكنه يفشل في عمل ذلك، فيحاول الخروح من المقبرة عن طريق توسعة ثقب في أعلاها بعظام مسنونة من عظام الموتي، ويتغلب على الفزع بالتخيل والتذكر، فيسمع صوت رجب أبو سالم أول حارس للمقابر،قتله رجال العمدة،ويسمع صوت حميدة ويسترجع ذكريات الشقاوة معها وخطف القبلات الساخنة والأحضان الحارة في حقل الذرة،ويتذكر قول ضاربة الرمل له””نهايتك لا مثيل لها في بلدكم”، ويتذكر أخيه رزق بالتبني وسفره إلى ليبيا وموته هناك،ويسترجع ذكرياته مع جاره الطيب وصديقه الوفي، وعلي المسلوب شارد الذهن، وطقوس دفن الموتى بحضور سليم المبروك والشيخ إدريس،  والسيول وحكاية بناء المقابر، ونجدي الحرامي، وزيارته لطبيب الكبد وإدراكه أن الشفاء ميأوس منه، ومراسلة جارته لحميدة برسائل الحب والغرام.

 ويتذكر مرزوق الحر فكرة وضع أجراس في المقابر تحسبًا لدفن موتى وهم أحياء، و تراوده فكرة الحفر بالعضمة المسنونة، ثم يعود ويتذكر فعلة زوجة العمدة مع كبير اللصوص، وفعلة زوجة سعدون شيخ الخفر مع أحد شباب القرية، ويحفر بالعضمة ويستمع لزعيم اللصوص الراغبين في سرقة جماجم الجثث، ويطلب منه إخرجه ويتسجديه بكل عبارات الاستجداء لمساعدته، ولكنه يرفض خوفًا من العمدة، ويضع على الثقب حجر ليزيد من معاناة مرزوق الحر ويأسه، ويستمع لدبيب رجل مربوط يهدهد امرأة ، فيطلب منه مساعدته ويخدعه بأن لديه دواءه ،وبأنه نائب الشيخ المبروك الذي قال له أنه مربوط بالكتابة له على عظمة مدفونة في قبر، فيحاول الرجل وزجته فتح الباب الحديدي للمقبرة ويفشلان لعدم وجود أدوات حفر وكسر مفاتيح، ويتركانه ويأتي له العمدة ورجاله، بعد علمهما من زعيم اللصوص بأنه حي في المقبرة، ويفتح العمدة عليه ويدخل أحد رجاله للمقبرة للإجهازعلى مرزوق، ولكن الميت الحي يكتم أنفاسه ويهيل الدود والعفن على جسده، فيعتقد رجل العمدة أنه ميت، ويغلقون المقبرة ويذهبون لحال سبيلهم، ويأتي الرجل المربوط وزجته، ويفتح المقبرة على مرزوق الحر، ويعطيه مرزوق عضمة ملفوفة فى قطعة كفن، ويقول له ، هى العمل المكتوب لك، وترى الزوجة مرزوق وهو خارج بكفنه وتتعرف عليه بعد رؤيتها لوجهه، فيجرى مرزوق إلى الجبل خائفًا على أسراره من الضياع، وعلى حياته من الموت الوشيك.

الكاتب اختار أسماء الشخصيات بدقة متناهية ، وبحيث يعكس كل اسم طبيعة شخصيته، فمرزوق الحر وأخيه رزق ، يعكسان … ورجب أبو سالم يتماشى مع شخصية مسالمة وجدت نفسها رغمًا عنها حارسة لمقابر يقتل العمدة كل من يحرسها، وحميدة اسم يتماهى مع رضائها بالقضاء والقدر وتزويجها من شخص لاتحبه، وعدم خيانته رغم حبها الشديد لمرزوق الحر، وهي راضية وشاكرة وحامدة لها في الحياة والممات، بحسب كلام الراوي عنها ووصفه لها، و مرزوق الحر وأخيه رزق يعكسان الشخصية المولودة في بيئة طبية، فمثل هذه الأسماء يسميها المؤمنون الطيبون في الريف المصري، خاصة من يتأخرن في الإنجاب أو من يموت لهم أبناء كثر بعد الولادة، فضلًأ عن اسم الحر يجيب عن التساؤلات بشأن أسباب عناد البطل وتمسكه بالحياة للخروج من مقبرته ليكمل أهم فصل في حياته، وهو أن يكون حرًا بنشر كل الأسرار المكتومة على رؤوس الأشهاد، بالإضافة إلى أن تسمية شيخ الخفر بـ”سعدون” تعكس فهمًا عميقًا لسيكولوجية وسعادة  الفلاح المصري البسيط، عندما يصبح شيخًا للخفر في إحدى القرى.    

الصراع النفسي المصحوب بالهذيان والفزع من شبح الموت وبأسئلة من البطل لنفسه ولأصحاب جثث الموتي المدفونين معه، و بحوارات مع الموتى ومع الأحياء الذين طلب منهم مساعدته بلا جدوى، إلى أن جاءته النجدة من الزوج المربوط، يحقق هدفًا أدبيًا في منتهى الأهمية، وأعتقد أن هذا الأمر لم يكن بالصدفة، وإنما متعمدًا من الكاتب، حيث يجعل القبر، بما يحدث فيه وبما يحدث حوله، بمثابة مسرح يتفاعل معه القارىء ، وكأنه يشاهد مسرحية درامية مشوقة لأبعد مدى، كما أنه يجعل الرواية بكاملها ومن أولها إلى آخرها، تبدو كما لو كانت دفقة شعورية واحدة، وكأنها قصيدة شعرية تتميز بعنصر الوحدة الموضوعية، ويعزز من ذلك كل الأحداث التي تعجل بإمكانية موت البطل في قبره، كمشاهد الذئاب الباحثة عن جثث الموتى، ومشاهد اللصوص العازمة على فتح المقابر وسرقة الجماجم، وموقف الرجل المربوط المستعد لقتل أي أحد يخدعه في موضوع علاجه، خاصة بعد أن صارت عودة فحولته هي الأمل الوحيد الذي يسعى لتحقيه في الحياة، ويعبر البطل عن ذلك بقوله،”كان القلق يبلع فرحتي، وآلاف الأسئلة توخز رأسي. ماذا أقول للرجل حين يراني أمامه آدميًا ولست جنيًا كما يتوقع؟ سيراني بالقطع، ومن المؤكد أنه يعلم أن الجن خفي لا يُرى، فكيف أقنعه بهذا الجن الغريب الذي له رأس وجذع وأطراف؟ والأفدح: ماذا سيفعل حين لا يرى ما وعدته به؟”

الكاتب يستخدم ،في رواية صاحب السر، سردية أقرب إلى الواقعية السحرية، وهي سردية تميز بها في معظم رواياته ، لدرجة أنها أصبحت مشروع أدبي روائي خاصًا به، حيث لجأ في مشاهد عديدة  إلى سردية الأحلام والأشباح والتخيل والتذكر لاسترجاع ذكرياته وحكاياته مع الأشخاص داخل القبر وخارجه، واستنباط  المصير الذي ينتظره، “الموت أو الخروج”، وهذه السردية لم تكن مفتعلة ، وإنما متماهية مع موضوع الرواية، ومناسبة تمامًا له، ففكرة الرواية في حد ذاتها مخيفة وجالبة للأشباح، بحكم مكنون الذاكرة الجمعية لدى المصريين عن الموت وحياة القبر، وحياة مابعد القبر، وكل ذكرياته مع حميدة أمثلة كثيرة على هذه السردية، وتوجد أمثلة عديدة على هذه السردية، منها قول الراوي”أخذتني سنة من النوم، فرأيت نفسي أسير حافيًا في طريق طويلة، لا تبدو لها نهاية، ترابها ناعم، لونه أخضر داكن كالحناء، أو هو حناء بالفعل، تغطس فيها قدماي، وتخرج منها نباتات هشة، ما إن أدوسها حتى تذوب، وتعصر ماء يبل أصابعي، ثم ينبثق من الماء نورًا مبهرًا، يملأ عينيَّ بهجة وخوفًا.”

رواية صاحب السر، أكثر ما ميزها ، المنطقية في ترابط الأحداث، والجمل القصيرة التي تضفي جانبًا من الإبداع الأدبي على لغة الرواية، فعدد كلمات جمل الرواية يتراوح بين ثلاث كلمات وثماني كلمات، وأغلبها أقل من الثمانية، وهذا لايمكن حدوثه إلا فى حالة امتلاك الكاتب لناصية الفكرة ومعايشته للحالة، وكأنها تجربة عاشها، أو تخيل معايشتها مرات كثيرة، أو استمع لمن عاشها، وتكمن الأهمية الأدبية للجمل القصيرة في أن تأثيرها على القارىء أكبر، وإرهاقها له أقل، بما ينتفي معه الملل، وتجعل القارىء يتعامل مع الرواية كما لوكانت قصيدة شعر، وهذا ما يفسر شعور القارىء لـ “صاحب السر” بأنها تبدو كما لو كانت دفقة شعورية واحدة، أو تم كتابتها في نفس واحد، والجمل القصيرة موجودة بطول الرواية وعرضها، ومنها على سبيال المثال، قول الراوي، “صار دمي بركة صغيرة لزجة، وصار وجعي كبيرًا. رميت جسدي، وألصقت بطني بالأرض، وامتلأ فمي بتراب مخلوط بدمي. مددت يدي، والتقطت عظمة صغيرة، ووضعتها بين أسناني، ورحت أضغط بشدة، حتى تفتت بعضها، وانجرحت شفتي السفلي، وانبثق دم نظيف، وسال فوق العظمة.”

واستخدم الكاتب سردية وصفية وتعبيرية ليرسم للقاريء من داخل قبره، خريطة حياته بكل تفاصيلها وبكل دواخلها النفسية، خاصًة حياته وظروفه داخل قبره مع شبح الموت، ويظهر ذلك بوضوح في وصفه للقبر والجثث وأشكال أصحابها ووصفه للذئاب والكلاب واللصوص، ووصفه لكبده المصاب بالفشل شبه التام، حيث يقول الراوي،في سردية تعبيرية عن مرض البطل ” كان الألم ينهش كبدي فيصرخ مستغيثًا، وتتصاعد صرخاته في كل جسدي، فيطلب مني أن يموت. وكنت أسمعه وهو يقول لي كل لحظة: أريد أن أستريح.، ويقول في سردية أخرى،”ألفت صوت الاحتكاك هذا مع الوقت كموسيقى غريبة، وراحت غربتها تموت عند أذنيَّ حتى بدأت أهتز معها. كنت أرقص وأنا أحفر كبجعة ذاهبة إلى النهاية. اختلط صراخ الاحتكاك المتواصل بالأنين الذي تصاعد في صدري. وانطلقت في الغناء”، ويتجلى الوصف في أبهى صوره، في وصف البطل لشبح الموت، حيث يقول، “رأيته كائنًا هائلًا، لا تعرف أوله من آخره، له رأس أضخم من جبل، وله عينان وسيعتان جاحظتان، لا قعر لهما، يطل منهما شجر ماحط شائخ، جذوعه سوداء، وفوق فروعه التي تبدو أشواكًا ضخمة، تتقافز غربان، تنعق وتمد مناقيرها لتلتهم الفراغ. وله أذنان مفرطحتان تتدليان طويلًا ولا يتوسطهما ثقبان إنما قطعتان من حجر صوان، تجعله من المستحيل أن يسمع استغاثات الذين يستمهلونه، لهما سنون حمراء. ولهذا الكائن ساقان طويلتان، يكسوهما شعر كثيف تنز منه دماء زرقاء، ويتطاير شرر، وينطلق دخان أسود كثيف، وحين يفتح فمه المشقوق بالطول يظهر لون أزرق أيضًا، إنها أسنانه الطويلة الحادة. أما الذراعان فمفتوحتان لا أرى لهما نهاية، وكلما تقدم سقطت بينهما أجساد حشود تأتي طائعة بلا توقف، ثم تختفي.”

الرواية يغلب عليها طابع الواقعية ، وبالتالي يغلب عليها المضمون الواقعي ، ولكنها في الوقت نفسه لاتخلو من مضامين فلسفية، مع الأخذ في الاعتبار أنها بكاملها تدور حول فلسفة الحياة والموت، وتظهر المضامين الفسلفية في مقامات عديدة، منها حديث مرزوق الحر عن سماعه لصوت حميدة  من داخله، حيث قال، “في الحقيقة لم يكن لساني، فأنا لم أنطق، إنما هو صوت الصمت المطبق، حين يفرج عنه الخيال الجامح.”، ومنها أيضًا حديث البطل مع حبيبة عندما وجدها في مقبرة الرجال، حيث يقول مرزوق الحر، تحركت غيرة في صدري، ووجدتني أسألها في غيظ:كيف تجلسين هنا في مقبرة الرجال؟.. رنت ضحكتها الصافية وأجابت:يأتون بنا، الرجال هنا، والنساء هناك، لكن تحت التراب تتلاقى العظام، وفي سماء الله تتلاقى الأرواح.” ، ويتجلي المضمون الفلسفي في مقامات أخرى، مثل قول حبية لمرزوق الحر ،” كل حي ميت، وكل ميت حي.”، وقول رجب أبوسالم للبطل،” أنا حي في مكان لا يعرفه إلا من ترك الناس عندك وأتى.”

المضمون الفلسفي ينطبق أيضًا على كل أقوال بطل الرواية عن الموت، فهي أوصاف تستحق التمعن والتخيل والدراسة، ففي مقام يصف الموت بقوله، أما الموت الحقيقي فنهار فسيح لا حدود له، لا تزوره العتمة أبدًا، وعطر لا ينقطع شذاه. إنه عطر الروح ونهارها، الذي لا يكتشفه من يدبون على الأرض، ولا يعرفه إلا من تحررت أرواحهم من سجون الأبدان.”،وفي مقام ثان تصف حميدة الموت لمرزوق الحر بقولها له، ” لماذا تعافر من أجل الخروج، مع أن الدخول إلى هنا خروج إلى البراح، والخروج من هنا دخول في الضيق الشديد؟ “،وفي مقام ثالث يقول مرزوق الحر عن الموت،”.. أغمضت عينيَّ وقلت لنفسي في هدوء: “ما الموت سوى رحلة بين دارين. هنا يحيث نعاني من سطوة الشهوات المعتقة، وهناك حيث ندوسها ونحلق في الفضاء الفسيح، بلا قيود. وبلا رغبة في أي شيء سوى الخلود”، وفي مقام رابع، تظهر فلسفة أخرى تعكس الخيال الواسع للصوص في منطقة الأشياء وتحليل الجرائم والأخطاء، ويظهر ذلك من خلال حوار بين مرزوق الحر وزعيم اللصوص ، حيث يقول البطل ، “فكرت برهة وقلت:في عنقي دين أريد أن أسدده قبل أن ألقى الله..اقترب كبيرهم أكثر، وعرفت باقترابه، فقد صرت أقدر المسافات التي تقطعها أصواتهم منذ أن تخرج من أفواههم وحتى تصل إلى أذني. تنهد بحرقة، وقال:ألم تكن تنوي سداد دينك؟، قالت: أنوي،  قهقه وقال:لا ذنب عليك، مت وأنت مستريح.

اختلاط السرد بالحوار يغلب على الرواية، وهو سرد يعكس دواخل البطل ومشاعره وأسباب هذيانه وأسرار رغبته في الخروج من المقبرة المدفون فيها حيًا، ومنها حوارات مع رجب أبوسالم وحميدة، وعلي المسلوب، وزعيم اللصوص  وأحد اللصوص ، والزوج المربوط وآخرين، وهذا الخلط يحرك مشاعر المتلقي ويدفعه إلى الاحتكاك مع الأشخاص والأحداث والتعايش والتفاعل معها، وكأنه جزءًا منها، خاصة أنه يشتمل علي سرط مختلط بالحوار بين البطل والموتى، وبالأخص حواره مع رجب أبو سالم حارس المقابر القتيل بأيدي رجال العمدة، حيث يقول الرواي:

لكن واحدًا منهم فقط بادرني قائلًا:

ـ إزيك يا أستاذ “مرزوق”؟

تلفت حولي فلم أر أحدًا، ووجدت نفسي أهتز مرتجفًا حتى سمعت صوت اصطكاك أسناني، وقلت أجاريه حتى لا يغضب، فأجبته بحروف مرتعشة:

ـ آهـ .. لـ .. ا .. وسـ .. هـ .. لاـ

وعندها وجدته يسألني:

ـ ألم تعرفني؟

صمتت برهة، وقلت له:

ـ صوتك ليس غريبًا عن أذني.

لم يدعني أفكر طويلًا، وقال:

ـ أنا “رجب أبو سالم”.

كان أول وآخر حارس لمقابرنا، أرسلناه، وهو من أهل بلدتنا، فلم يرجع، ولم نعثر على جثته.

سألته:

ـ من أي مكان تحدثني؟

سمعت قهقهة، ثم أتت الإجابة:

ـ أنا معك هنا.

عدت أدور بجسدي، ماسحًا المكان المعتم بعينين تفيضان بالخوف، وقلت:

ـ لا أراك.

عاد إلى القهقهة، وقال:

ـ لن تراني فلا تتعب نفسك في البحث عني.

وجدت نفسي أسأله:

ـ هل أنت ميت؟

أجابني على الفور:

ـ أنا حي في مكان لا يعرفه إلا من ترك الناس عندك وأتى.

ـ حي؟!

ـ عظامي في عينيك، وأكل الدود لحمي، لكنني حي .. حياة لا تريد أنت أن تأتي إليها.

جمعت أشتات نفسي لأسأله:

ـ من قتلك؟

قهقه حتى ارتجت الجدران وأجاب:

ـ من دفنك حيًا.

صرخت:

ـ من؟ من؟

مقالات من نفس القسم