وعندما سقط كفه فى ذهول على وجها في أول زواجهما لعلمه أنها استقبلت ابن خالتها في غيبته ظللت لا تفتح إلا شراعة الباب لتقول لزائر إن الأستاذ غير موجود، ولم تكن تعلم ماذا ستأكل على الغداء إلا بعد أن يصدر توجيهاته في الصباح، وهو الذي يحاسب صبي المكوجي ويأخذ الزجاجة من بائع اللبن ويعرف مستوى تفهم الأولاد من أستاذ الدرس الخصوصي.
المفاتيح التي كانت جميعها في قبضته تركها لها ورحل .. قمم الرهبة .. مرحلة انعدام الوزن .. مثل طائر يفتح له باب القفص فيظل منكمشًا بالداخل لا يدري أهمية مساحة الفضاء التي أمامه بلا قضبان , بحذر تتعثر خطواته إلى الخارج يداعب النسيم أجنحته. لا حاجز يصدمه. تنتشي تجربته، يحلق إلى أقرب غصن .. ثم إلى الحرية !
لم تكن تصدق أنه لا محظورات, لها كامل إرادتها, تستطيع أن تعبر الباب بلا إذن والعودة متى تشاء, تكدس حقيبتها بالجنيهات تنتقي اللون الصارخ والحذاء المفتوح, ترفع صوت غناء لوعة الحب ونار الفراق وحلاوة الشوق ووصل الوداد , تتابع أخبار الفنانات وتطربها المرآة , يهزها الغرور فترقص لها كأمهر من تهز محيط الوسط. تتأرجح حبال الضحكة وتتحيز لفريق
تقلبت فى فراشها كذئب مضروب برصاصة قاتلة، احتضنت أولادها الثلاثة تبحث فيهم عن امتلاء لخواء قلبها تحتمى فيهم من الأمواج التى تضطرب فى قلبها
ما كانت الأرض العطشى قد ارتوت تمامًا عندما وجدته في طريقها .. شاب من عائلة زوجها جاء ميلاده بعدها، يعشق النضج وأوج الأنوثة والمرأة الأم، تتكلم فيصغي, تطلب يلبي .. صوته حب, حنانه رجولة, بجانبه الحياة انطلاق …. أخواتها لم يعترضوا, يكفيها حماس أختها وأخيها والباقى يهون … واحد من أخواتها اعترض دون أن ينطق, صمت, ظهر على وجهه التقزز كما لو كان يرى كلبا ينهش جيفة.
الأولاد لم يعتادوا ممارسة الرفض, لم يقل أحدهم لا, لكنهم ظلوا كثيراّ يبكون فى فراشهم دون أن ينطقوا … لكنها قالت لنفسها فى النهاية .. أنا مقدرش على الأولاد لوحدى لازم حد معايا يساعدنى فى تربيتهم
حاولت أن تتجاهل نظرات الجيران وتتفادى السهام التى ترشقها وتنغرز فى كل مكان من جسمها لتوجعها وتسمع كلماتهم بأذنيها …. أهى خطفت الواد … !!!
طلب من أبنائها أن ينادوا له بابا رفضوا ولكن فى النهاية أستسلم الصغار , أصبحوا ينادوا له يا بابا .. فرح بالكلمة لكن سرعان ما اعتراه شعور بأنه كبر قبل الأوان ثم أصبح يمل من هذه الكلمة … وقال لها فى ليلة وهى تلبس قميص النوم الأحمر .. كلمة بابا دى ملهاش طعم .. أنا عايز ولد يقولى يا بابا بجد
أختلط السرور بالندم … فكانت حين تضم طفلها الجديد كان الشعور بالإثم يفسد عليها فرحتها , شعر أولادها بعداء شديد تجاه الضيف الجديد , ظلوا يتعاملون معها عن بعد … شيء ما كانت تلحظه فى أصواتهم ونظراتهم شيء جديد .. كأنهم يرونها من خلال ستار يفصلهم عنها , أصبح الأولاد يتسللون إلى غرفتهم كلما دخل البيت , أصبحوا ليس لهم صوت , لم تعد تراهم أثناء وجوده بل بدؤوا يتسللون خارج المنزل ، لم تعد ترى أحدهم يبتسم أو يضرب الأخر أو يأتى يشتكى لها من أخيه.
لم يلحظ زوجها ما فى نظرات الأولاد .. هى التى أدركت وصمتت , كان زوجها اعتاد على تجاهل الأولاد … كان همه أن يغير كل شيء, باع السرير وأشترى غيره , جمع ملابس زوجها كلها وخرج بها دون أن تسأل, اختفت المسبحة التى كانت دائما على مرآة التسريحة … تركته يفعل كل ما أرد دون أن تتدخل … قالت لنفسها: خلاص اللى مات مات , الحى أبقى من الميت
زوجها بدا أنسانا أخر , أصبح جافاّ يضرب الأولاد بعنف ثم أصبح يتجاهلهم ويدلل طفله الصغير حتى مل منه هو الآخر, فرحته بدأت تنطفئ، أصبح يسب الأولاد … ويسبها هى إيضاّ
ـ إنتى مش عندك ماكينة خياطة , فيها أيه يعنى لما تساعدينى ولا هو أنا لازم أشيل مصايبك أنتى وعيالك لوحدى … ولم تنطق , نظرت إليه وأطبقت فمها .. لم تستطع أن تنطق فكان على وشك أن ينفجر وشعرت بالخوف منه لأول مرة … ركل الباب بقدميه وخرج
أصبح عليها أن تقضى معظم الوقت وجزءاّ من الليل منكفئة على ماكينة الخياطة … الجيران لم يتحمسوا لها ولكنها وجددت زبائن من أحياء أخرى … كان صعباّ فى البداية أن تتحمل كلمة تأنيب من زبونة على التأخير فى التسليم أو تساوم فى اجره الخياطة … لكنها أعتادت مع الوقت لم يعد شئ يثير دموعها كما كانت فى البداية … قمصان النوم العارية لم تعد تكفيه .. أشترت ولأول مرة مساحيق التجميل , أصبحت تقضى كل ليلة وقتا طويلاّ لرضاه ولكنه لم يعد شئ يرضيه … أنتهى مفعول كل شئ
تجرعت الصبر احتملت كلامه الجارح وشتائمه وثوراته التى تهب دون مقدمات ولا سبب , أصبح الصمت ردها الوحيد عليه , ثم بدأ يضربها .. صفعها مرة وجرى من أمامها وضربها مرة وأثنين وثلاثة … إلى أن أصبح يضربها عقب كل حديث
لمن تشكو ؟؟؟ لم يقف أحد بجانبها حتى أخواتها تبرؤا منها تحت شعار … كل الرجاله كده وكل بيت وفيه مشاكل , أصبحت تنفق وحدها بعد أن كانت تشارك فى النفقات وأصبح يعود فى منتصف الليل … سألته مرة لماذا يسهر ؟؟؟ لماذا تغير ؟؟؟ لكن ثورته أنتهت بأن قام يضربها فى منتصف الليل وفى السكون أستيقظ الأولاد يفركون عيونهم ينظرون إليها وهى تتلوى وتبكى … ثم أنسحبوا إلى حجرتهم فى صمت
يا طيف حبيبى اللى عشقته .. تعالى شوف اللى جرالى
صوت عبد الوهاب يتصاعد من الراديو , يرن فى سكون الليل … أحست برغبة فى البكاء , ودت لو ترى صورة زوجها الأول لحظة , رفعت رأسها على الجدران ولكن زوجها الجديد رفع صورته من حجرة الجلوس ووضع مكانها صورته هو ,أشتاقت لأبتسامته ونظره عينيه, أشتاقت لكلمات غزله … قسوته كانت خوف عليها , كان يغار عليها من أى غريب يرمقها بنظرة حتى لو كان بائع اللبن … أحست بالدموع تتساقط على الثوب الذى تحيكه ,لكنها عادت الى الماكينة وعاد صوت عبد الوهاب يختلط بكركره ماكينة الخياطة ..
وانتفضت توقفت المشاهد والأفكار فجأة ، ستقف أمامه لن تخشاه … لم تعد تحبه , القسوة تقتل الحب , لن تخشى الجيران , صوتها تسمعه الجيران كل ليلة وهم يتشاجرون , تقززت من نزواته , لم يعد لديها ما تحرص عليه , المهم أن تسترد نفسها , أن تعوض أولادها الايام التى حرمتهم من حنانها وعطفها … المهم أن تسترد نفسها , أن تنقذ البقية الباقية . غلظته , قسوته , جفافه , تحملت الضرب والأهانة وتحمل نفقات البيت وحدها ونفقاته هو إيضاّ … فهى قادرة على مصاريف البيت ولن تحتاج لآن تمد يدها لمخلوق … أذا ستوفر نفقاته هو والعيال إولى بيها منه
اقتحمت غرفه أولادها إلى أبنها الأكبر موجهه كلامها .. أنا عايزة قفل وكالون جداد … من شرفة شقتها قذفت له جميع ملابسه وأشيائه وسط فرح وتهليل من أبنائها , وذهول منه وهو واقف تحت الشرفة وجميع الجيران يشاهدون صدمته , ويهمسون بينهم , يستاهل مقدرش النعمة اللى فى أيده .. هو فاكرها أيه الجارية اللى أبوه أشترهاله
وقف فى وسط الشارع والذهول يعتريه حاول صعود إلى المنزل لكن الجيران صدوه وطردوه يأبى المغادرة دون أن تكتب له ورقة تتنازل فيها عن مؤخر الصداق فجاء ردها من الشرفة بألقاء دلو ماء الغسيل عليه , ووسط سباب الجيران له وتدافع رجال المنطقة طلقها ومضى ….. أحكمت أغلاق الشيش وهى تسمع قذائف السباب منه لكنها احتضنت أولادها وجلست على الأرض , كأنها كانت غائبة عنهم وعادت تحتضنهم بقوة … إلى بنتها موجهه كلامها حطى صورة أبوكى مكانها … الله يرحمه وحشنى , وإذا بالراديو يتسلل منه صوت عبد الوهاب:
يا مسافر وحدك … وفايتنى.