عبد النور مزين
أكاد أجزم أن الذي دفع الروائي والصحفي الإسباني خابيير بالينثويلا لجعل طنجة، سواء في نهاية الخمسينات أو بدايات الألفية الثالثة، فضاء للعوالم الروائية في عمله السردي طنجرينا[1]، هو الذي دفع الشاعر والمترجم محمد العربي غجو لاختيار هذه الرواية بالذات ونقلها إلى العربية[2]. يقول الكاتب سيرخيو بارثي، المولع أيضا بعوالم طنجة سنة 2015 على مدونته بالانترنيت، أنها (طنجرينا)” ليست رواية تاريخية، ولا شهادة حول كيف كانت طنجة، بل هي نظرة صادقة لكيف يرى خافيير بالينثويلا طنجة الحالية. لقد جعل من طنجة القديمة أسطورة لكنه تعامل مع طنجة يومنا هذا كما لو كانت مريضة، أو مثبَّطة العزيمة على نحو ما “. ربما كان ذلك راجعا إلى أن بالينثويلا لم يكن يهمه في الحقيقة تلك الحكاية البوليسية التي لم تكن بتلك الحبكة التي تتطلبها سرديات التجسس والبولار الاحترافية، ولا هي بذلك التدقيق ذي المنحى التأريخي بالنسبة للعلاقات المغربية الاسبانية وما اتسمت به من فترات الريبة والتوجس المتبادلين، بل هي نوع من الأرشيف الخام لجوانب معينة من طنجة التي طالما مارست تلك الغواية الاستثنائية على المصابين بلوثة الكتابة والفن عموما، بل ما همه أكثر هو تلك الرغبة الجامحة للامساك بكنه تلك الغواية التي مارستها وما زالت تمارسها على الكاتب، وإيداعها في قارورة عطر ليعْبر الأزمة عبر نص مشبع بنوع خاص من عبق طنجة وغوايتها. بالرغم من تركيز خافيير بالينثويلا، بشكل مبالغ فيه إلى حد ما، على النسيج والمسارات المثلية، أو بعض مظاهر الاسقاطات الكولونيالية الاستشراقية، مقابل تعتيم على زوايا أخرى في الحياة الاجتماعية لطنجة، الشيء الذي قد يكون مفهوما أمام إكراهات الذائقة العامة الاسبانية الايبيرو أمريكية التي تتوجه إليها الرواية غير المنفلتة من البراديغمات الغربية حول الشرق والجنوب عموما بالرغم من مواقف وتصريحات بالينثويلا التي تبدو اكثر ابتعاد عن تلك الباراديغمات.
من داخل هذه الخلفية أيضا مارست طنجة غوايتها على الشاعر والمترجم محمد العربي غجو لينقل إلينا نصا هو جزء ووجهة نظر، في آن، من بعض الذي وقعوا في شراك سحرها وأصيبوا بلوثة غوايتها. لا يمكن لأي كان أن يستطيع تجريد طنجة من كل أو بعض جوانب افتتان الناس بسحرها، بل يجب تسليط الضوء على المعتم دوما في جوهر طنجة وتاريخها الذي يمثل روح فتنتها وتفردها. إن نقل هذا العمل إلى العربية يعد لبنة جديدة تحسب للمترجم ليتمكن القارئ العربي التعرف على الطريقة التي افتتن الكتاب الاسبان وغيرهم بهذه المدينة وكيف اندست بعض الخطابات الكولونيالية في بعض النصوص فيما حاولت أخرى التحرر نوعا ما من تلك البارديغمات التي آن الأوان لتجاوزها عبر عملية تجسير لا يمكن أن تقوم بها إلا الكتابة والأشكال الإبداعية الأخرى والترجمة التي توجد في القلب منها.
إن دور الترجمة ليست هو نقل العمل من لغة إلى أخرى فقط. إن عملية الترجمة في حد ذاتها عملية إبداعية بامتياز، تتموقع في ذلك الحيز الذي يفصل المترجم ككاتب وفاعل ثقافي بمرجعية وخلفية لغوية وثقافية معينة، ونحن هنا بصدد الحديث عن الشاعر والمترجم محمد العربي غجو هويته الخاصة به والتي تتكون من عدة أبعاد ( مغربية، عربية، إسلامية، يسارية، شمالية، تطوانية، طنجاوية، أندلسية، إلخ..) عن كاتب آخر هو خافيير بلاثويلا ككاتب وسياسي وديبلوماسي وصحافي اسباني وأوروبي وغربي وعاشق لمدينة طنجة وبأبعاد هوياتية وجندرية أخرى. هذه الجغرافية الفاصلة بين الكاتب والمترجم،هي في الأصل جغرافية للتواصل والصراع أيضا، عن قصد أو عن غير قصد، إذ أن الهويات المختلفة في حاضرها وتاريخيتها، تجعل العمل المترجم (أي الناتج عن الترجمة)، بالإضافة إلى خلفية المترجم التي تحضر بشكل أو بآخر في النص من حيث الاختيار ومن حيث اللغة، يأتي دور المتلقي الناطق بالعربية للنص والذي لا محالة سيتلقى هذا النص أيضا انطلاقا من خلفيته الثقافية ذات الأبعاد المتعددة، وهذا يجعل هذه الترجمة عملية تخصيب للعمل الأصلي إذ تزيده أبعادا أخرى مرتبطة، إضافة إلى المترجم بلغته وخلفياتيه، بالمتلقي الجديد الذي هو المتلقي العربي بكل هذه الخلفيات.
إننا هنا أمام عملية معقدة من حيث النتائج التي ليست معروفة بالضرورة بشكا مسبق، أكثر من ذلك فإنها تتطور مع مرورالوقت وظهور أشكال أخرى في الحياة المحيطة بالمتلقين الجدد، تغني مفاهيمهم لمجمل الإشكاليات المطروحة في النص، لا من حيث المضمون ( أي الأفكار والحمولة الأيديولوجية بوعي أو بغير وعي) ولا من حيث الشكل أي طرائق الكتابة.
وهنا سأعرج على شكل الكتابة الرواية التي اعتمدها خافيير بالينثويلا والتي نقلها المترجم محمد العربي غجو، بغض النظر عن علمها بها أو لا، لكنه نقلها إلى القارئ العربي عبر هذه الترجمة. هذه العملية تدمج شخصيات خالية مع شخصيات تاريخية مثل محمد شكري وبول بولز وجان ولز والمرابط وغيرهم الكثير ليعطيهم بعد ا تخييليا روائيا آخر تماما كما فعل الكاتب الأمريكي إدغار لاورانس دوكتورو ( 1931_2015) في روايته الشهيرة راغتاميم Ragtime والتي تعتبر من بين أحسن 100 رواية كتبت في الأدب المكتوب بالانجليزية. إذ تمزج العديد من الشخصيات التاريخية التي كانت مشهورة وجد مؤثرة في تاريخ الولاية المتحدة في بداية القرن العشرين وما تلا ذلك.
هكذا يمكن للقارئ العربي بوجه عام والروائي بشكل خاص أن يتفاعل بأشكال مختلفة مع هذا النص وانطلاقا من خلفياتهم الخاصة، وهذا لعمري من محاسن الترجمة والتي في نظري يجب أن تخرج من نطاق المجهودات الفردية للمترجمين إلى مجال التأسيس لعملية ترجمة مؤسسة من طرف القائمين على الثقافة كشأن سياسي وطني وكبعد تنموي في آخر المطاف.
………………………….
[1] Javier Valenzuela ,Tangerina , Ediciones Martínez Roca (3 février 2015)
[2] محمد العربي غجو، طنجرينا، منشورات المتوسط 2024