دانيال وعصوره المهزومة

دانيال
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام
 يدخل القارئ إلى عالم دانيال الغرائبي بموافقة أو اتفاق مبدئي مع الراوي: "حسنًا هيا بنا نلعب" وهكذا يمتد اللعب ويتسع على عدة مستويات بداية من العنوان مرورًا باللعب مع الزمن الذي يبدأ بالعصر الرابع ثم المكان الذي يبدو وكأنه القاهرة بأماكنها الفعلية ومسمياتها أحيانًا أو مدينة خيوط متخيلة لدمى الماريونيت تطابق القاهرة أحيانًا أخرى

يعود أحمد عبد اللطيف في روايته الأخيرة لممارسة هوايته الأثيرة في اللعب بما يحمله مفهوم اللعب من المتعة والتعب أو بالأحرى الألم، هكذا تأخذنا الرواية الصادرة عن دار العين للنشر فيما يقرب من ٢٦٠ صفحة بعنوان (عصور دانيال في مدينة الخيوط) في رحلة من الألعاب الروائية الممتعة والمؤلمة في آن، على غرار القصائد المضادة يكتب أحمد رواية مضادة بلغة مليئة بالشاعرية وسرد شديد الإمتاع على ما يحمله المتن من قبح وخراب وهزائم شخصية وعامة، بداية من العنوان الذي يبدو كدعوة للقارئ للمشاركة في اللعب حيث يدرك أي قارئ كونه من المستحيل أن يكون لدانيال عصور فنحن نفهم أن يكون هناك عصر المماليك أو العباسيين أو حتى العصور المصرية القديمة، لكن كيف يكون هناك عصور لشخص ما  إلا إذا كان شخصًا يعيش لقرون أو أن يكون أبديًا! ثم لماذا دانيال الاسم الغريب التوراتي الأصل وما هي مدينة الخيوط؟

 يدخل القارئ إلى عالم دانيال الغرائبي بموافقة أو اتفاق مبدئي مع الراوي: “حسنًا هيا بنا نلعب” وهكذا يمتد اللعب ويتسع على عدة مستويات بداية من العنوان مرورًا باللعب مع الزمن الذي يبدأ بالعصر الرابع ثم المكان الذي يبدو وكأنه القاهرة بأماكنها الفعلية ومسمياتها أحيانًا أو مدينة خيوط متخيلة لدمى الماريونيت تطابق القاهرة أحيانًا أخرى، ثم الشخوص الروائية وحتى نصل للراوي ذاته هل هو دانيال؟  وأي دانيال هو؟  الكبير أم الصغير؟ أم دانيال الذي وصل للأرشيف السري ليجد ملفه الشخصي ويتلوه علينا نحن القراء؟  أم هو دانيال القارئ الذي وجد رواية عن امرأة اختفى زوجها الذي هو دانيال أيضًا فقرر أن يكمل قراءتها تمامًا مثل ما نفعل نحن القراء مع حكاية دانيال؟ هكذا ينجح أحمد ببراعة فائقة في توريط القارئ الحقيقي في لعبته الروائية وكأنه يرسل برسالة مفادها:  انتبه.. قد تكون أنت أيضًا دانيال.

يحيلنا الاسم التوراتي إلى السفر الإشكالي حيث تذهب الكثير من الآراء أن دانيال التوراتي لا وجود له بالأساس فنتسائل بالتبعية عن دانيال الخيوط وقد يرى البعض ثمة تناص بين الدانيالين ولكني أميل إلى أن اللعبة هنا لعبة التباس بالأساس أكثر من كونها تناص أو تضاد، فهما يتشابهان في أشياء ليس آخرها الاسم ويتناقضان في غيرها؛ أولها عدم القدرة على قراءة الرؤى والأحلام بالتفسير القطعي ما يؤدي إلى نجاة صاحب السفر بينما صاحب الخيوط مهزوم وضائع وربما مقتول أيضًا.

تبدأ الرواية بالعصر الرابع ويستطرد المفتتح في وصف حادثة قتل جماعي كبيرة وأجواء عاصفة وكابوسية تحيط بالمدينة مع الكثير من التفاصيل التي سيتكشف بعضها لاحقًا كإشارات هامة ومركزية وذات دلالات بينما تبقى بعض التفاصيل كما لو كانت زائدة أو كما لو كانت تحية جميلة وعابرة دون اقتباس لأصحاب العوالم الشبيهة خاصة ساراماجو وربما أخطأت أنا في تلقي هذه التفاصيل الأخيرة خاصة أن الراوي والمحرر لم يجدا غضاضة في تكرارها مع تكرار وصف الحادث في الفصل الأخير.

في العصر الثالث “تقرير عن دانيال في الأرشيف” يحصل دانيال على فرصة للعمل فيقرر قبول الوظيفة متبعًا رؤاه أو أحلام يقظته بعد أن كان يسعى للهجرة بحثًا عن بداية جديدة لحياته بعيدًا عن الماضي الذي يصفه “وصلت إلى مصلحة الأرشيف السري شابًا في الرابعة والعشرين وأجر ورائي تاريخًا قصيرًا ومشوهًا” جاءت الوظيفة عن طريق أحد الأعمام البعيدين ولكنه “يتمتع بسلطة لا أعرفها” وهكذا يتبدل مصير دانيال فيصطدم بماضيه وتاريخه وهو يحاول الهرب منه.

و يستمر الراوي في إتقانه للعبة الالتباس بحرص ومهارة حتى في العناوين الفرعية فنرى “تقرير دانيال الخيالي عن دانيال الحقيقي أو العكس” يظهر الالتباس المُصدَر جليًا هنا في (أو العكس) بهذه البساطة يستمر اللعب ويعلو النسق ويبدأ انهيال الأسئلة :

هل قتل دانيال الشيخ أم تراجع ولم يسعفه الوقت؟

هل هناك مدينة للدمى أم أنها من خيال دانيال؟

هل نحن أيضًا دمى بأعين زجاجية؟

ولو كانت مدينة الخيوط من خيال دانيال فأي دانيال هو؟

الطفل أم القاتل أم المراقب أم المرُاقب أم العامل في الأرشيف أم صاحب الأرشيف أم من يقرأ حكاية دانيال الآن؟

تأتي حادثة مقتل الشيخ المُغتصب في العصر الأول “تقرير دانيال عن دانيال” حيث تمثل الحادثة وتبعاتها حجر الأساس في لعبة الالتباس الملهمة في الرواية حيث يبدأ منحنى العصف الذهني للقارئ في الصعود.

“بعد الحادثة صار دانيال يرى نفسه كدمية. كان يرسم في استكشات رسم صورته ذاتها دانيال النائم على السرير بعقده حول رقبته وخيط يمتد إلى السقف، ويد تمسد الخيط بالسبابة والإبهام. دانيال السائر في طريق متصلًا بنفس الخيط. دانيال يأكل. دانيال يبكي. دانيال يقرأ. وفي كل أحواله كان الخيط عنصرًا أساسيًا في اللوحة. في تلك الأيام كنت أخرج مع دانيال لم يكن يتكلم إلا بالكاد. لكنه من آنٍ لآخر كان يشير إلى رجل ويقول إنه دمية. هذه البنت دمية. هذا الولد دمية. هذه المرأة دمية. وكان يشير إلى أعلى ويسألني هل ترى يا دانيال الخيوط”

في العصر الثاني والمعنون ب “دانيال قبل وصوله للأرشيف” تتوالى المشاهد شديدة المركزية وصولًا إلى ما أحسبه العقدة الرئيسية في الحكاية حيث دانيال صاحب الندبة في الوجه والروح، واللسان نصف المبتور من أثر عقاب الأب الذي لم يستمع جيدًا لدانيال، الأب المولود مع ثورة يوليو والمرتبط بها المثقل بالهزائم الشخصية والعامة والذي يشيخ من بعد الأربعين كل عام عشرة أعوام حتى يحتضر وكلما حاول دانيال استحضار روحه جاءته  روح الشيخ الأعمى مُغتصب الطفولة فينا، وكأنما قدر دانيال الذي لا يعرف تقدير الزمن قد انحصر بين هذين الاثنين.

تنتهي الرواية مثلما بدأت بالعصر الرابع “الأيام الأخيرة في حياة دانيال” حيث كل عصور دانيال بلا ترتيب بل ومكررة أحيانًا فيما أظنه ليس مجرد ولع باللعب مع الزمن بل وربما إشارة على أزلية حكاية سلطة الأرشيف وكيف يمكن أن يتحول الناس إلى دمى بعيون زجاجية ولا يسمع كل واحد منهم إلا صوته المهزوم وعن سحر الخيوط حيث يقع دانيال نفسه في الفخ عندما يدرك أن بوسعه أيضًا أن يتحكم في الصور حتى ولو كانت لأقرب أحباءه فيربطها بالخيوط وكأنها دمى.

وحينها شعرت بشعورين متناقضين شعور من صنع الماريونت وأنا جالس على كرسي الأنتريه وشعور الماريونت نفسها والهواء يحرِّكها يمنةً ويسرةً في حركة شبه دائرية وحينها جاءني دانيال ووقف بجواري وقال لي هل تعرف يا دانيال أن هذه الصورة تمثِّلك تمامًا قلت له لا أفهم ماذا تقصد قال لي إن دانيال الجالس على الكرسي هو دانيال الموظف في الأرشيف وإن دانيال المعلَّق بخيط هو دانيال خارج الأرشيف ثم قال لي أَكمِل لعبتك

مصادفةً قرأت إهداء أحمد عبد اللطيف للشاعر والصديق إبراهيم البجلاتي لنسخته من الرواية حيث كتب :

“لعلك تجد في هذه السطور بعضًا من الشعر”  ليست المرة الأولى وأظنها لن تكون الأخيرة التي يتعمد أحمد التخلي بوعيٍ واختيارٍ جمالي عن علامات الترقيم في أعماله السردية من ضمن عدة ألعاب يفضلها أحمد في اللعب مع اللغة سواء من حيث الشكل أو حتى التنوع بين عدة أساليب للسرد، كما اعتمد أحمد في بناء الرواية على مقاطع سردية تميل في معظمها إلى القصر والتكثيف بل والمفارقة الشعرية فنجد مثلًا المقطع السابع والعشرين في العصر الرابع على لسان دانيال “كل الذين قتلتهم أحياء” كما لو كان قصيدة نثر تامة، وساهم هذا الشكل في البناء اللغوي بإيجابية كبيرة في إيجاد حالة من التتابع وسرعة الإيقاع والتشويق كما لو كنا أمام نصوص سردية/ شعرية متلاحقة أو مشاهد سينمائية سريعة أحيانًا تصنع الحكاية الكبيرة ، بعبارة أخرى أقول نعم عن نفسي وجدت الكثير من الشعر.

في الأخير بقي أن أقول أن هذا المقال لا يدعي أي قراءة نقدية للرواية بقدر ما هو محاولة لفك الالتباس مع العمل الذي أنهيته في جلستين ولم يغادرني منذ أنهيته حيث يكبرني أحمد عبد اللطيف ودانيال بعامين أي أنني من عمر دانيال الأصغر بالضبط، ومثلي مثل أحمد أو دانيال أو إبراهيم أو ربما مثل كل أبناء هذا الجيل، كل الذين فقدناهم أو قتلناهم أحياء بعضنا يحمل ندبة في الوجه أو الروح، ربما كلنا بعيون زجاجية ولسان نصف مبتور أو كامل البتر بسبب الأب كما نشعر بألم دائم في القدم اليسرى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مقالات من نفس القسم