هدوء القتلة .. بحثا عن الفردوس المفقود

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

شوقي عبد الحميد يحيي *

في عشرة كتب بحث " جون ميلتون " عن " الفردوس المفقود " بغواية الشيطان للإنسان وإخراجه من الجنة .وفي مائة واثني عشر صفحة فقط أدخلنا " طارق إمام " في تيه البحث عن ذلك الفردوس المنشود وعن التواؤم في ظل أجواء شديدة التعتيم والاضطراب ، وفي ظل تعدد المصابيح التي تزيد الباحث حيرة أكثر مما ترشده للطريق المنشود ، عبر رواية شديدة القصر ، شديدة التركيز ، شديدة الجمال . مستخدما مقطعا من فردوس ميلتون كأحد عتبات الدخول لنصه – كمقتطف في الصفحات الأولي ن ليشعل في استحياء شمعة تنير طريق الدخول لعالمه الصعب الجميل ، ومشفقا علي قارئه من وعورة الطريق وكثرة تضاريسه ولا يقتصر الأمر فقط علي " الفردوس المفقود " في رغبة لأعادة التوازن والتواؤم المفقود للزمن وتداخلاته المربكة ،

وإنما أيضا في عملية إحياء شاعري مضغوم لملحمة جيمس جويس الضخمة ” عوليس ” في تصويره لعوالم  ” دبلن ” بما حوته من عوالم فوارة ومتشعبة ، وكأن طارق إمام يعيد زمن الملاحم من جديد – ولكن بعصرنة – وليؤكد تراكمية الأعمال الأدبية عبر مسيرتها التاريخية –  حيث نجد في تلك الصفحات القليلة العوالم المتشعبة لمدينة القاهرة ، بأزمنتها المتباعدة للألف السنين ، والتي كان لها – بالتأكيد – ضغوطها وتواجدها علي قاهرة الحاضر . كما نجد – في ” هدوء القتلة ” الفانتازيا والواقع والحلم والخيال ، وفيها يتفتت الإنسان ليستقل كل جزء فيه ويصبح له شخصيته وتصرفاته ، فاليد اليمني تستقل عن اليسري ، وتنفرد الساق الطبيعية عن الصناعية الرافضة للفناء ، وكأن الإنسان قي قاهرة المعز قد تفتت وتحول إلي شظايا ، كما جاء استخدام الضمائر المختلفة والمتداخلة ، كأن الناس جميعا قد أصبحو هذا الرجل ، فحينا نراه المتكلم ، وحينا نراه المخاطب ، وأحيانا نراه الغائب ، لكنه الغائب الحاضر ، حيث يتعايش الناسك الذي تواجد من ألف سنة مع البشر الفانين في الزمن الحاضر ، في رفض للفناء ورغبة في الحياة السوية ،  وطموحا لخلق فردوس جديد  . 

وإن كان المقتطف – الملحمة الشعرية – ” البحث عن الزمن المفقود “  يسير في اتجاه من الأعلي إلي الأسفل ، وفيما يشبه الخطيئة ، فإن ” هدوء القتلة “[1] تسير في الإتجاه العكسي ، من أسفل إلي أعلي ، وكأنها تبحث عن التكفير ، وليتكامل العملان معا في تشكيل الاكتمال ” الخطيئة والتكفير – مع الإعتذار للدكتور عبد الله الغزامي صاحب كتاب ” الخطيئة      والتكفير ” – .

فالمقتطف عن الفردوس المفقود ، يتحدث فيه الشيطان إلي الإنسان وينتهي باستسلام الإنسان للخطيئة وللغواية  :

{ .. وفاضت مفاتني الخلابة فأحبني أشد من عاداني ، لاسيما أنت ، إذ كثيرا ما رأيت ذاتك في ذاتي ، وصورتك في صورتي فتولهت بي ، ونشدت متعة معي في الخفاء .. } [2] .

فإذا كان الشيطان قد انتشي هنا بانضمام الإنسان إلي حزبه ، بما يعني انهزام الإنسان ، فإن   ” هدوء القتلة ” ,إن كانت تبدأ بالخطيئة ، بالقتل ، إلا أنها تنتهي بانتصار الإنسان علي نحو ما سنري . ولكن علينا أن نبدأ من البداية ، ونخطو أولي العتبات للدخول ، وأعني به العنوان    ” هدوء القتلة ” حيث ” القتلة ” تعني الكثرة ، فالقتلة كثيرون ، وكثرتهم في مجتمع ما ، وفي القاهرة تحديدا – حيث الفضاء المكاني بالرواية – يعني وجود إضطراب ما ، والتي ربما تصل للفوضي . فإذا أضفنا إليها ” الهدوء ” أي أن القتلة يقومون بفعلهم في اطمئنان ،      فهو يعني غياب الاستقرار ، وشيوع الفوضي ومن هذا نتبين التناقض الذي يجمع طرفي العنوان ” هدوء القتلة ” ، لكنه التناقض الخالق لدرامية الحركة الفاعلة للفوران الدائم – للمجتمع – وللنص في ذات الآن الذي هو الصورة الكنائية عنه ، حتي جاء النص ليرسم صورة درامية تعبر دون أن تقول ، وليظل المعني كليا لا جزئيا ، ولينحصر القول في إضفاء المتعة القرائية حيث أتي بروح الشعر أقرب منه للنص النثري . وهنا يتحدد اتجاه سيرنا إلي داخل النص – مبدئيا – وهو ما يترجم ما تطالعنا به وسائل الإعلام من انفلات ، وهو ما يعني أن طارق إمام شاب يعيش هموم بلده ، ويستطيع أن يشخص أمراضها بفنية وشاعرية يستطيع بها التغلب علي ما قد يعتري نصه من ضبابية تخبئ خلفها رؤية ووضوح .

فإذا تجاوزنا العنوان كعتبة أولي ،إلي العتبة الثانية ، وهي الغلاف الخارجي للرواية ، وعلي الرغم من عدم القناعة باستخدام الغلاف كعتبة في الكتب الصادرة لدينا ، حيث يغيب دور الكاتب في الكثير منها ، وخضوعه للناشر بالدرجة الأكبر . إلا أن الغلاف في ” هدوء القتلة جاء معبرا لحد كبير عن متن العمل . حيث يحتل مساحة الغلاف صدر إنسان – غير واضح المعالم ، فهو إنسان وكفي ، وقد انفتحت ملابسه إلي قرب المنتصف ، فإذا ما اعتبرنا أن الملابس تخبئ ما تحتها ، فقد حاولت اللوحة كشف جزء من المخبوء لدي هذا الإنسان وهو ما تؤكده الرواية علي نحو ما سنري .

وفوق هذا الجسد توجد صورة طفل ، وكأنها دمية ، إلي جانب صورة رجل كبير السن ، وكأنها تجمع مراحل الإنسان ، وكأن هذا الإنسان علي الأرض مجرد دمية ، أي أن تحركه عليها بأصابع الغيروهو ما عبر عنه حين كشف عن حالات المشي في النوم بتأثير إحدي يديه ، فيتساءل :

{ وجدت يدي اليمني قابضة علي المطواة تكيل الطعنات لأختها  . كيف أتت بها ؟ ! هل تحركت بجسدي إلي الصالة وتناولتها من الدولاب العتيق ثم عادت بجسدي إلي السرير ؟

هل تقودني يدي إلي هذا الحد ؟ ……}[3] .

وفي أسفل اللوحة ، توجد ثلاثة أكف بشرية في أوضاع مختلفة ، وكأنها تعرض الجوانب المختلفة للإنسان . إذن تقودنا هذه العتبة نحو البحث في الإنسان بأوضاعه المختلفة ، ومراحله المختلفة ، وأفعاله المختلفة أيضا ، كحالات الصحو والنوم ، الموت والحياة ، في الصغر وفي الكبر ، في الحب وفي الكره  .

ثم تأتي العتبة الثالثة وهي المقتطف من ” الفردوس المفقود ” والسابق الحديث عنها . وكذلك بيت شعري مقتطف من ” ابن الفارض يقول :

وخذ بقية ما أبقيت من رمق                  لا خير في الحب إن أبقي علي المهج

و هو يقودنا أيضا إلي أن للحب دور أساسي في الرواية ، فضلا عن إيمان الكاتب بالشعر ودوره ، ليس من حيث الدور فقط وإنما انعكس بالفعل علي إسلوب الرواية وما حواه من شاعرية جعلت منها قصيدة نثر تعتمد المجاز والكناية ، مبتعدة عن الشرح والتصريح  .

وهو ما يؤكده ما نعرفه فيما بعد بأن الرواي شاعر يكتب شعره بدماء الضحايا ، وهو في طريقة لللإنتهاء من دوانه الجديد ، ويبحث عن الضحية التي بقتلها يضع السطور الأخيرة في ديوانه . فإذا كان السارد يعمل – علي أرض الواقع – عدادا في الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء ، فإن البشر في ظاهرهم – من زاوية عمله – مجرد أرقام وإحصائيات . غير أن البشر في جوانيته ليسوا كذلك – من وجهة النظر الشعرية – حيث يصبحون مشاعر وأحاسيس ، فغذا كان يبحث عن إكتمال القصيدة ، فهو يبحث عن اكتمال الإنسان ، عن جوهرة ، عن كيانه .

وإذا كانت القاهرة – الآن – تعيش العديد من حالات القتل الرخيص ، حيث كثرت حوادث القت في البيوت ، فهذا قتل طفلين بريأين من أجل الانتقام من الوالد ، وهذا قتل سيدة مجتمع من أجعل بعض الأموال لمروره بضائقة مالية ، وذاك قتل أسرة بكاملها لأن زوجته خلعته ، ومجهول قتل أكثر من اسرة للتجارة في بعض أعضائهم . كل تلك حالات قتل يعيشها مجتمع القاهرة التي يعيشها الكاتب ، فكانت فكرة القتل الواهية الأسباب ، وكانت فكرة القتل من أجل الحياة ، فاتخذ من القتل وسيلة للحياة ،

غير أننا لا نلبث أن نتبين أن عملية القتل هذه ، ليست إلا عملية معنوية ، حيث قد يقتل الشخص ذاته أكثر من مرة ، بل قد يقتل مرتين في يومين متتاليين . إلي جانب أن السارد ذاه يقتل باليد اليمني ، بينما اليسر تكتب الشعر ، وأن كلا منهما ( اليمني واليسري ) في حالة شجار دائم ، للحد الذي قد يوقظه من نومه . وهو ما نتبينه منذ البداية حين نراه ينزع للجانب الصوفي بجعل الناسك أستاذه ومرشده ، بل هو الجد لكل القتلة – الحالمين – الذين امتلأت بهم القاهرة :

{ .. صدقت دائما أن تاريخ الدماء هنا بدأ من حكاية ناسك ، كان يسكن قبوا قامت فوق أطلاله فيما بعد تلك البناية الزجاجية الضخمة التي صارت رمزا للمدينة الشاحبة .. } [4] .

ثم نتبين أن الناسك ظل يقرأ في مجلد ضخم يظنه الآخرون كتابا مقدسا ، بينما لم يكن سوي تاريخ غرامه السري :

{ .. كل صباح ، كان يمد أصابعه الخشبية النحيلة نحو المجلد الضخم : تاريخ غرامه السري . كان جميع  من يتلصصون عليه أثناء تفحصه له بوجل – بينما تُغرق دموعُه جلبابه المهترئ – يضنونه كتابا مقدسا .. } [5] . فعلي الرغم من نزوع التفكير مباشرة عند ذكر الناسك ، وعنده يصبح القتل قتلا صوفيا ، أي القتل في الآخر ، أو التماهي في الآخر ، إلي جانب أن النظرة الصوفية تري في الموت الخلاص من متاعب الدنيا وعذاباتها :

{ إن أردت الانتقام من ألد أعدائك دعه يحيا ….. } [6] .

 إلا أننا نتبين أن الحياة ، الحب ، الغراميات ، هي كتابه المقدس . وعلي نهجه سار الحالمون من أبنائه وأحفاده علي اتساع القاهرة التي أصبحت باهتة . ليصبح التماهي بالحب والعشق في الآخر ، هو السعي نحو التطهر من أدران الحياة النمطية الكابوسية ، العبثية التي نجح الكاتب في تصويرها باسلوب شاعري يحفل بالإيحاءت والكنايات والمعاني التفجرة ، من خلال مجموعة من المتقابلات التي تصنع حراكا يدخل القارئ في دوامة من البداية لا يستطيع الخروج منها قبل اكتمال ، التحقق . حيث اختلط فيها

1 – الحلم باليقظة

        حين تماهت جارته ” سوسن ” بين الحلم والحقيقة ، بين الجنون والحفظ علي الذكري فبينما { بدأت تنشر كمية ضخمة من ” الغسيل ” علي حبالها .ز هي ملابس زوجها المتوفي وأ[نائها الذين لم تنجبهم }  وعلي الرغم من أنها لم تنظر إليه مجرد نظرة . يفاجأ بخطاب غرامي مقذوف بمشبك غسيل في بلكونته ، مؤرخ قبل ستين سنة قبل الآن ، أرسله إليها زوجها من العالم الآخر ، مكررا فيه { لو كنت لا تزالين علي قيد الحياة } ليقوده الخطاب إلي بيتها ، وليجدها ميتة ويتحير فـ { لم أجرب قبل ذلك أن أقتل جثمانا . أي لون سيكون عليه دم امرأة ميتة إذا تجولت مطواة في جسدها ؟ } [7] .

2 – الأموات بالأحياء

        زحفت بيوت القاهرة إلي المقابر ، وأصبحت المقابر مساكن للأحياء ، وأصبح الموتي يتكلمون ويتعايشون ، فلم نعد نفرق بين الأموات والأحياء :

{ .. بيت ليل ليس سوي غرفة في قلب المقابر ، ويعتقد الكثيرون أن جابر ليس سوي شبح أزرق يزوره في صباحاته .ز خاصة أن أحدا لم ير جابر سوي كحامل للنعوش ………….. عرف أن قتله لجابر سيكون آمنا : إما تخترق المطواة جسده الشبحي ليتأكد أنه ليس سوي حلم يقظة .. وإما أن تنفجر الدماء مخلصة إياه من ذلك القاتل الشخصي ……} [8].

3 – الرغبة والواقع

        ينشطر الإنسان بين الرغبة والقدرة ، بين التفكير والواقع . تطير الطائرات الورقية في السماء ، بينما يد ما تمسك بها إلي الأرض ، ويتطلع الرجال إلي الطائرات في السماء بينما هم مقعدون علي كراسيهم المتحركة ملتصقين بالأرض ، وكأنها الرغبة في الانطلاق ، بينما لا يفعلون ما يسمح لهم بتحقيق  هذا الحلم :

{ .. بدأ سرب الرجال علي كراسيهم المتحركة يحتل الشارع . طفس يومي شاذ في نهارات الضاحية . يأتون من ناحية النادي القريب . هم أيضا ينظرون كثيرا للطائرات ، ربما لأنهم يعتقدون أن السماء ليست بحاجة لساقين سليمتين كشرط للتحليق .. } [9] .

4 – الداخل والخارج

        اعتاد – السارد – أن يسجل كل شئ علي جسده حتي امتلأ جسمه :

{ فكرت منذ قليل أن أضيف وشما جديدا إلي جسدي ، غير أني اكتشفت بحسرة – في مواجهة المرآة ، بينما أفتش عن مكان خال – أنه لا توجد مساحة فارغة فيه  . فبامتداد صدري وبطني وذراعيّ، والحال نفسه مع ظهري ، كانت الأيقونات وسطور الشعر التي توالت في أزمنة عديدة  ……..} [10] .

غير أن سطور الشعر هذه مخبأة في الداخل ، معزولة عن الخارج :

{ .. رغم أنني أضطر لارتداء قمصان مقفولة ذات أكمام علي الدوام ، وداكنة كي لا تنجح عين فضولية في اختراقها لمشاهدة ما تخفيه . } .

في تأكيد لثنائية الحياة ، التي لابد تنعكس علي ثانية الشخصية القاهرية وتفتتها وانهيارها في النهاية .

لذا عندما تبدأ ” هناء ” في خلع ملابسها قطعة قطعة في بلكونة بيته ، وتقذف بها إلي المتطلعين في الأسفل ، وهي تتراقص ، وكأنها البجعة ، ترقص رقصة الوداع ، لتكتمل الدائرة ، وتتم الحياة دورتها عندما يتحقق التوازن ، عندما يتخلص الإنسان من قشرته الخارجية ، وينكشف علي الداخل ، فتتم القصيدة ، وبها يشعر القارئ بلذة الوصول إلي بر الأمان بعد رحلة طالت – رغم قصرها – في تيه الحياة القاهرية الصاخبة :

{ بطرف لساني بدأت أتذوق دمي للمرة الأولي .

الجرح ليس غائرا ولكنه خالد .

انحنيت والتقطت ما تبقي من ملابسها . طوحت القطعتين الصغيرتين إلي المنتظرين في الشارع ، ثم انتزعت المطواة من بين يديها بخفة ، لأكتب قصيدتي النهائية .} [11] .

ولتصبح الكتابة هي التحقق ، وهي التواؤم المشود لإنسان العصر الذي مزقته صراعات الحاضر ، وحاصرته حتي بات وحيدا وسط الجموع المحتشدة ، مشردا وسط البنايات المتعالية ، في رؤية كابوسية ، لايفيق منها القارئ إلا بالاستيقاظ والتنبه .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ناقد مصري

Em : [email protected]

 

[1]  – هدوء القتلة – طارق إمام – ميريت –  الطبعة الأولي 2007 .

[2] – جون ميلتون – الفردوس المفقود .

[3]  – الرواية ص 73

[4]  – الرواية ص 9

[5] –        ص 11

[6]          ص 15

[7]  – الروايو ص 88

[8]           ص 15

[9]          ص 36

[10]         ص 27

[11]         ص 112

 

 

 

 

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم