شجرة. صخرة. سحابة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

كارسن ماكلرز (1942)

ترجمة: هدى يحيى

في ذلك الصباح، كانت السماء تمطر، والظلام لم ينقشع بعد. وصل الصبي إلى المقهى المتنقِّل بعد انتهائه من دورة توزيع الجرائد اليومية، وقرر الدخول لاحتساء فنجان من القهوة. أما صاحب المقهى فرجل بخيل متهكِّم يُدعى ليو، يُبقي المكان مفتوحًا طوال الليل. بدا المقهى للصبي مُرحِّبًا ومشرقًا بعد ساعات من الطواف في الشوارع الخالية قارسة البرودة.

أمام النضد، جلس جنديان وثلاثة عمال من مصنع القطن، وفي الزاوية جلس رجل مُسنٌّ، محني على كوب من البيرة، يكاد يدفن أنفه ونصف وجهه فيه. كان الصبي يعتمر خوذة تشبه التي يرتديها الطيارون، وما إن دخل المقهى حتى فكَّ السَّير، ورفع طرفه الأيمن فوق أذنه الصغيرة زهرية اللون. في كل مرة يأتي إلى المقهى كان يجد مَن يبادره بحديث ودودٍ أثناء احتسائه قهوته، بَيْدَ أنه في ذلك الصباح لم يُلقِ أحدٌ نظرةً واحدة عليه، ولا حتى ليو. خيَّم الصمت على جميع الجالسين. بعد أن دفع الصبي الحساب، ناداه صوت وهو على وشك المغادرة يقول:

“يا بني… مهلًا يا بني”.

التفت إلى مصدر الصوت فرأى الرجل الجالس في الزاوية يشير إليه بإصبعه وحركة من رأسه أن “تعال”. رفع وجهه الذي كان مدفونًا في كوب البيرة، وبدا مبتهجًا فجأة.

بدا الرجل فارع الطول، شاحب البشرة، كبير الأنف، برتقالي الشَّعر. أمَّا الصبي الذي شارف على الثانية عشرة من عمره، فكان أصغر حجمًا من بقية الصبية في سِنِّه، بكتف تعلو عن الأخرى بفِعل وزن جُوال الجرائد، ووجه مسطَّح منمَّش، وعينين مدوَّرتين كعيون الأطفال. سار الصبي نحوه، وقال:

“نعم يا سيدي”.

وضع الرجل يده على كتف الصبي، ثم أمسك بذقنه، وأدار وجهه ببطء من جانب إلى الآخر. انكمش الصبي، وارتد إلى الخلف مرتبكًا، وسأله بصوت حاد مرتفع: “ما هذا؟ ما الذي تفعله؟”.

ساد هدوء تام في المقهى.

أعلن الرجل ببطء: “أنا أحبك”، فضحك جميع الجالسين.

كشَّر الصبي في وجوههم، وابتعد أكثر قليلًا ملصِقًا نفسه بالحائط، ولم يدرِ ما الذي بإمكانه أن يفعله فوق هذا. نظر إلى ليو الواقف خلف النضد، فوجده يراقبه بنظرة مرهَقة ساخرة، لا تخلو من لا مبالاة. حاول الصبي أن يضحك مثلهم، لكن الرجل أعلن بنبرة جادة وآسفة:

“لم أقصد مضايقتك يا بني. اجلس وتناول معي كوبًا من البيرة. هناك شيء عليَّ أن أشرحه لك”.

نظر الصبي خلسةً إلى بقية الرجال؛ علَّه يقرأ على وجوههم ما يجب عليه أن يفعله، لكنه وجدهم عادوا بالفعل إلى شرابهم أو طعام فطورهم؛ فلم يلحظوا سؤاله الصامت.

وضع ليو على النُّضد قدحًا من القهوة، ووعاء صغيرًا من القشدة، ثم علَّق باقتضاب: “لا يزال الصبي قاصرًا”.

شبَّ الصبي وصعد فوق أحد المقاعد المرتفعة. بدت أذنه من تحت سير الخوذة المقلوب حمراء دقيقةً. أومأ الرجل برأسه بمنتهى الرصانة، وقال: “إنه موضوع مهم”. ثم مد يده في جيبه الخلفي وأخرج شيئًا منه، ورفعه كي يراه الصبي بوضوح.

قال الرجل لصبي الجرائد: “دقِّق النظر”.

حدَّق الصبي، ولكنه لم يجد شيئًا يستحق أن يُمعِن بصره فيه. كان الرجل يحمل بيده الغليظة الملطخة بالسخام صورة فوتوغرافية. الصورة لامرأة وإن لم يبدُ وجهها واضحًا. لم يستطع الصبي أن يميز سوى قبعتها وثوبها.

سأله الرجل: “هل تراها؟”.

أومأ الصبي برأسه، فأخرج الرجل صورة أخرى. كانت المرأة في الصورة الثانية ترتدي ثوب سباحة وتقف على أحد الشواطئ. بدا بطنها المكشوف متكورًا وبارزًا، وهذا هو أوضح شيء يمكن لامرئ ملاحظته.

سأل الرجل: “هل تراها بوضوح؟”. ثم انحنى ليقترب من الصبي، وبعد دقيقة عاد يسأل: “أسبَقَت لك رؤيتها؟”.

بقي الصبي ساكنًا في مقعده بلا حراك، يحملق في الرجل من مكانه برأس مائل، ثم أجاب: “ليس على حدِّ علمي”.

نفخ الرجل على كلتا الصورتين، ثم أعادهما إلى جيبه، وقال: “حسنًا، لقد كانت زوجتي”.

سأل الصبي: “وهل ماتت؟”.

هزَّ الرجل رأسه بالرفض، ثم زَمَّ شفتيه وكأنه على وشك أن يصفِّر، وفي النهاية أجاب متباطئًا: “لا. سأشرح لك”.

كان قدح البيرة البني الكبير قابعًا على النضد أمام الرجل. لم يرفعه ليشرب منه، بل انحنى بوجهه عليه، وبقي على تلك الحال قليلًا قبل أن يُميل القدح بكلتا يديه ويعبَّ منه.

أعلن ليو: “ذات ليلة، سيغلبك النوم وأنفك الكبير مدفون في القدح، وستموت مختنقًا. زبون عابر يختنق بسبب كوب بيرة. ستكون ميتة ظريفة”.

حاول صبي الجرائد أن يجذب انتباه ليو بالإشارات دون أن يلحظ الرجل؛ فلوى قسمات وجهه، وحرك شفتيه يسأله دونما صوت: “أهو سكران؟”. لكن ليو اكتفى برفع حاجبيه، والتفت كي يرصَّ بعضًا من شرائح اللحم المقدد وردي اللون على المشواة. دفع الرجل الكوب بعيدًا، واعتدل في جلسته، وضم يديه المثنيتين والمرتخيتين معًا فوق النضد. بدا وجهه حزينًا وهو يتطلع إلى صبي الجرائد. بقيت عيناه مفتوحتين، غير أن جفنيه بين الفينة والأخرى طفقا ينغلقان برقة، مخفيان وراءهما هاتين العينين الخضراوين الشاحبتين.

قال الصبي لنفسه: أوشك الفجر أن يطلع، وراح ينقل ثقل جوال الجرائد من كتف إلى الأخرى.

ثم سمع الرجل يقول: “أنا أتحدث عن الحب. الحبُّ عِلمٌ في رأيي”.

كان الصبي في طريقه للنزول عن مقعده المرتفع، لكن حين رفع الرجل إصبعه، وتحدث، قرأ الصبي على هيئته شيئًا سمَّره في مكانه.

“قبل اثني عشر عامًا تزوجتُ المرأة صاحبة الصورة. ظلت زوجتي عامًا، وتسعة أشهر، وثلاثة أيام، وليلتين. كم أحببتها… آه، نعم أحببتها”. وعاد يغمغم بصوت ذاهل مختنق: “أحببتها… وظننت أنها تحبني هي أيضًا. كنت مهندسًا للسكك الحديدية. وفَّرتُ لها جميع سبل الرفاهية والراحة. لم يخطر لي أبدًا أنها لا تشعر بالرضا. وهل تعرف ماذا حدث؟”.

ندت عن ليو صيحة هازئة، لكنَّ عينَيْ الرجل لم تفارقا وجه الصبي.

“هجرتني. حين عدت إلى منزلنا في إحدى الليالي، وجدته فارغًا. رحلت وهجرتني”.

سأل الصبي: “مع رجل؟”.

أراح الرجل يديه على النضد وأجاب: “طبعًا يا بني. المرأة لا تهرب بهذه الطريقة وحدها”.

ساد الهدوء المقهى، واستمر المطر يهطل بالخارج دون توقف، ويبدو للرائي أسود اللون. كبس ليو اللحم فوق المشواة بشوكته الطويلة، ثم صاح: “إذن أنت تطارد تلك العاهرة منذ إحدى عشرة سنة أيها الأعجف الأبله؟”.

وهنا نظر الرجل إلى ليو للمرة الأولى وقال: “لا داعي للابتذال أرجوك. ثم إنني لا أوجِّه حديثي إليك”. عاد ببصره إلى الصبي مرة أخرى، وهمس بنبرة بانت عليها أمارات الثقة في الصبي ورغبته في التكتُّم والسرِّيَّة: “لا تُلقِ بالًا إليه. اتفقنا؟”.

أومأ الصبي متشككًا، فتابع الرجل يقول: “هكذا كانت الحال. إنني شخص فياض المشاعر. وطيلة حياتي كنت أجد دومًا ما يؤثر في نفسي؛ كضوء القمر، أو ساق فتاة جميلة. أجل، أشياء كثيرة استولت على نفسي. لكن المشكلة هي أنني أثناء استمتاعي بأيٍّ من تلك الأشياء، كنت أحس أن هذا يحدث من على السطح، لا ينبع من أعماقي. لا سعادة أو متعة اكتملت في حياتي أو توافقت مع ظروفي وحالي. حصلتُ على نصيبي الوافي من النساء، لكن دون أن يُحدث هذا فرقًا حقيقيًّا. كلهن بقين على السطح، دون أن تتسلل أي منهن إلى أعماق نفسي. قبل المرأة صاحبة الصورة، لم أعرف الحب أبدًا”.

أسبل جفنيه ببطء، كأنه يغلق الستار في نهاية مسرحية، وعندما عاد إلى الحديث أضحى صوته متحمسًا، وانطلقت الكلمات من فمه تسابق بعضها، وبدت شحمتا أذنيه الكبيرتين المرتخيتين وكأنهما تختلجان من فرط الإثارة.

“ثم قابلتها. كنت في الحادية والخمسين من عمري، وهي في الثلاثين. هذا ما أكَّدَته لي على الأقل. قابلتُها في إحدى محطات الوقود، وتزوجنا بعدها بثلاثة أيام. هل بوسعك تخمين كيف أصبحت حياتي وقتها؟ آه، هذا يفوق قدرتي على الوصف. كل ما شعرتُ به طوال حياتي اجتمع وانصبَّ في هذه المرأة. لم يبقَ شعور واحد على السطح. لقد جذبتني معها إلى الأعماق. جعلتني رجلًا كاملًا”.

قطَع الرجل حديثه فجأة وأخذ يربِّت على أنفه الطويل. ثم همس بصوت جامد محبط: “إنني لا أشرح لك قصتي بالطريقة الصحيحة. لكن لا بأس، سأنبئك بما حدث على أية حال. دائمًا ما كنت جيَّاشَ العواطف، أستمتع بمسرات الحياة الصغيرة، ولكن من على السطح دائمًا. ثم جاءت هذه المرأة فلملمت كل ما كان مُبَعثَرًا في روحي؛ كأنني قطع خردة وهي خطُّ تجميع. كنت أمرر هذه القطع الصغيرة من نفسي بداخلها، فأخرج كاملًا مكتملًا. هل تفهمني الآن؟”.

سأله الصبي: “وما هو اسمها؟”.

قال: “دعوتها دودو. لكن هذا بلا أهمية الآن”.

“طيب، هل حاولت إعادتها إليك؟”.

لم يَبدُ على الرجل أنه سمع شيئًا، وتابع من حيث توقَّف قائلًا: “لعلك قادر على تخيُّل ما شعرت به حين هجرتني”.

رفع ليو لحم الخنزير المقدَّد من على المشواة، وحَشَا رغيفًا صغيرًا مستديرًا بشريحتين. كان ليو رجلًا ذا وجه شاحب مكدود، وعينين ضيقين، وأنف معقوف كالمنقار مشوب بظلال زرقاء باهتة. حين أشار أحد عمَّال المصنع يطلب المزيد من القهوة، ملأ له كوبه. ليو لا يعيد ملء القهوة مجانًا. هذه قاعدة واضحة. يتناول عامل المصنع هذا فطوره في الحانة كل صباح، لكن لؤم ليو وبخله يزدادان كلما أصبح أشدَّ دراية بزبائنه. وأخيرًا بدأ يقضم من رغيفه، وإن بطريقةٍ بدا بها وكأنه يأكل طعامًا أفضل ممَّا يستحق.

عاد الصبي يسأل الرجل المسن: “ألم تحاول العثور عليها؟”.

احتار على أية صورة يراه، وبدا التردد على وجهه الطفولي يخالطه الفضول والريبة. إنه لم يعتد توزيع الجرائد بعد، ولم يزل يستغرب الخروج في الصباح الباكر، في هذا الظلام الحالك، والتوقيت الغريب.

أجاب الرجل: “بلى، أخذت عدة خطوات لأعثر عليها وأستعيدها. طفتُ بحثًا عنها في عدة أماكن. ذهبتُ إلى تولسا حيث يعيش أقاربها، ثم إلى موبيل. عرجتُ على كل بلدة حدَّثَتني عنها، وتعقَّبتُ كل رجل كانت على صِلة به. سألت عنها في تولسا، وأتلانتا، وشيكاغو، وتشيهاو، وممفيس. ظللت طيلة عامين أجول في شتى أنحاء البلاد أبتغي لقياها”.

قاطعه ليو: “لكن المرأة والرجل الغريب اختفيا من على وجه البسيطة”.

عاد الرجل يؤكد للصبي بثقة: “لا تُصغِ إليه، بل وانسَ ما قلته بشأن هذين العامين. لا أهمية لهما. المهم فعلًا هو ما حدث مع بداية العام الثالث… لقد وقع لي شيء غريب”.

سأل الصبي: “وما هو؟”.

انحنى الرجل على كوبه يأخذ رشفة من البيرة، ولما اشتمَّ رائحتها ووجدها راكدة؛ انتفض منخراه، وعدل عن الشرب بعد أن عافتها نفسه.

“الحب غريب حقًّا. في البداية لم أفكر في شيء سوى استعادتها. كان هَوَسًا حقيقيًّا. لكن مع مرور الوقت صرت أبذل مجهودًا كي أستطيع أن أتذكرها. هل تعلم ماذا حدث حينها؟”.

أجاب الصبي: “لا”.

“كلما استلقيت فوق سرير، وحاولت التفكير بها؛ يغدو عقلي فارغًا. حين لم يَعُد بوسعي رؤيتها بعين خيالي؛ أخرجت صورها وتطلَّعت إليها دون توقف. لكن دون جدوى. لم يثمر هذا عن شيء. صار عقلي فارغًا كصفحة بيضاء. أيمكنك تخيل هذا؟”.

وهنا صاح ليو مقاطعًا: “أسمعت هذا يا ماك؟ أيمكنك تصور عقل هذا المغفل السكِّير فارغًا؟”. لوَّح ماك بيده ببطء كأنه يهشُّ ذبابًا غير مرئيٍّ.

ثبَّت الرجل عينيه الخضراوين على وجه صبي الجرائد الصغير. بدت عيناه مركَّزتيْن تمامًا حين أردف: “غير أن شظية زجاج ملقاة على رصيف، أو لحن متصاعد من صندوق موسيقى، أو ظل على جدار في الليل، كانت كفيلة بتذكيري. أحيانًا كان هذا يحدث وأنا في الشارع؛ فأبكي وأنوح وأروح أضرب رأسي بأعمدة الكهرباء. أما زِلتَ تتابعني؟”.

قال الصبي: “شظية زجاج…”.

“أي شيء تتخيله. كنت أمضي في طريقي دون أن أدري متى وكيف سأتذكرها. قد يظن المرء أن بإمكانه الاختباء خلف درع مُحصِّنًا نفسه، لكن الذكريات لا تهاجمك من الأمام في مواجهة صريحة، بل تتكالب عليك من ذات اليمين وذات الشمال، وتضعك تحت رحمة كل ما تراه وتسمعه. وإذ فجأة، بدلًا من تمشيط البلاد أفتِّش عنها، بدأتْ هي تطاردني… تطاردني داخل أعمق أعماق روحي”.

سأل الصبي:

“وفي أي منطقة كنتَ حينها؟”.

تأوَّه الرجل، وتابع يقول: “آه، صِرتُ مريضًا يا بني… كأنني مصاب بالجدري. كنت أسكر، وأزني، وأرتكب أية خطيئة تحلو لي وقتها. أكره الاعتراف بهذا، لكني سأفعل على أية حال. حين أستعيد تلك الفترة بأكملها أجدها متخثِّرةً في ذاكرتي كالحليب الفاسد. إنها مريعة حقًّا”.

حنى الرجل رأسه، ودق به النضد مرَّات، وبقى على وضعه هذا لبضع ثوان. بدا قفاه الغليظ مغطًّى بزغب برتقالي، ويداه بأصابعهما الطويلة مضمومتين معًا كمَن يتلو صلاة أو دعاء. ثم صلب عوده، فوجده الصبي يبتسم. أضحى وجه الرجل مشرقًا وهرِمًا فجأة حين قال:

“وقع ذلك في العام الخامس، ومن خلاله استطعت تأسيس نظريتي”.

لوى ليو فمه في ابتسامة صغيرة باهتة، وأعلن: “الوقت تأخَّر”. ثم في نوبة غضب مفاجِئة كوَّر قماشة تنظيف الصحون في يده، وألقى بها على الأرض بعنف، وصاح: “عليك اللعنة يا روميو الفاسق”.

سأل الصبي: “ماذا حدث؟”.

أجاب الرجل بصوت مرتفع وواضح: “السلام”.

“ماذا؟”.

“هذا يصعب شرحه علميًّا يا بني. لكني أرى التفسير المنطقي لذلك هو أن كلينا انهمك طويلًا في الهروب من الآخر، حتى خارت قواه؛ فهدأ واستقرَّ واستسلم. السلام. فراغ جميل وعجيب. كنت في بورتلاند في الربيع، ولم يتوقف المطر حينها عن الهطول يومًا. وفي الظلام بدأت أستلقي على سريري، وأستمع إلى المطر طوال المساء؛ بهذه الطريقة أسَّستُ نظريتي العلمية”.

أحال النور نوافذ المقهى المتنقل زرقاء باهتة الزرقة. دفع الجنديان ثمن ما تناولاه من بيرة، وفتح أحدهما الباب بينما أخذ الآخر يمشِّط شعره ويمسح لفافتي ساقيه الموحلتين قبل أن يخرج. أما عمال المصنع الثلاثة فظلوا منكبِّين على فطورهم صامتين. بقت ساعة ليو على الجدار تدق وتدق.

“إليك نظريتي، فأصغِ إليَّ جيدًا. لقد درستُ الحب مَليًّا، وتوصَّلتُ في النهاية إلى تفسير منطقي. أدركت ما هي عِلَّتنا. يحب الرجل للمرة الأولى، ومَن يحب؟”. فغر الصبي فاه قليلًا، لكنه لم يجب بشيء.

أجاب الرجل نفسه قائلًا: “امرأة. لكن الرجال يخوضون التجربة الأشد خطورة وقداسة على وجه الأرض بدون عِلم، بدون نظرية منطقية يرجعون إليها. يقع الرجال في حب امرأة. أليس كلامي صحيحًا يا بني؟”.

أجاب الصبي بصوت خافت: “بلى”.

“يبدأ الرجال الحب بالطريقة الخطأ؛ فهم يبدؤونه من الذروة. أيمكنك تخمين لما يصير الوضع بهذه التعاسة؟ أتعرف على أية شاكلة يجب أن يحب الرجال؟”. مدَّ الرجل يده وجذب الصبي من ياقة سترته الجلدية. هزَّه برفق، ثم بعينين خضراوين لا ترمشان، منحه نظرة جادَّةً تمامًا، وسأل:

“أتدري كيف يجب أن يبدأ الحب؟”.

جلس الصبي منكمشًا على نفسه، ثابتًا في مكانه، يصيخ سمعه بانتباه تام. ثم هزَّ رأسه بالنفي بطيئًا. قرَّب الرجل وجهه من الصبي وهمس: “شجرة. صخرة. سحابة”.

كانت السماء لا تزال تمطر في الخارج؛ مطر خفيف كئيب مستمر. عندها دوَّت صافرة المصنع معلنة عن بدء نوبة عمل السادسة صباحًا، فهبَّ العمال الثلاثة يدفعون حسابهم، ويهرعون إلى الخارج. لم يبقَ أحد في المقهى سوى ليو، والرجل، وصبي توزيع الجرائد.

“هكذا كان الطقس في بورتلاند. هكذا كان في الوقت الذي شرعت فيه في تأسيس نظريتي. بدأتُ عملي بمنتهى الحرص والدقة. كنت ألتقط غرضًا بعد غرض من الشارع، وآخذه معي إلى البيت. اشتريت سمكة ذهبية. تأمَّلتها كثيرًا وطويلًا، وبمنتهى التركيز. ثم أحببتها. ومنها انتقلتُ إلى غرض آخر. وغرض بعد غرض، رحت أطوِّر من نفسي ونظريتي. يومًا تلو الآخر بنيت نظريتي العلمية وطوَّرتها على متن القطار، من بورتلاند وحتى سان دييجو”.

صاح ليو على حين غرة: “ألا تخرس وترحمنا!”. لكن الرجل بقي على حاله، ممسكًا بياقة الصبي. بدأ يرتعد، لكن أمارات الجد عَلَت وجهه، تشوبها الإثارة والحماس.

“ست سنوات وأنا أطوف البلاد وحدي، وأؤسِّس نظريتي. والآن صِرتُ علَّامة فيها. بمقدوري الآن أن أحب أي شيء وأي شخص. يحدث هذا الآن تلقائيًّا، دون تفكير. أبصر شارعًا مليئًا بالناس فيعشِّش نور دافئ في فؤادي. أرقب طيرًا في السماء، أو أصادف مسافرًا في الطريق، فأمنحه محبَّتي. أي شيء وكل شخص. كلهم غرباء، وكلهم محبوبون. أتَفهَم الآن ما يعنيه وجود نظرية كنظريتي؟”.

تخشَّب الصبي في جلسته. أمسك حافة النضد بقوة، ثم سأل:

“وهل عثرت على تلك المرأة؟”.

“ماذا؟ ماذا تقول يا بني؟”.

سأل الصبي برهبة: “ما أعنيه هو: هل وقعت في الحب ثانية؟”.

أرخى الرجل قبضته على ياقة الصبي، وأشاح عنه ببصره، ولأول مرة تجلَّت في عينيه الخضراوين نظرة متجهِّمة مشوَّشة. رفع الرجل كوبه، وجرع ما تبقَّى من بيرته الصفراء. راح يهزُّ رأسه ببطء يمينًا ويسارًا. وأخيرًا أجاب:

“لا يا بني؛ فهذه هي آخر خطوات نظريتي. إنني أتوخى الحذر في خطواتي… وأنا… أنا غير مستعد بعدُ”.

هتف ليو: “أحقًّا؟ أحقًّا؟”.

سار الرجل نحو المدخل، ثم توقَّف وقال: “تذكر…”.

في ذلك الصباح الباكر بدا الرجل في الضوء الرمادي منكمشًا ورَثًّا وواهنًا تمامًا، غير أن ابتسامته أشرقت وهو يتابع بإيماءة أخيرة من رأسه:

“تذكَّر أني أحبك”.

انغلق الباب خلفه بهدوء. وصمت الصبي طويلًا.

أخذ الصبي يُملِّس على غرَّته، ويحرك سبابته الصغيرة المتسخة حول حافة فنجانه الفارغ، وبدون أن ينظر إلى ليو سأله في النهاية: “أكان سكرانَ؟”.

ردَّ ليو باختصار: “لا”.

رفع الصبي صوته وتابع: “أهو مدمن مخدرات؟”.

“لا”.

رفع الصبي بصره إلى ليو، ووجهه الصغير مُحبَط تمامًا، وبصوتٍ حادٍّ ومُلِحٍّ سأله: “أهو مجنون إذن؟ هل تجده مخبولًا؟”. خَفَت صوت صبي الجرائد فجأة، وعاد يسأل والشكوك تنازعه: “أهو كذلك أم لا يا ليو؟”.

لم يجبه. يدير ليو مقهاه منذ أربعة عشر عامًا، وطيلة هذه المدة أبقاه مفتوحًا كل الليل؛ ولذا يرى نفسه قادرًا على تمييز الجنون. هناك الزبائن المقيمون في البلدة، وهناك العابرون الذين تأخذهم أقدامهم إلي مقهاه في عتمة الليل. بوسعه تمييز جنون كل واحد منهم. غير أن ليو لم يرغب في إرضاء فضول الطفل المترقِّب.

أنزل الصبي طرف سير خوذته الأيمن، وحين استدار ليغادر، أبدى التعليق الوحيد الذي خاله آمِنًا، لا يمكن الرد عليه بكلمة أو ضحكة هازئة: “الأكيد هو أنه رجل كثير الترحال”.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كارسن ماكلرز: روائية وشاعرة أمريكية ولدت في (1917 – 1967) من أشهر رواياتها «القلب صياد وحيد»
A Tree. A Rock. A Cloud: صدر فيلم روائي قصير يحمل نفس الاسم في عام 2017.

هدى يحيى: كاتبة ومترجمة مصرية ـ والكتاب مختارات قصصية من الأدب الأمريكي والإنجليزي ـ يصدر عن دار المحروسة- معرض القاهرة الدولي للكتاب 2023

مقالات من نفس القسم