شبح أنطون تشيخوف .. عن الكاتب والرسامة واللاعن والحشاش.
أحمد أبو الخير
استهلال :
لاشك أن عنوان الكِتاب سيستوقفك في البداية فما معنى " شبح أنطون تشيخوف "؟ وسرعان ما تتساءل ما هي الدلالة اللفظية التي يرمي مِن ورائها الكاتب "محمد عبد النبي"؟
هل سيعيد تشخيوف إلى الحياة، في الورق، يُجالسه، يتحاور معه، يعرض عليه القصص الممتعة التي كتبها ليُخبره برأيه ؟
أم مثلاً سيستعير شخصيات تشيخوف – والتي هي أصلاً مُلقاة في كُل طرقات الحياة الرحبة – ويتحدث عنها بنبرته السردية الخاصة ولغته المُنفردة به والمفرد بها ؟ وحينها لابد من تغيير الاسم من شبح إلى أطياف، أليس كذلك؟
أسئلة عديدة، استفهامات مُتشابكة، لابد أنها ستعترض طريقك من مجرد قراءة العنوان، فما بالك، ورأيك، بالمجموعة القصصية كُلها والتي تلعب في وزن الريشة، حيث تقع في زُهاء ثلاثة وتسعين صفحة من القطع المُتوسط المائل للصغير؟
ولكن بعض " شبحية " تشخيوف، ستتبدد أو قُل ربما سيتلاشى شيء مِنْ مدلولها داخل ذهنك عندما تصل إلي نهاية المجموعة وتعرف أن القسم الثان من الكِتاب، مُعنون بـ " أسلافنا " وفيها مُعارضة قصصية لطيفة لقصة " البدين والنحيف " لأنطون تشخيوف، وعِندها فقط سيتضح معني لفظة شبح أو شيء مِنها .
و استهلال أيضًا :
في مُستعرض كِتابه الصوت المُنفرد – المُترجم بواسطة محمود الربيعى – يقتنص القاص والناقد فرانك أوكونور اسمًا – ربما يكون شافيًا و لطيفًا أحيانًا – عن الجماعات التي يتحدث عنها الكُتاب في أعمالهم الأدبية، وذاك الإسم هو" الجماعة المغمورة "، وهُم عند جوجول جماعة الموظفين، وعند ترجنيف جماعة الخدم، وعند موباسان هن العاهرات، وعند تشخيوف طبقة الأطباء والمُدرسين وهكذا، علي الرغم من أن هذه الطبقات كُلها ليست بمغمورة أو حتي شيء من هذا القبيل، وإنما مُسلط عليها الضوء، تدورعليها وبين يديها رحي الحياة !
وعلي كُلاً، لو أخذت ذاك المُسمى ، ونَظّرته، قولبته، علي المجموعة المُتحدث عنها، لتتعرف سمة الجماعة الغالبة، فسيخيب مسعاك خيبة لا نهائية، وستعود بِخف حنين .
فمحمد عبد النبي لم يتقيد بمجموعة لحالها أو بفئة مُعينة وطبقة دون غيرها، عنها تقول أنها الخادمة، المرسوم حولها الهالات الضخمة والأحاديث .
فأنت ستتعثر بالشاعر الهائم، بالكاتب المُختفي في ظروف لا يعلمها إلا هو، الفتاة المُتحولة من الغناء والشجي إلي التستر في بيتها والنقاب، الحبيب الحالم المُشبه حبيبه بآزميرالدا، اللاعن لأمه القادرة، الزاهق في الحياة المُنتحر بسبب ما بها من بؤس وألم وتراجيديا.
لذا فأنت أمام مزيج من كُل شيء، وكل هذا الشيء سيدفع بك في خفة أحيانًا، وعنف أوقاتًا إلي أن تعرف البعض، القليل، النذر اليسير عن كُل هؤلاء، فما فائدة عقلك القاطن أعلاك إن لم تُعمله، تُجهده في التفكير وتربط به الجُزئيات المُتناثرة في المجموعة بالكُليات المُتواجدة في الحياة مُتنامية الأطراف، مُختلفة طبائع البشر، وبالتالي مُتباينة النظرة حول البشر من حولها؟
داخل الأحشاء :
والمجموعة مُقسمة إلي قسمين الأول له عنوان " أصدقاؤنا الشهور "، والثاني كما أسلفت هو
" أسلافنا ".
والممتع في الأمر أن القسم الأول يحتوي علي اثنتي عشرة قصة مُرتبة بأسماء شهور السنة من يناير إلي ديسمبر وهذه كانت إحدي نقاط ارتكاز القوة.
فمتن القصص - أحيانا – كان مُناسبًا، ملائمًا تمامًا لطبيعة حالة المُناخ في الشهر الدارج تحته القصة فمثلاً :
عِندك قصة أغسطس التي تقص عليك قصة الرجل الصاعد إليك من جحيم تحت الأرض، الناسب نفسه إليك غصبًا وكرهًا، الذي أنت لا تتذكره ولا تعرفه، قد انمحي من تلافيف عقلك، ولكنه يظل جالسًا عِندك، قاصًا عليك حكاوي وأحاديث مُستهلكة، لا تعلم كيف جاء بها واختلقها من اللاشيء، جالبًا معه الروائح الكريهة والبق والحشرات وغيره، فأنت تري أن جو القصة وشخصية هذا الرجل خانقة، مثل حرارة شهر أغسطس بالضبط.
أو مثلاً قصة سبتمبر التي تُخبرنا بالصحفي الذي سمع من صديقه عن الرجل الفتاة الذي لم يرتدي أية ملابس رجالية منذ عشرين سنة، وكان يذهب إلي المدرسة ويُغري الأولاد فيها، و يتفق الصحفي مع صديقه علي أن يتقابلا مع هذه الفتاة/ الرجل، ويُحاولا أن يُمثلا ذلك قبل أن تأتي/ يأتي حتي لا ينزلق لسان الصحفي، فتنقلب اللعبة نتيجة الخمر أحيانًا، ويظهر أو – هكذا ستشعر – أن الصديق نفسه هو هذا الشخص المُخنث !
قصة ساخنة، مُتقلبة المِزاج مثل شهر سبتمبر تمامًا.
أو حتي قصة إبريل التي يتحدث فيه عن فيلم شاهده بعض من الأصدقاء فيم بينهم عن قلم رصاص مُتواجد في باحة مدرسة، تهب الصواعق، فتبد فيه الحياة، ومن وقتها يحاول تغيير الكون والعالم والدُنيا والتاريخ لأنه مليء بالشرور وسوء الظن ولا يكتبه إلا المُظفر المُنتصر، ثم التناحر الفتيات والشبان في تأويل الفيلم، حيث هن يُرجعن ما فعله القلم لإفتقاده الحب، الشبان لا يستطع تجاهل الصرخة التي صرخها القلم لمّا دبتّ فيه الحياة، ألم تشعر بالأكاذيب تهفهف في الأفق؟ ألم تلمحْ بينوكيو وأنفه الطويلة المستدقة التي تزيد من طولها جراء كذبه من تغيير العالم؟
جدران الأحشاء :
الأماكن في المجموعة مُختلفة، حينا تشعر بها من حولك كأنك داخلها، مثل أن تتواجد في جماعة تُدخن الحشيش عِنْد المقابر، أو علي مكتب يجلس عليه شاعر، يتذكر ويتأمل ويكتب عن زوجة صاحبه الرسام، و حينا لا تعرف أين أنت من هذا العالم؟ أين تتواجد؟ كأن الغُربة قد أصابتك في مقتل.
أما الزمان فهو مُتلاشي، مُتماهي مع تدحرج الشخصيات عبر القصص كُلها، فلا عصر مُحدد، ولا حُقبة زمنية مُنفردة مُسلط حولها الضوء.
محمد عبد النبي، يتنقل باللغة بين أروقة لم تختبر من ذي قبل، فاللغة نقية للغاية، مُفككة، ولا أرمي بتفككها إلي التهلهل أو ما شابه، و إنما خالية من التعقيد اللفظي والتناحر اللغوي بين الدلالات المُختلفة، أي مُفككة، هاربة من غرائبية الألفاظ .
باللغة يخلق من رحم جوفه تصاوير وتعابير جديدة، مِنها مثلاً في قصة مارس عِندما وصف بطل القصة و تحدث عنه فقال – في ثلاث عبارات – :
" شاب ناعم الملامح " ثم يُكمل " لو رآه كفافيس لانعقد لسانه ولما كتب سطرًا واحدًا يشي بطلعته البهية "
هكذا يُكثف الوصف ويُجمله بالجُزيئات القليلة، التي تحتاج إلي تخيل لتصل إلي الكليات الكبيرة.
أو مثلاً التداعي الحر للأفعال في قصة يوليو الباهرة، الخالقة لجو غرائبي عندما قال :
" تمرش، تفرك، تدعك، تُصبن، تحك، تشطف، تغلي، تزهر، تعصر، تنشر، وتكوي أحيانًا "
فلم يستخدم أي من حروف العطف المعروفة، وهذا يدل علي أن هذه الأمور كُلها تحدث في ترتيب منطقي – وذاك واضح – وإنها أحيانا تحدث في اليوم نفسه، فلا تغيب الشمس إلا بعد أن تكون قد نشرت ولملمت الملابس.
و يستخدم محمد عبد النبي اللغة لإحداث قرع طبول كأننا في معركة حامية الوطيس، فيها تحتاج إلي تأجيج حماسة الجنود للظفر علي العدو وهذا قد تجلي في قصة ديسمبر حينما أخذ في حوالي صفحة ونصف الصفحة يصف الفتيات المُتواجدات علي البسيطة كُلها؛ فكُل كلمة لها معني ودِلالة قوية .
استهلال مُتأخر ربما :
و الكاتب في المجموعة، شأنه شأن أي ممتشق للقلم، يحاول من خلال كلماته أن يعيد تشكيل العالم من زاويته التي يراها هي الأفضل، فمثلاً يُعرف الفنان ويقول عنه :
" .. أتقي عشاق للحياة والمباهج "
أو يُعبر بتعبير جميل عن نفسية شخص أصابه العمي نتيجة الخطأ الطبي فيقول عنه :
" .. أن عدد من يعرف وجوههم يتناقص تدريجيًا، في حين أن عدد من يجهل شكلهم في تزايد مُستمر "
أو ينصف الخمر ويقف في جوارها عندما يتحدث عن الشخص الشارب للخمر فيقول :
" .. عندما تضحك عليه الخمر "
أو عندما يُعبر عن كافكاوية الحياة، والسوداوية المُحيطة بها فيقول :
" إنّكم لا تصدقون أن المادة التي صُنِعت مِنها الحياة هي المأساة. الإنسان، تحديدًا، مخلوق تراجيدي بإمتياز، يولد باكيًا صارخًا، وسط مشهد مقزز وبشع، ويرحل مُشيعًا بالنحيبِ والدموعِ، هذا إن أسعده الحظ بوجودِ مِنْ يحزن لفراقه أصلاً، وبين اللحظتين ينفتح سِجل عامر بالكبوات والأزمات والبلايا "
نهاية منطقية :
يتحدث فرانك أوكونور – المذكور سلفًا – عن القصص التي كتبها محمد عبد النبي بعد وفاة فرانك بسنوات عديدة فيقول عَنْها دون أن يقرأها :
" ليست القصة القصيرة قصة قصيرة لأنها صغيرة الحجم، وإنما هي كذلك لأنها هولجت علاجًا خاصًا، وهي أنّها تناولت موضوعها علي أساس " رأسي" لا " أفقي "، وفجرت طاقات الموقف الواحد بالتركيز علي نقاط التحول فيه .. "
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتب مصري