العجوزان.. و”جار النبي الحلو” صياد المحبة

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 

ولاء الشامي

قلما تشعر بأنك رائق المزاج، أمام حالة متفردة من الكتابة، لا تملك إلا أن تصفو أمامها. برأيي إن البساطة هي قلب الجمال وعقله؛ من السهل أن تكتب كلاماً مُنمقًا، معقدًا لا يفهمه الناس ويغُرهم صعوبة اللفظ فيصفقون، ثم ما يلبثوا أن ينسوا كل ما كتب أو قيل، ولكن من الصعب حقاً أن تكتب بأسلوب بسيط عن أشياءٍ عميقة تمس حياة قارئيك.

أحن دائماً لهذا المشهد القديم، "ساعة العصاري" وأنا جالسة في شرفة الجدة، وأجد بي لهفة لكوب من الشاي " المظبوط " من يد جدتي، خلفي الشيخ نصر الدين طوبار يشدو "يسبح لله فى العش الطيور ترسل الألحان عطرا في الزهور تصنع العش وتسعى فى البكور"، ممسكةً بكتاب حلو، رائق، قلما جعلني كتاب غارقة في هذه الحالة الماتعة الآن،  وها أنا الآن مع رواية "العجوزان" واحدة من ثلاثة كتب حتى الآن تنجح معي في هذا الإغراق الذي أشتاق له وأبحث عنه دوماً.

كلمات بسيطة جدا هي ما نحتاجه فقط لنكتب شيئاً عظيماً يذيب القلب، وتتوحد معه النفس، وتدمع له العين أحياناً.، هذه الكتابة لا يصلح لها أي كاتب حقا.ً، وإن حاول الكثير جهدهم، فلن يصلوا بسهولة إلى هذه الدرجة من "الروقان"، هذه الكتابة الشبيهة بـ"طبخة مستوية على نار هادية".

في هذه النوفيلا التي من شدة بساطتها هي جميلة، الصادرة في سلسلة روايات الهلال (يناير 2016)، يحكي جار النبي الحلو –الذي منذ قرأت اسمه فقط أيقنت أن ما سأقرؤه سيكون طيبا كهذا الاسم الذي أحببته وحلا لي أن أردده كثيراً– عن الحياة في فلكها الدوار، عن وحدة النهايات، وعن الصداقة وما فيها من علاقة إنسانية مميزة تستطيع ولو لقليل من الوقت أن تهزم هذا الفلك الدوار، توقفه قليلاً ليعيش الأصدقاء بصحبة حكاياتهم الطيبة.

لو سألني أحد "ماذا تودين أن تفعلي في سن التقاعد؟!"، سأجيبه بأني لن أتمنى أكثر من بيت له حديقة صغيرة مليئة بالزهور مختلفة الألوان، وشجيرات تعطي ثماراً قليلة، وكثير من الكتب، وشريك حياة وصديق محب لا يتركني أجد فيه العزاء والونس، "حبيب مخلص يحبك يكون ع العهد باقي"، لا أكثر من هذا.

بلغة مناسبة للمعنى بغير إخلال ومفردات بسيطة تكون جملا قصيرة رشيقة، تخرج الحكايات على صفحات الرواية متدفقة كأنها مستمدة من حكايات الجدة، فجار النبي الحلو حكَّاء، لكنه يرى العالم بدهشة طفل، يحكي عن مواقف إنسانية عايشها من يحكيها، عبر سرد قائم على الحكي أشبه بقصص قصيرة ولكنها متماسكة، تستلم كل شخصية الدور فتحكي، وتنصب الحكايات على بعضهم البعض عن شخصيات مهمة في حياة كل واحد، توثق لنا علاقة العجوزين تارة، وتحكي لنا عن مشاعر إنسانية تارة أخرى، وتنصب معظم المواقف في روح "فايز".

"ذات مرة شرح لي، "رفيقي" يعني أخويا، لا أحد يطل عليَّة في الدنيا سواه، أطلب من الله أن أموت قبله"

"فايز" الطفل العجوز الذي فاز بـ"رفيق" المحب المخلص لصديقه، عجوزان قاربت بينهما الوحدة وتفرق الأهل وانشغال الأبناء، حتى يصير كل واحد منهما أسرة الآخر، يساعدان بعضهما على تجاوز الأيام الطويلة التي تصحب الشيخوخة وتغير الصحة، صديقان يشكلان روحاً واحدة مشبوكة في عقدين، "وصرت والعجوز توأمين يتهامس الناس عليهما"، يحملان عن بعضهم بعض القلق والألم، يحتفظ كلاهما بالقدر نفسه من المشاعر تجاه الآخر، كأغنية حلوة اللحن والكلمات مضت بهما الأيام "يا صديقي مد إيدك جرحي جرحك عيدي عيدك"

ثم في مشهد أشبه بنهاية فيلم دم الغزال، وفجأة وبدون مقدمات يختفي رفيق ويبح صوت فايز في النداء عليه بلا فائدة، "وقد أصبح الاثنان عاجزين عن زيارة أحدهما للآخر. أطل فايز من الشرفة على رفيقه بأسى ثم انسحب إلى داخل الشقة. وقف رفيق تماما في منتصف الشارع الضيق قبل كشك ياسمين وأخذ يطل على بلكونة فايز. تردد ثم مشى بعرج ملحوظ وتهدل في كتفه. وقف على ناصية الشارع لحظات ثم اختفى."

"لا تخافي أصبحت شاباً، بعد شيبتي رأيت ثورة"

 كانت هذه الانتقالة مفاجئة، لم أستطع أن أغالب دمعة سقطت على ذكرى الثورة حين أسقط الشباب النظام، يحكي جار النبي عن مشاعر العجوزين وعن مشاركتهم في الثورة، عن عودة الشباب والأحلام

 "مليون شاب في الميدان! ذات الميدان الذي وقفنا فيه ونحن طلبة، ذات الميدان الذي مارسنا فيه حب البنات وتبادل المنشورات. ارتديت ملابسي كيفما اتفق. هرولت إلى الشارع، بين الآلاف. رأيت عيونا أعرفها وأحلاما استيقظت فجأة. رأيت زوجتي وأجدادي وأعمامي وأحفادي وأبي وأمي.. وزملاء السياسة والشبان جميعا يجرون. لم أشعر بآلام ظهري أو ضربات قلبي أو أعراض ضغط الدم اللعين. أخذني في حضنه، فايز كيف التقينا رغم الحشود! واحتضنني طويلا ثم سألني بغتة: هل تصدق؟ "

الحماس الذي طال الكبار قبل الصغار؛ مقدرين انفتاح النافذة مرة أخرى على الحلم، على المستقبل الملون بدم الشهداء "عملوها أولاد التحرير، وزعقت بكل ما أملك: مشي مشي!"

بانتهاء قراءتي لهذه النوفيللا الجميلة، أتمنى للكاتب جار النبي الحلو كما تمنى لنفسه " أحلم أن أظل في الذاكرة كحدوتة شعبية ".

 يمكنكم تحميل الرواية وقراءتها من هنا>> العجوزان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

كاتبة مصرية 

 

 

مقالات من نفس القسم