تشيزاري بافيزي (1908- 1950)
التقديم والترجمة: جمانة حدّاد
كيف أختصر لكم حياة هذا الإيطالي الجميل؟ ولد مرّة واحدة، تعذّب، كتب، ومات مرّتين. خلال الاثنين وأربعين عاماً التي أمضاها على هذه الأرض، أحبّ بافيزي امرأتين: “الفتاة ذات الصوت الأجشّ”، المناضلة المجهولة الاسم التي عرفها على مقاعد الجامعة، والتي سجنه الفاشيون بسببها ورفض أن يشي بها. وحين خرج من السجن عام 1936، وجدها قد تزوّجت بغيره فمات للمرة الأولى. ثم التقى كونستانس داولينغ عام 1947، و”قام”. لكنّ اللعوب الأميركية سرعان ما هجرته بدورها وعادت إلى بلادها. من اجلها كتب “سيجيء الموت وستكون له عيناكِ”، قبل أن يبتلع أقراص موته الثاني أمام عينيّ المفجوعتين في غرفة كنتُ استأجرتها له داخل فندق قذر في السابع والعشرين من شهر آب عام 1950.
بين الميتتين أعطى بافيزي عددا كبيرا من الأعمال، أكثرها في الرواية: كتب “مهنة الحياة” و”الصيف الجميل” و”القمر والنار” و”الرجل الوحيد”، وكتب أيضاً “قبل أن يصيح الديك”، لكنه لم ينتظر أن يخونوه ثلاثاً. كنس كآبته من شوارع تورينو ثم تأبّط طعنتيه ورحل خفيفاً.
***
مختارات
سيجيء الموت وستكون له عيناكِ
هذا الموت الذي يرافقنا
من الصباح الى المساء
أرِقاً، أصمّاً،
كحسرة عتيقة
أو رذيلة بلا جدوى.
ستكون عيناك حينئذ
كلمةً قيلت سدى
صرخة مكتومة، صمتاً ستكونان
مثلما تتراءيان لكِ كل صباح
حين تنحنين على ذاتك في المرآة.
في ذلك اليوم يا أملاً غالياً
نحن أيضاً سوف نعرف
أنّ الحياة أنتِ وأنك العدم.
يرتدي الموت نظرةً لكل منا:
سيجيء الموت وستكون له عيناكِ
سيكون له طعم التخلّي عن رذيلة
سوف يشبه رؤية وجه مضى
ينبثق من الخيال
كما الإنصات الى شفتين مغلقتين سيكون.
آنذاك
سوف ننزل إلى الهاوية بسكون.
***
لك دمٌ، ولهاثٌ
جسدٌ
شعرٌ ونظرات.
الأرض والزرع
سماء آذار والنور
تتموّج وتشبهك.
ضحكتك وخطواتك مثل مياه ترتعش
جسدك الطري مرج وسط الشمس
الخطوط التي بين عينيك
كم تشبه قطاف الغيوم!
لك دمٌ ولهاث
تعيشين على هذه الأرض
تعرفين نكهاتها
فصولها ويقظاتها
تلعبين في الشمس
ومعها تتكلّمين
يا ماء صافياً يا سليلة الربيع
يا غيمة تتدفق كنبع من الأعماق
وثمرة حلوة تسطع تحت سماء مبرعمة
في صمتكِ المغمد تكمن قوتك
ومثل عشبة حيّة في الهواء
ترتعشين وتضحكين.
أنتِ الزرع
وجذوره المفترسة
أنت الأرض التي تنتظر.
***
تمضي الصباحات صافية ومقفرة .
مثلها كانت عيناك
تتفحتان في ما مضى .
كان الصباح بطيئاً يمضي ،
وكان لجة من النور الجامد .
صامتاً كان ومثله كنت وأنت حية،
الأشياء كانت تنطق بالحياة تحت عينيك
( لا حزن، لا حمّى، لا ظلال )
مثل بحر عند الصباح ، صاف .
حيث أنتِ، أيها النور، يرى الصباح النور !
الحياة كنت والأشياء.
وكنا فيك نتـنفس يقظين
تحت هذه السماء التي ما زالت فينا.
لا حزن لا حمّى إذن،
ولا ذاك الظل الثـقيل
لنهار طافح ومختلف.
أيها النور، يا صفاء بعيداً،
يا نفساً يلهث ،
وجّهي أنظارك الجامدة والصافية إلينا .
مظلم هو كل صباح يمضي
من دون نور عينيك.
***
أنتِ مثل أرضٍ
لم يقلها أحد قطّ
لا تنتظرين شيئا
سوى الكلمة التي ستنبجس من قاعك
كثمرة من بين الأغصان.
دائماً تأتين من البحر
وصوتكِ مثل صوته أجشّ.
***
الرجل الوحيد يصغي الى الصوت الهادىء
بنظرة منفرجة،
وشبه نفس يرقد على وجهه،
نفس صديق يرتقي، عجيباً، الى زمن مضى.
الرجل الوحيد يصغي الى الصوت القديم
الذي سمعه آباؤه في ما مضى، جلياً
وموحّداً.
صوت يكفهرّ عند السماء
كما خضرة المستنقعات والقبب.
الرجل الوحيد يعرف صوتاً من ظلال، عذباً،
يتفجّر في أنغام النبع السرّي الهادئة:
يشربه مأخوذاً، مغمض العينين،
فلا يبدو انه قربه.
ذلك هو الصوت الذي استوقف يوماً
والد والده، وجميع ذوي الدم الميت.
صوت امرأة هو، يُــعزَف سراً
على عتبة المنزل، حين ينسدل الظلام.