سمكة قابلة للذّوبان (الأقسام الثّاني والثّالث والتّاسِع)

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أندري بريتون

ترجمة: مبارك وساط

القسم الثّاني

 أقلّ من الوقت اللازم لقول هذا، أقلّ من الدّموع اللازمة للموت: لقدْ عددتُ كلَّ شيء. قُمتُ بإحصاء الأحجار؛ إنّها بعدد أصابعي وأصابع أخرى قليلة؛ وزّعتُ مطبوعات دعائيّةً على النّباتات، وكلّها لم تقبلْها منّي. مع الموسيقى نسَّقْتُ أعمالي لثانيةٍ فحسب والآن ما عدتُ أعرف كيف أنظر إلى الانتحار ذلك أنّني إذا شِئتُ أن أنفصل عن نفسي، فالمنفذ إلى الخارج هو في هذه الجهة، وأضيف متماكراً : المدخل، الدّخول هو من هذه الجهة الأخرى. تَرى ما الذي يبقى عليك فِعلُه. السّاعات، الغَمّ، لا أقيم لها حسابا معقولا؛ أنا وحدي، أنظر عبر النّافذة؛ لا يَمرّ أحد، أو بالأحرى لا أحد يمرّ(أُشَدِّد على يمرّ). هذا السّيّد، ألا تعرفونه؟ إنّه السّيّد هُوَهُو. أقدّم لكم السّيّدةُ مَدام. وأبناءَهُما. ثمّ أعود ناكصاً على عقبيّ، خطاي تعود بدورها لكنْ لا أعرف على ماذا تنكص. أتفحّص جدول مواقيت؛ لقدْ أُحِلَّتْ فيه محلّ أسماء المدن أسماءُ أشخاصٍ كانوا وثيقي القرابة منّي. هل سأمضي إلى “أ”، هل سأعود إلى “ب”، هل سأغيّر القطار في “س”؟ نعم، بالطّبع، سأغيّره في “س”. فحبّذا أنْ لا يفوتني القطار الآخر الذي سيتابع بي إلى السّأم! ها نحن قد بلغناه: السّأم، المتوازيات الجميلة، آه! كم المتوازيات جميلة تحت متعامدات الله.

*

القسم الثّالث

في ذلك الزّمن، لم يكن هنالك انشغال حول ساحة الباستيل إلّا بزنبورة هائلة الضّخامة كانت تنزلُ في الصّباح جادّة ريشار لونوار مُغَنِّيةً بأعلى صوت وطارحةً ألغازاً على الأطفال. كان السّفنكس العصْريّ قد تسبّب في وقوع عدد لا بأس به من الضّحايا حين، لدى مغادرتي مقهىً اعتبر المُكلّف بها من الجيّدٌ أن يَجعل صورَةَ مدفع زخرفاً بأعلى مدخلها، رغم أنّ السّجن المرتفع في ذاك المكان يُمكن أن يُعتبر بنايةً أسطوريّةً، لاقيتُ الزّنبورة التي لها قدّ امرأةٍ جميلة والتي سألتني عن الطّريق.

« يا إلهي! جميلتي، لستُ أنا الذي ينبغي أن يَبريَ لك قلم أحمر الشفاه. فسبّورة السّماء فِعلاً قد مُسِحتْ للتّو وتعرفين أنّ المعجزات لم تعد لا بالدّافئة تماماً ولا بالخفيفة كلّيةً. عودي إلى بيتك، إنّك تسكنين بالطّابق الثّالث من عمارة حسنة المظهر، ورغم أنّ نوافذك تنفتح على الباحة، فربّما ستجدين طريقة للكفّ عن إزعاجي. »

كان طنين الحشرة، الذي لا يُحْتَمل مثلما احتقان رئويّ، يُغَطّي في تلك اللحظة على ضَجيج التّرامويات، التي كان التّرولّي من يعاسيبها. والزّنبورة، بعد أنْ نظرتْ إليّ طويلاً، قاصدةً، بلا شكّ، أنْ تُبيّن لي تفاجؤها الهازئ، اقتربتْ منّي وقالتْ في أذني: « سأعود. » وبالفعل اختفتْ وكنتُ حقّاً مغتبطاً بالتّخلُّصِ منها بكلّ ذلك اليُسْر إذْ بدا لي جِنّيُ السّاحة، الذي يكون في العادة شديدَ اليقَظة، وقد أخذه الدُّوار ويُوشكُ أنْ يَهويَ فوق المارّة. لمْ يكنْ ممكناً أن يكون الأمر سوى هلوسةٍ مِن قِبلي سبّبتها الحرارة المرتفعة جِدّاً. بل وكانت الشّمس تُضايِقني من أجل أنْ تُبرِم نَقلاً فُجائيّاً للسُّلط الطّبيعيّة ذلك أنّها كانتْ شبيهةً بورقةِ شجرةِ حَوْرٍ رجراجة ولمْ يكنْ عليّ سوى أن أُغمض عينيّ لأسمع الأغبرة تُغَنّي.

 والزّنبورة التي أشعرني دنوّها رغم كلّ شيء بانزعاج قويّ (فقد كان الكلام يدور مجدّداً منذ بضعة أيّام حول مآثرِ لَسّاعات مجهولات لم تكن تحترم لا برودة الميتْرو ولا عُزلات الأحراج)، لم تكن قد كفّتْ تماماً عن إسماع طنينها.

 غير بعيد عن ذلك المكان، كان السِّينْ يجرف بصورة غيرِ قابلة للتّفسير جذع امرأة صقيلاً بشكلٍ رائع رغم أنّه كان منزوع الرّأس واليدين وبعضُ السّوقة الذين بلّغوا قبل قليل عن ظهورها كانوا يقولون إنّ ذلك الجذع هو جسد كامل لكنّه جسدٌ جديد، جسد لم يسبق لأحد بكلّ تأكيد أن رآه أو لامسه. وأفراد الشّرطة، المتعبون، كانوا قد جاشت مشاعرهم لكنْ إذْ لمْ يعدْ قطّ ُالزّورقُ الذي أطلقوه لملاحقة حوّاء الجديدة، فقد تخلّوْا عن القيام بملاحقة أخرى تكون تكاليفها أعلى وتمّ التّسليم دونما ضمانة بأنّ الثّديين الأبيضين الجميلين والخافقين لمْ يكونا قطّ لكائنة حيّة من الصّنف الذي لا يزال يُخالِجُ رغباتنا. لقد كانت فيما وراء رغباتنا، على طريقة الشُّعَل وكانت نوعاً ما اليومَ الأوّل من موسم الشّعلة الأنثويّ، 21مارس أَوْحَدُ من ثلج ولآلئ.

 

القسم التاسع

 ليلةٌ شنيعة، ليلةُ أزهار، ليلةُ حشرجات، ليلةٌ مُدوِّخة، ليلةٌ صمّاء يَدُها طيّارة ورقيّة بَشعة مشدودة من كلّ الجهات بخيوط، خيوط سوداء، خيوط مُخْزية! يا ريفاً من عظام بيضاء وحمراء، ماذا فعلتَ بأشجارك المقزّزة، ببراءتك المتشجرة، بإخلاصك الذي كان كُييْساً تزدحم فيه اللآلئ، منقوشةً عليه أزهار وكتاباتٌ كيفما اتّفق، ودلالاتٌ في أقصى الحالات؟ وأنتَ، يا قاطع الطّريق، يا قاطع الطّريق، آه إنّك تقتلني، يا قاطع طريقٍ في ماء ينزعُ أوراق سكاكينه في عينيّ، ألا تعرف الشّفقة، يا ماءً مُشِعّاً، يا ماءَ معموديّةٍ أُكنّ له الحبّ ! ستطاردكم لعناتي طويلاً مثلما طفلة جميلة حدَّ أنّها تُخيف، طفلة تُلوِّح في اتّجاهكم بمكنستها التي من خشب الوزّال. في طرف كلّ فرع هنالك نجمة وهذا لا يكفي، كلّا، يا هندباءَ مريم العذراء. ما عُدت أُريد أن أراكمْ، أريد أنْ أُخرِّق بقطع رصاصٍ صغيرة طيوركم التي ما عادتْ حتّى أوراقاً، أريد أن أطردكمْ من بابي، يا قلوباً ذات بُزور، يا أمخاخاً منذورةً للحُبّ. كفى من التّماسيح هناك، كفى من أسنان التّماسيح على دروع المحاربين السّاموراي، وكفى أيضاً من دفقات الحِبر، في كلّ مكان جاحدون، جاحدون بأطرافِ أكمامٍ حمراء أرجوانيّة، جاحدون لهم عيون الكشمش الأسود، لهم شَعْرُ دجاجة! اِنتهى الأمر، لن أُخفي بعدُ شعوري بالخِزْي، لا شيءَ بعدُ سيمكنه أن يهدّئني، ولا أقلُّ من لا شيء. وإذا كانت عجلات القيادة في حجم بيوت، فكبف تريدون منّا أن نلعب، أن نتعهّد ديداننا، أن نضع أيدينا على شفاه القواقع التي تتكلّم بلا توقّف (هذه القواقع، من سيُسكتها، آخِرَ الأمر؟). لا أنفاسَ بعدُ، لا دم، لا روح ولكنْ أيادٍ لِعجن الهواء، لجعلِ خبز الهواء في لون الذّهب لِمرّة واحدة، أيادٍ لِتصْفقَ الممحاةَ الكبيرة للرّاياتِ النّائمة،  أيادٍ شَمسيّة، وبإيجاز، أيادٍ جمّدتها البرودة!

………………………..

* ”سمكة قابلة للذّوبان”: كتاب شِعريّ لأندري بريتون، ظهر سنة 1924،  ويتكوّن من اثنين وثلاثين قِسماً، كلّ منها عبارة عن قصيدة نَثر. وقد نُشِر القسم الأوّل من هذا الكتاب مِن قَبل بموقع الكتابة الثّقافيّ.

 * أندري بريتون ـ André Breton ـ (1896 ـ  1966) هو شاعر فرنسيّ، يُعَدّ رائداً ومُنظّراً للاتّجاه السّورّياليّ. من أعماله:  الحقول المغناطيسيّة ( بالاشتراك مع فيليپ سوپو)، المسدّس ذو الشّعر الأبيض، سمكة قابلة للذّوبان، الخطى الضّائعة، نادجا، المصباح في ساعة الحائط…

 

 

 

مقالات من نفس القسم