وجه الموناليزا..قراءة جديدة في رؤى الجمال والعولمة ـ المقاربة الحسية ـ

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

نعيم عبد مهلهل

لا أعرف حين أتأمل وجه ليوناردو دافنشي ، أتخيل الرجل عبارة عن رأس بحجم كرة من الورد . رغم التجهم الذي رسم على وجهه ملامح قاسية مثل كومة من الصخر. هذا الرجل رسم الجيكوندا . وهي سيدة نبيلة من أسر فلورنسا العريقة . الأهم الذي غاب عن التأريخ ، هو شكل الحوار الذي كان يدور بين المرأة والرسام . وحتماً لو أن أحداً قد دون مايدور سيتغير شكل الرؤيا التي تمنحها لنا المونليزا الآن ، فالأمر فيه الكثير من خبايا تشتغل على عاطفة الروح والجسد . فرجل مثل دافنشي ، لايمر عليه الأمر مرور الكرام ، كمن يرسم لأجل أن يرضي رغبة الدوق . فهو الذي أختار وجه مونليزا ، وربما لو طلبت أمرأة غيرها لرفض . فمخطوطات ليوناردو كشفت عن مزاجية صعبة تصلح لتكون مرجعية لنص يشتغل على حداثات جديدة لتصورات عصر مرتبطة بآنية ما يحدث اليوم وكما أفعل أنا عندما أعيد ترتيب شكل وجه المونليزا مستعيناً برؤى الموت والحياة التي مارستها علينا الحرب في جهة من جهات الله أسمها ( الجهة الشمالية ) .

لم يسمح لي الفقر الذي يشبه رغيفاً سومرياً متحجراً في تنور أثري أن أتعدى عتبة المدينة إلا عندما توفر أمي ما باعته من بيض دجاجتنا الحسناء ( نرجس ) وتذهب بما وفرت لزيارة النجف وكربلاء . أمي حزينة لأن النقود لاتوفر لها زيارة أبي الجوادين ( ع ) وأأئمة سامراء . ورغم هذا تكتم حزنها ، وتلف دموعها بين أجفانها ، كمن يلف أوراق مودته القديمة ليخبئها عن زوجته . وأكبر حزن أراه في عيون أمي عندما ترغمها الجورة لتزور جارتها ( الحاجة تنزيل عبيد ) القادمة للتو من حج مكة المكرمة . كانت أمي تسمح لي بمرافقتها لضعف في نظرها . وكنت أرى المنائر تتعلق بعاطفة الذهب ، وأعيد الفهم الروحي لشكل القبة ، وأفسر خيالات العطر الذي يتعطر به الزائرون من الهنود البهرة ، ومرات أطيل التأمل في عبارات الأهداء التي دونها الشاه الصفوي على الباب المذهب لمقام الحسين ( ع ) . فأكتشف مالم يكتشفه الزائر الذي يقبلُ الباب ويدلف الى الداخل . أما أنا فكنت أرى في الشارب الطويل للشاه الصفوي تفاعلات الحدث التأريخي عبر الأزمنة كلها ، منذ أن دخل كورش بابل وحتى اليوم .

وجه المونليزا مسألة حسابية أرقامها تتعلق ببندول الأزمنة وهي واحدة من التعابير الأستثنائية للجمال الذي نتخيله في مساحات الرأس عندما نريد أن نجلب وردة ما لواحد من مساءات الأجازات الطويلة ، عندما تعطينا تلك الأذونات مساحة من التخيل وأشراك الشعر في صناعة الألم الذي تصنعه الحرب . وفي المحصلة ، ستكون هناك مساحات شاسعة مابين الوجه المحصور بأطار من خشب مذهب ومعلق في واجهة محمية من رصاص المجانين وخدع السراق : وهو وجه جيوكوندا وبين تلك الثنائية المتداخلة مع وجود نائي في شمال يصنع رباياه بمجارف الأحزان وأنين أغاني مطربي الريف وعندما يذكر أحدهم باريس مثلاً. يرد الثاني مستهزأً : أن سوق الشيوخ* أقرب . والغريب أنها رغم عدم أقتراب موضوعتها بأي شجن للحرب إلا أنها أقنرنت به حين سرقت في زمن كان العالم قد هيىء نفسه لحربه الكونية الأولى . وكان الظن أن السارق ليس سوى عاشق لها ، أو مجنون يغار من هذه الأنثى التي قيل أن السحر يشع من عينيها كما تشع الشمعة من يد بابا الكنسية وهو يصلي من أجل رعاياه أن تبتعد عنهم مشقة وهموم البنادق ، ويبدو أن دافنشي تقصد أن يترك للبشرية أثراً محيراً فكانت لوحة (المونليزا ) .

يقترب وجه المونليزا في جانبه الحسي من وجه الوردة ويشيع هذا الأحساس الروحي مداخلات نفسية بين هاجس الأنثى المتحرك برغبات صنعتها السماء لتكون مصدراً لحاجة الرجل وبين جمال صنعته السماء أيضاً ليكون وسيط بين الذكر والأنثى . لأجل هذا تكون الوردة قرين مناسب لهذا الود المتجمع في وجه المرأة الذي أحدث الغيرة في دراسات بعض النفسانيين وقالوا : أن الوجه الخالد للسيدة الفلورنسية في مقاربة خفية مع وجه الخنزير . وهم بذلك يرون وحسب ظنهم أن دافنشي أراد في خطوطه المخفية هذه أن يشوه الجمال الحقيقي للمرأة النبيلة لغاية ترتبط ربما في مشاعر الفنان ، مؤكدين في هذا أن ثمة أرتباطات أخرى ينبغي أن تولد بين الرسام وموديله لأنها كانت تجلس أمامه ساعات طويلة وهو يرسمها . وعليه فأن قياسات الوردة بهذا الموديل تحمل مقاربات روحية لاحصر لها تجعلنا نؤمن بقدرة هذا الكائن الصامت مع أبتسامته الخفية والمخيفة أن جعل الورد صلة الحس في أتمام شيئاً من علاقة نود أستحضارها هو أمر جائز وخاصة عندما ندرك أن ملامسة وردة في أمسية حرب يعني أستذكار عصر كامل من الشعر والطفولة والعوز ومراهقة التمني عندما تصير باريس مثلاً في مساحة الحلم والتمني أقرب من شفاه المرأة التي كانت تعطيك بعناقها لذة الورد كله ، وحين تذكر لها أن المونليزا وقت تمني الشعر تصبح مثل الوردة في حضن الجندي الذي يود بعد سلامته من جحيم القصف أن يكتب رسالة لمن يهوى تشتعل غيرة المرأة فلا تحب بعد ذلك أن تشاهد لوحة المونليزا وترفعها من روزنامة المطبخ ، وأيضا لاتحب شم الورد وتعوض عنه بشم الرسائل القادمة من شمال الثلج وهي تحمل رغبة عناق ليال أطول من ألف ليلة .

في الشعر حيث تتملكنا الهواجس المرئية والحسية وعلى مدار مستويات الأشتغال كلها تتطبع الذهنية على مستوى معين من الحس ، وتشكل الوردة واحدة من الخيارات الدائمة لهذا الأشتغال ويمكن أن نأخذ التعبير البورخسي هذا دليلاً على ما نذهب أليه في قدرة هذا الكائن الجامد على تحريك أكثر من جبل جليدي فينا عندما يقول في واحدة من خطاباته بعد أن أنطفىء النور من عينيه ( أن الكتابة سلوة عظيمة ، ولكن ملامسة الورد أعظم ، فالوردة تشعرك بأن شيء ما يتحرك داخل أعماقك فيريك الكثير من الأمور التي هي في داخلك ولكنك لم تراها أو تشعر بها ، محصلة ذلك أن الورد كائن ثان يعيش فينا ) .

من هنا فأن تقريب هذا الهاجس الصغير الذي يملأ الكف بأحساس متداول بأن الحياة من دون ورد تشبه صحراءاً لاحدود لها يعطينا شعوراً بأن المقاربات التي نصنعها من خلال أحساسنا بوجود الرابط الروحي بين المرأة الجميلة والورد هو خلق جديد للوجود بعيداً عن تفرعات رؤى المعارف والفلسفات والعلوم لأنك عندما تصنع حياة مكونة من أمرأة جميلة ووردة فأنت تصنع الوجود الحقيقي الذي أنتمى أليه الأنبياء والقدسين وكتبة اللوح الأول ، لهذا فأن أشراك الوردة مع المونليزا هو أشراك فيه الكثير من تحديات الفعل كي نجعل من هاذين الهاجسين مكانين في الظل الكوني البارد نهجع أليهما كلما أردنا أن ننسى الحرب والموت وهذا التشريد القسري لعاطفة الأنسان في منافي العولمات الجديدة التي تنام وتصحو على مبتكر جديد ولكنه يحتاج الى أرض جديدة واحتلال آخر .

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم

محمد العنيزي
كتابة
موقع الكتابة

أمطار