الغابة: الأخت الكبيرة

محمد الفخراني
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 محمد الفخراني

كيف تجمَّعَتْ كل هذه الحيوانات والطيور والأشجار والألوان فى مكان واحد؟

  لماذا لم نَرَ غابة تنشأ أمام أعيننا؟ ولَم نسمع أن غابة جديدة نشأت فى مكان ما، وكأن كل غابة نعرفها، أو لم نعرفها بعد، قد نشأت فى اللحظة نفسها مع ظهور الأرض.

 وكيف يمكن للغابة أن تستمر كل هذه السنوات دون أن يعتنى بها أحد؟

نعم، أيوا، لأنها الأخت الكبيرة، الغابة لا تحتاج مَنْ يرعاها، هى تَرْعى غيرها، وتعتنى بهم.

ولو أن الغابة تتكوَّن تدريجيًّا، فهل تبدأ بشجرة أم طائر أم حيوان أم لون؟ وأىّ لون ستبدأ به؟ أىّ طائر أو حيوان أو شجرة؟

أتوقَّع أنها تبدأ بشجرة، أىّ نوع؟ ربما صفصاف أو توت.

فى الوقت نفسه أُحِب أن أتخيَّل الغابة قد ظهَرَتْ ومعها من كل حيوان وطائر ولون وشجرة معًا، ظهَرَتْ فى نفس اللحظة التى ظَهَرَتْ فيها الأرض.

فى العالم ثلاثة أُخوة: الغابة والبحر والصحراء، يُكملون بعضهم بعضًا، لو اختفى أحدها تختفى الأرض، هم أكبر ثلاثة بيوت فى العالم، مفتوحة على الدوام، وأكْرَمُ ثلاثة بيوت، وأكثر البيوت متعة وإدهاشًا.

ننظر إلى الأرض بأنها أُمّ، وفى هذه الحالة تكون الغابة هى الابنة الكبرى للأم الأرض، الغابة هى الإبنة الأم، فى وقت الشِدَّة تكون أُمًا لأمها، وكل أمّ تحتاج فى وقت ما إلى مثل هذه الإبنة.

الغابة ابنة أُمِّها، وأُمُّ أمها وقتَ اللزوم. 

أفكر أن الغابة ربما نشأتْ عندما غادَرَتْ امرأة فقيرة كوخها، لتجمع من العالم هدايا تُقدِّمها لابنتها فى يوم زفافها الذى تَحدَّدَ بعد أيام، فأعطاها العالم من كل ما لديه، حيوانات وأشجار وطيور وألوان وموسيقا ومياه ونور وظلال وورود وفراشات، كانت الأم تنوى أن تعود لكوخها آخر النهار، لكنها ظلَّت تمشى فى العالم وتجمع هدايا، ولم تَنْتَبه لمرور الأيام، وتأخَّرَتْ كثيرًا على ابنتها، فلم تجدها عندما عادت إلى الكوخ بالهدايا، تركَتْ الأم الهدايا حول كوخها، ومشَتْ فى العالم تبحث عن ابنتها، وهناك، حول الكوخ، نشأتْ الغابة.. لذا يوجد دائمًا كوخ داخل كل غابة.

ليل الغابة غير أىّ ليل، ونهارها غير أىّ نهار، مطرها وشمسها وقمرها نورها وظلامها لها وحدها، ودخول الغابة لا يُشْبِه دخول أىّ مكان آخر، هى مزيج من أحلامها الشخصية وواقعها الشخصى، هى لا شىء إلا نَفْسها.

 لطالما شعرْتُ أن الغابة مع كل أسرارها، لا تُمانِع فى الوقت نفسه أن تكشف هذه الأسرار، لكنَّ أسرار الغابة لا تنتهى.

الغابة تَحمل بداخلها هويَّة الأرض، كوكب الأرض، الكرة الأرضيَّة ليست المدن ولا القرى ولا البنايات، وإنما الغابة، فى الغابة أصوات الأرض ورائحتها وطعمها، وكل شىء أصيل فيها، كأن الكرة الأرضية تسكن الغابة، تبيت هناك، ثم تَخرج لنا كل صباح عاقلة ومجنونة معًا، فى الغابة تعرف الأرض نفسها، تَظَلُّ محتفظة بذاكرتها عن نَفْسِها، هويَّتها وأفكارها، فى الغابة تستحم الأرض وتأكل وتنام وتقضى بعض الوقت قبل أن تخرج لنا كل يوم.

ندخل الغابة فنشعر أننا ربما لن نخرج أبدًا، لا نفكر فى الخروج، هى واحدة من أشكال الحرية.  

الغابة شُجاعة، تبقى واقفة فى وجه النار والطوفان والعواصف، تستوعب هذا كله، وتنتصر فى النهاية.

أفكر فى حكاية أخرى عن كيف نشأتْ الغابة، وفيها أنَّ الأم الفقيرة التى خرجَتْ من كوخها لتجمع هدايا لابنتها التى اقترب زفافها، وبعد أن أهداها العالم من كل ما لديه، وعادت إلى الكوخ متأخِّرة عن ابنتها، وجدَتْ أن خطيب الابنة قد هجرها، وأرادت الابنة التى مشاعرها لا تُشبه أية مشاعر أن تَرُدَّ للعالم هداياه، لكن الهدايا رفضَتْ أن تتركها، وعَبَّرَتْ بعض الأشجار عن اعتراضها بأن انتفضَتْ بقوة وملأت الأرض بثمارها، ونَمَتْ أشجار أخرى وتَمدَّدَتْ عاليًا بشكل مفاجئ، وأطلقَتْ الحيوانات والطيور أصواتها فى كل اتجاه، هَطَلَ المطر، وامتزجَتْ الألوان والنور والظلال والأحلام والمشاعر والأفكار والأوهام، فعلَتْ الهدايا كل شىء لأجل الشابة، غضبوا لأجلها، وغَنُّوا ورقصوا لها طوال اليوم، وفى النهاية ناموا، فأعطت الأمُّ ابنتَها هدية أخيرة، عصا سحرية كانت عرَّافة غجرية قد أعطتها لها، وبمجرَّد أن أمسكَتْ الابنة العصا أشارت بها تجاه الهدايا، وطارت بهم أثناء نومهم إلى شاطئ محيط حالم ومتهوِّر، وطلبَتْ منه أن يُطْلِق عليهم رائحته العميقة، وأشارت تجاههم ثانية، فاستيقظوا وقد نسوا أنها الشابة التى هجرها حبيبها، وأنهم هدايا العالم لها، وعندما عَرَضَتْ عليهم أن يبقوا معًا فى هذا المكان، أعجبتهم الفكرة، الأهمّ أنهم شعروا بشىء خاص لا يعرفونه تجاه الشابة، هى لم تستعمل عصاها السحرية لتُبْقيهم فى المكان، تركتهم لإرادتهم،  فكان شاطئ هذا المحيط أول مكان تتجمَّع فيه كل هذه المخلوقات، وظَلَّ المكان الذى يحوى كل هذه المخلوقات بلا اسم لعِدَّة سنوات حتى مرَّت به عرَّافة غجرية تصنع العصىّ السحرية، فأسمته “غابة”، وأطلقَتْ على الشابة اسم “ساحرة الغابة”، وأشارت تجاهها بعصاها، فلم تظهر عليها آثار التقدُّم فى العمر رغم السنوات التى عاشتها أو ما زالت تعيشها، ظلَّت الشابةُ شابة، وصارت أول “ساحرة الغابة” فى العالم، لذا، ودائمًا، توجد ساحرة فى كل غابة.

شىء أحب أن أفعله: سَنَة فى البحر، سَنَة فى الغابة، وسَنَة فى الصحراء (بنفس الترتيب، وبدون فاصل).

تَظَلُّ الأرض موجودة طالما غابةٌ موجودة فى العالم.

الغابة لو تحوَّلَتْ بشريَّة، تكون الأخت الكبيرة، المُدافِعَة، الجَسُور، المُحِبَّة، وأُمُّ أُمّها. 

 

مقالات من نفس القسم

محمد العنيزي
كتابة
موقع الكتابة

أمطار