عمار بلخضرة
يعتبر الأدب البوليسي عموما من الآداب الشائعة في الغرب، وقد ظهر هذا الجنس الأدبي بين القرنين السابع عشر والثامن عشر، لذلك أصبح معتمدا في ذهن القراء أكثر من كل الآداب الأخرى. وفي هذا السّياق تتنزّل الرواية البوليسية ويُطلق عليها رواية الجريمة، قوامها التشويق والإثارة إذ عادة ما تُقدم الرواية في صورة ألغاز يهفو القارئ إلى حلها وهو يقرأ الرواية بحثا عن المجرم من خلال تتبع أحداث الجريمة.
وإذا كان العرب قد تأثروا بالغرب في كتاباتهم الحديثة ومنها الرواية، فإنّهم لم يأخذوا عنه الرواية البوليسية إلّا نزرا رغم قدمها، ولعل ذلك يرجع بالأساس إلى اختلاف المجتمعات في بنائها وحركة شعوبها وعاداتهم وتراثهم.
وإذا كنّا سنتناول بالبحث والتحليل رواية “سقوط ” للكاتب وليد الأسطل ـ وهي رواية بوليسية بامتياز ـ فإنّنا سنتعامل معها على أنّها رواية بوليسية غربية كتبت بلغة عربية (ليست رواية مترجمة) علّها تكون منفذا لتأصيل هذا الجنس الأدبي في البيئة العربية التي لا شكّ أنّها تطورت في تشريعاتها وقوانينها وتنظيم مجتمعاتها ما يقرّبها إلى الأنظمة الغربية التي أنتجت ذلك الأدب.
وإذا تساءلت أيها القارئ عن سبب اعتبارها رواية غربية فإنّك لا شكّ ترى ذلك في أمكنتها الفرنسية ( ديجون / تروا .. ) وشخصياتها ذات الأسماء الغربية ( لويز / فرنسوا ..) وأجوائها العامة وحتّى أحداثها المتشعبة التي ألفناها في تلك المسلسلات البوليسية المشهورة (شرلوك هولمز وهيركيول بوارو).. وإنّنا نكاد نجزم أنّ كاتب الرواية كان مدركا تمام الإدراك أنّه لا يستطيع أن يكتب رواية بوليسية عربية أو لعلّه لم يحن بعد وقت كتابتها ليس لعجز منه على ما أعتقد وإنّما لأنّه يُدرك أنّ المجتمعات العربية لم تتهيّأ بعد لاستقبال هذا النوع من الأدب ويمكن أن يكون السبب اعتقاد وليد الأسطل أنَّ الجرائم في وطننا العربي مهما تبدّلت وتنوّعت، الحل المطروح واحد، ومعرفة المجرم مُيسّرة من دون تعقيدات، فما المثير فيها؟ بينما المحقّق الجنائي في روايات الغرب يجهد في التفكير، الكثير من التفكير، للتغلّب على ذكاء المجرم. بالمقارنة معها، الرواية البوليسية العربية مقضيٌّ عليها بالملل؛ إذ لا مفاجأة في الدرب، والحلّ معروفٌ في مطلع الرواية، بينما نشهد في القصّة البوليسية الغربية، مباريات في الذكاء، مهما طالت، يعوّض الحل المفاجئ في النهاية صبر القارئ في انكشاف المجرم.
وإذا نحن غصنا في قراءة “سقوط” نجد أنفسنا أمام رواية بوليسية غربية مكتوبة بلغة عربية فصيحة بل بليغة في جزء كبير منها، جمعت باقتدار كبير بين مشهدين متباعدين لكنهما متناغمان: أحداث على غاية من التشويق أنتجتها بيئة غربية صرف ولغة عربية فصيحة متينة جمعت بين جزالة اللفظ ودقّة العبارة، وما أحوجنا إلى الدّقّة في هذا الجنس من الكتابة، بل نحن أمام لغة لا تأسرك فحسب وإنّما ترتقي بك إلى ذاك الأسلوب المميّز الذي أتت فيه، بين جمل قصيرة مشدودة بإحكام وصور فنّية من الخيال قُدّت وإلى الواقع انتسبت، الوصف مادّتها والتّخييل وسيلتها ومطيّتها.
ولا شكّ أنّ “وليد الأسطل” على وعي عميق ـ وهو يكتب روايته ـ بسنن الكتابة الروائيّة كما اتّفق عليها جمهور نقاد الغرب قبل العرب، إذ اجتمعت في روايته جملة من العوامل جعلتها تنتمي إلى الرواية والقص ما يدفع القارئ للاستمتاع بها، مثل:
- متعة السرد: السرد في الرواية متشعّب متداخل يُحدث للمتلقي المتعة والتشويق إذ يجعلك منذ بداية الحكاية أمام برنامجين سرديين يسيران جنبا إلى جنب ولا يلتقيان. هكذا تظنّهما للوهلة الأولى ولكنّهما يُفاجئانك في النهاية باقترانهما واتحادهما إذ يؤولان إلى ذات المصير بانفراج الأحداث على نهاية لم يكن أحد منا يتوقّعها وذاك سرّ من أسرار المتعة فيها.
- متعة التخيل: ليس أهمّ من الخيال في القص، وكم طوّح بي خيال الكاتب في هذه الرواية إلى عوالم متداخلة متشعّبة لا يعكس ذلك إلاّ سعة ثقافة كاتبها وقدرته على شدّ أطراف الحبكة القصصية شدّا محكما رغم تعقّد الأحداث وتشابكها ودقّة تفاصيلها وانشداد بعضها إلى بعض حتّى باتت القطط راوية للأحداث ممسكة بتفاصيلها متابعة لأطوارها وكأنّها شاهد من الطّبيعة على ما يقع ويحدث من أحداث عجيبة غريبة لكنّها سليلة الواقع. إنّها متعة التخيل للوصول إلى المجهول.
- متعة اللغة: لعلّ ما يميّز لغة الكاتب في هذه الرواية فصاحتها وصفاؤها وتماسك كلمها واصطفاف عباراتها من أجل الارتقاء بالتركيب إلى ما يتطلّبه المعنى من دقّة لاسيما ونحن أمام رواية بوليسية الكلمة فيها لغز والحدث ألغاز، لذلك تدافعت الاستعارات واجتمعت التشابيه والمجازات كي تخلق نصّا يُلمّح أكثر ممّا يُصرّح وكأنّ اللغة ههنا تتحالف مع الأحداث تشويقا وختلا تجعل القارئ يهيم في بحر من الخيالات ويغرق في مستنقع من الاستفهامات .. ورغم أنّ اللغة تورطك في متاهات البحث عن الحقيقة شأنك شأن المفتّشين عن سرّ موت دوروتي أو اختفاء فرنسوا، فإنّها تأسرك ببلاغتها ورونق عباراتها فتجد نفسك أمام نصّ أدبيّ شعريّ في غنائيّته وطربه، فلا تجد تنافرا بين لغة النص وتلك الأبيات الشعرية الغنائية التي وردت باللغة الأنجليزيّة بين الحين والحين، ولا شكّ أنّ الكاتب على وعي تامّ بهذه الاختيارات اللغوية والتعبيرية التي لم تغفل عن تحقيق تلك الهالة من الغموض والتخفّي ولكنّها لم تنس تلك الغاية الانشائيّة الجمالية إذ النص إلى الأدب ينتمي وإلى الإبداع اللغوي يرتقي …
- متعة الإيهام بالحقيقة: تعوّدنا أن نقف على هذه المتعة في الرواية الواقعيّة التي ترصد لنا أحداثا وتصور لنا شخصيات نخال أنّها موجودة في الواقع الحقيقي بيد أنّها ليست في النهاية إلاّ نماذج لما يمكن أن يكون في الواقع فحسب، أمّا الرواية البوليسية ورواية ” سقوط ” بصورة خاصّة فإنّها تُوهمك أكثر فأكثر أنّك أمام أحداث اُجتثّت من مراكز الشرطة وأقسام البوليس لا من خيال الكاتب وترتيبه وهذا سرّ قوّة النصّ الذي نحن بصدد الاشتغال عليه ونقده .. فأنت فيه بين أحداث شديدة الغرابة وشخصيات أشدّ غرابة وبين إطار مألوف في أمكنته خصوصا وأسماء شخصياته أيضا، بيد أنّك لست فيه على الحقيقة وإن توهّمت وتخيّلت بل وبحثت في تاريخ الجريمة في فرنسا كلّها. المسألة إبداع صرف وقدرة عظيمة على التخيّل والخلق لا بل إنّك وأنت تقرأ النصّ لا تستطيع هجره وتركه إلاّ بعد أن تُتمّه وأنت تمنّي النفس ألاّ ينتهي وإن انتهى فإنّك ” تحس بالفراغ ” على حدّ عبارة القاص والشاعر الطيب صالح طهوري معلّقا على رواية ” سقوط “.
- المتعة الشعورية: وتتجلّى في التشويق والإثارة، وأيّ تشويق؟ وأيّة إثارة ههنا؟ إنّك في روايةٍ التشويق مادّتها والاثارة غايتها، لا بل إنّك لا تستطيع أن تتركها شوقا إلى معرفة أسرارها وخوفا من انفلات خيط السرد منك، إذ تتشعّب الأحداث وتتداخل فتُورّطك في تتبّعها لتسافر مشاعرك معها تحاملا على مجرم نكرة يتلاعب بمشاعر “شابة مقيدة إلى قضبان سرير في منزل مجهول ” وتعاطفا مع تلك الشابة التي لا ذنب لها إلاّ أنّها ” تبدو جميلة وهي تنزل من الشاحنة .. ” ، ذنبها في حسنها ” ومن الحسن ما قتل ” ، حسن أثار القطّ الذي رآها ” عارية صامتة بلا حراك .. فأعجبته رائحتها القويّة .. واقترب من وجهها ولعق دموعها الهامية على خدّيها .. ” . الحسن فاعل قصصيّ في نص وليد الأسطل إذ هو جامع بين أهمّ الشخصيات في الرواية، بل إنّه تحول في بعده المادي الجنسي قضيّة أساسية ارتكزت عليها الرواية. ولست أعتقد أنّ الكاتب ههنا جاء ليستعرض علينا مشاهد جنسية مثيرة بقدر ما كان يهفو إلى توظيف تلك المشاهد في تواتر الأحداث وتتابعها في بناء أحداث مثيرة كان الجنس محرّكا رئيسيا لها لاسيما ونحن أمام رواية غربيّة المشهد والمظهر، تنتسب وقائعها ضرورة إلى مجتمع غربيّ له تقاليده وعاداته ونظرته الخاصّة إلى الجنس والعلاقات بين الأفراد على اختلاف أجناسهم، نظرة تختلف جذريا عن واقعنا العربي الإسلاميّ الذي لا يقبل أبدا بالمثليّة مثلا في حين يُدافع عنها الغرب دفاعا مستميتا بلغ به الأمر إلى إحداث تشريعات كثيرة تحمي هذه الفئة وتُدمجها في الواقع. وأعتقد أنّه من التجنّي أن نتّهم الكاتب بالتّشريع لإباحيّة يلفظها الواقع العربي لأمر بسيط وهو أنّ الجنس في الرواية لم يُذكر عَرَضا وإنّما كان فاعلا قصصيّا مهمّا حرّك الأحداث وطوّرها في اتّجاه تعقيدها فحلّها. أليس الجنس سببا رئيسا في فتور العلاقة بين لويز وفرانسوا؟ أليس الجنس هو الذي مكّن قاتل دوروتي من إخفاء جريمته بإحكام كبير ( استغلال علاقة فرنسوا بشارل الجنسية بأخذ منيّه وجعله على جثّة دوروتي ) ؟ .
الحقيقة أنّ القراءة السطحيّة المتسرّعة تجعلنا نقرأ النصّ على أنّه ترويج للإباحيّة الغربية وتأصيل لها، إلاّ أنّ القراءة المتأنّية المعمّقة تجعلنا نقف أمام نصّ ذي رؤية واضحة على غير ما يعتقد البعض، تتجلّى في إنكاره لتلك الإباحية الغربية الموغلة في التحرّر وذاك ما يدلّ عليه العنوان صراحة ( سقوط ). إنّنا أمام سقوط أخلاقيّ غربيّ فظيع ليس أقلّ حدّة من سقوط شخصيّات الرواية في سوء المصير.
…………….
*كاتب من تونس