رواية «أيام الشمس المشرقة»: الهروب ليس مشروع حياة

بروين حبيب
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

بروين حبيب

قد تكون هجرة الديار من أقسى القرارات التي يتخذها الإنسان مضطرا بشأن مستقبله، لكن على رأي المثل «إيه اللي رماك ع المر غير الأمر منه». الذين يفرُّون من أوطانهم يفرُّون من الجوع والفقر والحروب، وقد يهربون من عائلاتهم بسبب ميولاتهم الجنسية، أو أفكارهم التي لا تناسب مجتمعاتهم. فقد تمّت تصفية الآلاف بسبب انتشار تيارات متطرِّفة، ما جعل المختلفين عنهم يبحثون عن فضاء بعيد من أجل الحفاظ على حياتهم.
لعبت تغيُّرات المناخ دورا مهما لهجرات كبيرة مثل هجرة بعض الافارقة نحو شمال القارة، فيما تفاقمت بعض الكوارث الطبيعية لتجعل الكثيرين يقفزون من قارة إلى قارة مغادرين أوطانهم بعد استحالة العيش فيها. لكن هذا لا يعني أن كل الفارين من أوطانهم لأوطان أخرى مهدّدين بإحدى هذه الأخطار. يعتقد البعض أن الهجرة ستعطيهم فرصة لتحقيق حياة أفضل، فيلتحقون بأقارب لهم في أوروبا، أو أمريكا بحثا عن باب رزق بالعملة الصعبة، بعضهم يعجز عن إيجاد مكان له في وطنه، رغم شهادته الجامعية وطاقته وقدراته الإبداعية، والبعض الآخر يهاجر هروبا من النظرة الدونية التي تلاحقه من ذويه، وهذه أيضا حكاية أخرى.
الروائية المصرية ميرال الطحاوي، التي تابعت مسيرتها الأدبية منذ روايتها «الخباء» و«الباذنجانة الزرقاء» إلى «أيام الشمس المشرقة» الصادرة عن دار العين (القاهرة) أحرزت تطورا مدهشا في مشروعها الروائي، فتمكنت من جعل لغتها السردية أكثر متانة مع محمولات متنوعة من حيث الموضوع والمعنى.

«أيام الشمس المشرقة» إذن رواية إنسانية بالدرجة الأولى، تروي مسلسلا من الفجائع تعرّض لها عدد من المهاجرين إلى أمريكا، أكثرهم تسلل إلى الأراضي الأمريكية في شكل غير شرعي. ولأن هذا النّوع من الهجرات شبيه بالمقامرة، ينتهي الجميع إلى الخسارة غير المتوقعة، لكن في نهاية الرواية نستنتج، دون أن تبوح الروائية بذلك، أن قدر الإنسان لا يُصنَعُ بالهروب وقطع مسافات طويلة بعيدا عن الوطن، فأغلب أقدارنا نصنعها بأيدينا، وقليل منها يكون مصيرا إلهيا لا مهرب منه.
في هذه الرواية لا نجد أي تشابه مع «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، ولا مع «الحي اللاتيني» لسهيل إدريس، فلا صراع بين الغرب والشرق، ولا نكاح انتقامي للغرب من الشرق الذي يعيش صدمته الحضارية. هنا نقرأ نصا مغايرا، هو نتاج مستجدات قوانين الهجرة في الغرب، وتلاقح تلك الثقافة المتوارثة من الكذب لإنتاج إنسان لاجئ وجد الحياة ولم يجد رغد العيش.

نفتتح الرواية بقصة «نغم الخبّاز» التي فقدت ابنها ذا التسعة عشر عاما، في بلدة «الشمس المشرقة» التي تصفها الكاتبة في بلاغة متناهية: «مجرّد مستعمرة صغيرة، أو أنقاض مدينة حدودية شبه ساحلية» وهي تنام تحت أقدام سلاسل الجبال القرمزية، تشبه تجويفا منخفضا وسط حلقة من التضاريس الصخرية والهضاب الصحراوية» ونتيجة لتلك التضاريس الجغرافية فقد اعتادت بيوت الشمس المشرقة أن تتنفس غبار التلال التي تطوقها، وتتصالح مع أبخرة ذلك الخليج الضحل، الذي تفوح منه رائحة ذكور كلاب البحر النافقة، بعد معارك ضارية في مواسم التزاوج، ثم رائحة مخاض الإناث اللواتي يضعن صغارهن في جيوب الماء الدافئ». يجب عدم نسيان هذه اللوحة الوصفية، لأنها سترافق شخصيات الرواية الذين حكمت عليهم الأقدار العيش في هذا المكان، رغم اختلاف مستوياتهم العلمية، وخلفياتهم الثقافية، وانتماءاتهم الهوياتية. يتساوى الجميع في هذا المنحدر البائس، ولا يستطيعون الحصول على لقمة عيشهم إلا بتسلق تلال الأثرياء وتنظيف مخلفاتهم، حيث تقف قصورهم وبيوتهم الفخمة بشموخ يشبه شموخهم.
الشمس المشرقة التي تخفي الكثير من البؤس، تتقاطع مع أسماء أخرى جميلة تخفي مآسي اللاجئين إليها، مثل «حديقة الأرواح» التي تؤوي موتاها على اختلاف دياناتهم وإثنياتهم، ومثل «عين الحياة» المركب البائس الذي رمته الأمواج إلى شواطئها وأعيد إلى البحر، بعد أخذ سبعة أطفال فقط لأنهم ركبوا المركب، دون ذويهم.

إن كان موضوع الهجرة من الموضوعات الساخنة التي تشغل العالم اليوم، فإن هذه الرواية هي الأقرب لوصف حالة اللاجئين والمهاجرين، الذين تدفقوا مثل السيل على الغرب. ترصد الكاتبة فيها كوارث لا تنتهي مثل مقتل يولاندا ابنة سوزانا من طرف صديقها الذي انتحر بعدها، ومثل مقتل أوسكار برصاصة طائشة لم يُحَدّد مصدرها أهو سيارة الشرطة أو جهة أخرى، ومثل غرق ميمي دونج التي لم ينتبه لها أحد وهي طافية مع كلاب البحر النافقة على الشاطئ، ومثل مأساة سليم النجار ونجوى التي هربت من جامعة آشفيلد لأنها لم تستطع اتقان اللغة والتفاهم مع أستاذتها المتعجرفة، إلخ. كل هذه الشخصيات وشخصيات أخرى لا تتوقف الكاتبة عند حاضرها في «الشمس المشرقة» بل تنبش عن ماضيها البعيد هناك في الأوطان البعيدة. مثل آلة حادة تقلب في أرض لا أمل في خصوبتها، فتُخْرِج المخبّأ والمكتوم، فتروي لنا حكاية نغم الطفلة التي ولدت بين قطيع من الأطفال لرجل متعدد الزوجات، وتشرح سبب اختلاف مصيرها عن أخوتها لتصل إلى بلاد العم سام، لأنها تعرضت لحادث في ليلة شتاء حين سقطت على وعاء من الجمر فاحترق نصف وجهها، وأصبحت بالتالي مشروع عبء على العائلة، ومع تقلّص فرصتها للحصول على زوج، تم تحويلها للخدمة في البيوت. القدر وحده جعلها تصل إلى تلك البقعة التي جمعت أمثالها في سجن جديد.

تبرع الكاتبة في وصف الأمكنة، والتقاطعات الزمنية التي أحدثت منعرجات الحياة الخطيرة في حياة شخصياتها، كما تبرع في رسم ابتسامة على وجه القارئ وهو يقرأ تلك الكاركتيرات المختلفة، إنه جمال اللغة الذي استثمرته بقوة لنقل المأساة وكأنّها لوحات جميلة متتالية. محنة نجوى على سبيل المثال كاريكاتيرية جدا، وبالتأكيد نتعاطف معها ومع مصيرها، لكننا نضحك ونحن نقرأ المأساة التي دفعتها للهجرة، لنطرح سؤالا مهما: «هل التفوق في جامعاتنا يساوي التفوق في جامعات الغرب؟» وهل هربت نجوى من الرّداءة الجامعية أو من الظروف العائلية التي سحقتها؟ لنجد الكثير من الشرح في فصل عنونته الكاتبة بـ»الروض العاطر» من خلال نموذج آخر هو «يوسف الأزهري» النموذج التي أنتجته وشجعته أغلب الجامعات العربية حتى لم يعد لها أثر في سلم جامعات العالم المتحضر. لا تخلو الرواية من شخصيات تتاجر بالدين وبالموتى، تماما كما في الحياة، إذ تروي لنا الكاتبة حكاية «أبو عبد القادر» وصبيه «أحمد الوكيل» والصدف التي جمعتهما، فجعلت الأول إماما يهتم بأمور المسلمين خاصة في طريقة دفنهم، وجعلت الثاني خادمه الأمين الذي وجد مأوى في حضرة الأموات. سيدهشنا جدا اكتشاف مواهب الإمام التصويرية في فبركة «صور سعيدة» للمهاجرين ليرسلوها لعائلاتهم. هذا غير مواهبه العديدة الأخرى مثل الذبح الشرعي، وتحضير الطعام الحلال، وتفانيه في طقوس تسليم الأرواح إلى بارئها.
رواية من 278 صفحة، لا تخذلنا فيها ميرال الطحاوي بالأفكار المستهلكة، والجعجعة العربية المعهودة في نصوصنا، خاصة حين نبالغ في التعبير عن أحقادنا على الغرب. لقد لامست الكاتبة جراح مجموعة من البشر لم يستطيعوا تطوير أنفسهم لا هنا ولا هناك، وقد مارسوا ما أتقنوه وما حفظوه أيضا هنا وهناك، دون رسم مخطط واضح للهجرة وتحديد هدف لتحقيقه. كان الهروب مجرّد هروب، تلاه تعثر دون نهوض حقيقي.
في الرواية البديعة لميرال الطحاوي أخبار وقصص كثيرة نسجتها بنولها السحري الذي وظّفت من خلاله أشياء يقف لها شعر الرأس، لكنها مستمدة من حياتها في عمق ذلك الغرب وتأملها له بعين موضوعية، الذي تعايشت معه دون أحقاد، لهذا وضعت أصبعها على جراحنا الحقيقية مانحة للقارئ العربي فرصة لرؤية الحقيقة دون إدخاله في دوّامة المؤامرة التي مللنا منها.

…………………………..

*شاعرة وإعلامية من البحرين

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم