“سفر في زمن معطل” للطيب الوزاني.. المسرح وتلاشي الزمن

مسرحية سفر في زمن معطل
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

خالد البقالي القاسمي

  يستمر المبدع المسرحي المغربي “الطيب الوزاني” في تغذية المسرح العربي والمغربي بنصوص أدبية ممتعة، وهادفة، كما يستمر في إغناء مسيرته الإبداعية، بتراكم خصب، وثري، يؤهله على الدوام لكي يكون واحدا من الفاعلين البارزين في مجال الحقل المسرحي.

          المسرحية الجديدة التي صدرت للمبدع عن مطبعة الحمامة بمدينة تطوان سنة 2021 بعنوان “سفر في زمن معطل”، تتشكل من ثلاث وسبعين صفحة متوسطة الحجم، وقد تكفل المبدع بنفسه بنحت وتصميم صورة غلافها، وبذلك اكتمل إشرافه التام على إبداع عمله الجديد بمختلف لمحاته، ومكوناته، وأجزائه.

          مفاصل النص المسرحي تتجلى معطياتها حسب العناوين الآتية:

1ـ بمثابة تقديم.

2ـ سفر في زمن معطل.

3ـ الشخوص.

4ـ ساعات بلا عقارب.

5ـ أزمنة نسبية.

6ـ زمن أعرج.

7ـ حوارات مع الذات.

8ـ عربة ورود.

أما الشخصيات التي اعتمدها المبدع لبسط نصه المسرحي فهي:

1ـ المرأة: مسافرة في زمن معطل.

2ـ الحارس: حارس ساعة ” هنا لند ” بمحطة قطارات.

3ـ النادل: نادل مقهى ومطعم المحطة، وهو نفسه حارس الساعة.

4ـ الرجل: الزمن.

5ـ الجندي: جندي متقاعد مسن، دائم الابتسام، قد يكون هو نفسه الرجل السابق.

6ـ الأم: أم لرضيع وهمي.

7ـ المذياع: يسمع صوت المذياع من حين لآخر في وصلات إخبارية متقطعة.

          مقدمة النص المسرحي قامت بصياغتها الدكتورة ” فاطمة الزهراء الصغير “، وذلك باللغة الفرنسية، ثم عملت الأستاذة بتعاون مع الأستاذ المسرحي الدكتور ” يوسف الريحاني” على ترجمة النص الفرنسي إلى اللغة العربية تحت عنوان ” سفر في زمن معطل ـ لا أريد أن أموت قبل الموت … “، وقد اعتمد المبدع ” الطيب الوزاني ” هذا النص بمثابة تقديم صدر به كتاب مسرحيته.        

          عندما تتصفح كتب مسرحيات المبدع ” الطيب الوزاني ” تقف على المجهود الكبير الذي يبذله في الكتابة، والبيان، والتوضيح من خلال كثير من التوجيهات، والتعليمات التي تقنعك تماما بأنك لست فقط أمام كاتب مسرحي، وإنما كذلك أمام ” مخرج مسرحي محنك “، أو أمام ” سينوغراف ” متقن لمهمته، وتعود هذه الصيغة إلى تشبع المبدع بالمسرح، وثقافته منذ صغره عبر لعبه كثير من الأدوار المسرحية، وعبر مشاركته بمختلف الصور مع العديد من الفرق المسرحية الجادة.

ساعات بلا عقارب:   

          يحيل هذا العنوان مباشرة على صورة الغلاف، حيث أثبت المبدع ذلك بطريقة توحي على أن الزمن ربما يكون قد توقف، أو تجمد من خلال المظهر البارز على صفحة الغلاف، على أساس أن الساعات المرسومة على الجدار هي حتما تدل على الزمن المنساب، وتوقفها سوف يدل على تلاشي الزمن، واندثار تأثيراته على الحياة، وعلى المحيط الذي يشغله.

          ولا ينبغي أن نفهم بالضرورة ما أشرنا إليه أعلاه، بحيث إن الساعات المرسومة قد لا تدل بتاتا على الزمن، ولا تدل كذلك على انسياب الحياة، وثقل تواترها وهي ترسم علامات تأثيرها على الأحياء والأموات معا، ونكتفي باعتبار الساعات المثبتة على صورة الغلاف بمثابة لعب جامدة، وضعت في مكانها فقط للإستئناس، ولا يوجد حتما دليل مقنع يدل على أنها وضعت فعلا لقياس الزمن، والخضوع لسطوته الجبارة والمرهقة. ثم إذا تأملنا الصورة أكثر، وكذلك هذا العنوان الفرعي فإننا نلفي أنفسنا بإزاء أيقونة سريالية، فيها بهجة، وفيها غموض، فيها إشعاع، وفيها عبوس، دلالتها متفاوتة، ولا تدل قطعا على أمر محدد، لذلك يجب الحذر منها، ومن تداعياتها الدلالية، فالغوص في مجالها قد يجدي، وقد لا يجدي، رغم أن الجميع سوف ينخرط حتما في محاولة استجلاء غموضها، ووضوحها معا، لأنها مقبلة على الجميع، وفي نفس الآن متمنعة على الجميع. ولهذا اعتبر المبدع توظيفها علامة على إحداث الألفة، وفي نفس الوقت إحداث الإرباك في نفسية وعقول الشخصيات والناس معا، يؤكد لنا المبدع على أن الوثوقية عبارة عن شعور متقلب، يدربنا المبدع على التقاط الإشارة والمعنى من خلال التفاعل الدقيق والتام بين الوجود والعدم، بين الزمن والفناء، بين الإقدام والإحجام.

          تقديم الساعات رسما على صورة الغلاف عبارة عن وهم في وهم، ثم إن تقديم الساعات بلا عقارب هو عبارة عن يأس مطبق، إذ لا ينظر إلى الساعات إلا في واقعيتها النشيطة عبر تمرير الزمن، ولا تظل الساعات بلا عقارب إلا عندما يتعطل الزمن حقيقة، وتعتبر هذه الصيغة هي الصورة الأساس التي ينطلق منها المبدع في تحرير وتوجيه مسرحيته عبر شخصياتها، ولذلك وانسجاما مع هذه المعطيات سوف تنطلق المسرحية في حلكة غامرة عبارة عن ظلام دامس يشمل الجميع بوطأته الخانقة التي تلغي كل القيود والالتزامات وتقوم بخنق أنفاس الزمن، وإلغاء جميع أدواره في خلق الحياة وبهجتها وألقها، حيث لا وجود لأبعاد حية أو ندية ضمن ظلام متراكم يقصي أدوار الزمن تماما عن فعل فعلها العادي الذي ألفه الجميع: ” يرفع الستار عن ركح مظلم تماما. يستمر الوضع بضع ثوان للفت نظر الجمهور ” ص.17.

          استمرار الظلام ليس كافيا فقط لإثارة انتباه الجمهور، ولكنه يكفي كذلك لكي يعطي الانطباع بأن الزمن المؤثث لعملية رفع الستار يظل زمنا دخيلا، متطفلا، بل ومندسا، وذلك بسبب الظلام الذي يذوب داخله الزمن، ويفقد قدرته على إضفاء الحياة على الشخصيات، والأشياء. بعد إضاءة الخشبة تطل علينا بكل عناد وإصار ساعة ” هنا لند ” وهي معلقة فوق الحائط، حجمها كبير وعقرباها منزوعان منها، وموضوعان خارج إطارها، وكأن هذه الساعة قد أدركها المخاض ووضعت ساعات أخرى معلقة هي بدورها على الحائط وتتوفر على نفس أوصاف الساعة الكبيرة، وكأن الموضوع مهرجان لعرض الساعات، ومحاولة فهم أوضاعها، وهذه بداية فيها تعرج كبير، وانطلاقة تشي بحدوث اختلال متعدد في توجيه الشخصيات، وتقدير حركاتها ومواقفها، حيث يدل المشهد على حركية ملحوظة صادرة عن زمرة من الناس يحملون بعض الحقائب ويعبرون الركح بسرعة وهم يضعون الكمامات على وجوههم، تتميز من بينهم امرأة تستغرب كثيرا من كون ساعة معصمها لا تتوفر على عقارب تماما مثل ساعات محطة القطار.

          لقد اختار المبدع أن يكون الفضاء الذي ينطلق به في بناء المسرحية هو فضاء محطة القطار، ولا أعتقد أن أحدا سوف يجادل في أن محطات القطارات هي الأماكن والفضاءات التي يتم فيها استهلاك الساعات بغزارة وكثرة، حيث الجميع ينظر إلى الساعة، مرة بطريقة فردية، ومرة تنتبه إلى أن كل من يقف بالمحطة يركز عينيه بساعة معصمه، ثم تنتقل حركة البصر من ساعة المعصم إلى الساعة أو الساعات المثبتة في جدران المحطات من أجل التأكد والتثبت من التوقيت والزمن، خوفا من التأخر، أو خوفا من تضييع موعد القطار المنتظر، أو بسبب حركات لاإرادية يقوم الجميع بإتيانها قبل ركوب القطارات، وكأن في الأمر علة أو مرض نفسي لصيق، والملاحظ هو أن هذه العادة التي تشكل نشاطا ضاغطا على الجميع أثناء السفر في محطات القطارات وغيرها تختفي تماما بعد الوصول والانتهاء من السفر، ولكنها تعاود وتيرتها وقوتها الساحقة على نفسية الناس بمجرد الانطلاق في مشروع سفر جديد.

          ولذلك يبدو أن المبدع كان مصيبا للغاية عندما اختار محطة القطار لكي يقارب داخل فضائها مفهوم الزمن الضاغط، الذي يسحق الأعصاب، ويثير القلق عبر تحريك شخصيات المسرحية، ثم إن مفهوم الزمن بهذه الصيغة يصبح ثمينا جدا، ويعلم الجميع الطاعة العمياء، والامتثال لكل التوجيهات والأوامر المصاحبة لعملية السفر، وخصوصا داخل محطات القطارات التي أبدع الكاتب في اختيارها مجالا لعرض أنشطة مسرحيته، وكأنه يؤكد على ضرورة إعادة تأهيل الجميع للتعامل مع الزمن بتصور جديد، محدد ومنظم، ورغم أن الساعات المثبتة قد فقدت عقاربها ولم يعد لها دور في تشغيل مفهوم الزمن فإن هذا الزمن الجارف يظل حاضرا باستمرار يبارك كل حركة ونشاط، ويلزم الجميع بالخضوع لسطوته هو دون غيره، حيث لكي تنحشر في جوف القطار عليك ورغما عنك أن تحترم الزمن الذي يعرضه عليك هو وليس الزمن الذي تختاره أنت، مفهوم الزمن بهذه الصيغة يلغي الحرية، يلغي الاختيار، لا مجال للتبجح، حيث الكينونة أصبحت كامنة في الزمن، وليس لأية شخصيات مجال لاختراق الزمن، لقد أصبح الجميع مرهونا في سياق الزمن، حيث لا مفر، ولا مهرب. 

          يبدو أن عدوى فقدان العقارب انتقل من الساعات الحائطية الكبيرة إلى ساعات المعصم، ولذلك احست المرأة بانزعاج كبير عندما اكتشفت الأمر، وزاد انزعاجها لما أعرض عنها الحارس ورفض أن يخبرها بحقيقة الوقت الحالي، وقت وجودها، وقت تحركها، ووقت كيانها، فأصبح إحساس المرأة بوجودها وبحقيقتها موضع تساؤل؟

          محطة القطارات بشهادة حارسها أصبحت مهجورة منذ زمن بعيد، وهو أمر زاد من حيرة المرأة واستغرابها، وأصبحت هي والحارس ملفوفين في غلالة من الغرابة المفرطة، إذ كل منهما لا يعي وجود الآخر إلا من خلال غير المألوف، وكأنهما من عالمين مختلفين، وأصبحا يدركان بأن المألوف لديهما الآن هو تلاشي الزمن، لأن هذا التلاشي هو الوجود الوحيد الملموس في خطابهما، وفي كل ما يحيط بهما، والذي يبعث كثيرا على الحذر والاحتياط هو أن المتلاشي ليس فقط هو الزمن، بل حتى المكان أصبح مستغرقا بالسراب، حيث إن الزمن الذي ضاع من وعي المرأة أصبح مؤثرا للغاية على المكان، فأحست بأن المكان هو الآخر انمحى من إدراكها، وفي تلك اللحظة فهمت المرأة وهي تحاور الحارس بأن المكان لا يتحدد وجوده إلا من خلال الزمن، ولا ينمحي وجوده كذلك إلا بانمحاء الزمن، وضمن هذا الوعاء الوجودي سوف يكون الناس كلهم يعانون حتما من التمزق، والتشتت، والانفصال، والتباعد، بمعنى أن عناصر وجودهم المصابة بعطب أو أعطاب أصابتهم هم بدورهم بيأس، وإحباط، وقنوط، وعلل متعددة منها الظاهر ومنها الخفي، علل سوف يستعصي عليهم علاجها أو تجاوز تبعاتها ومخلفاتها ضمن زمن معطل، أو ضمن زمن مفترض، أو هو زمن شبيه بالزمن، ولكنه غريب كل الغرابة، إنه زمن موبوء، وأصاب عددا كبيرا جدا من الناس بوباء قاتل قادم من حيز مجهول، الخوف منه أكبر خطرا وتأثيرا من تمكنه من الأجساد، وقد وجد المتخصصون استحالة في حصره، وتقييد مفعوله الفتاك، لقد تمكن الوباء من كل شيء، فعطل كل شيء، وأراد أن يختصر الأمور والمسافات فعمد إلى نزع عقارب الساعات من مكانها لكي يعلن الفناء من خلال تذويب أثر الزمن في الوجود.        

          الشخصيات الدالة في هذا الفصل هي المرأة، وحارس المحطة، ثم الساعات المعلقة ذات العقارب المقتلعة، والمحطة ويمكن أن نعتبر … المرأة لا تعي ذاتها بتاتا، وتكاد تكون فكرة مستقلة عن كيانها وامتدادها. حارس المحطة مقتلع من جذوره، ووجوده منغمس في العدم واللاوعي. الساعات المعلقة أصبحت بفعل اقتلاع عقاربها عاطلة عن العمل، ولم يعد يربطها بالزمن إلا المعدن الرخيص الذي سوف يتعرض حتما للصدأ والهشاشة. المحطة، لم تعد شاهدة على حيوية حركة القطارات، ولم تعد محتضنة لأفواج المسافرين المتنقلين باستمرار، بل أضحت علامة على الخراب والإفلاس. والشخصيات الأخرى، قد تكون هناك شخصيات مواربة، أو … لقد أصبح الزمن بعيدا عن هذه الشخصيات، ولم يعد وجودها مغمورا بالزمن الحي الذي يحيط الأشياء، والموضوعات، والشخصيات برعايته، وقدرته على شحن الكل بطاقة الحركة والنشاط، وإضفاء الحياة على الأمكنة التي تتحرك فيها الشخصيات، وتنسج بإزائها عناصر الاستمرار والبقاء، ولذلك لا يمكننا أن ننظر إلى هذه الشخصيات إلا من خلال منظار العدم الذي يحرك الوجود عبر مفهوم اللازمن، حيث تخضع هذه الشخصيات هنا لجدلية الثنائية الوجود والعدم، وطبعا فإن الزمن يسجل حضوره وسطوته على الثنائية بكليتها، في الوجود لا يضمن بقاء عناصره سوى الزمن، وفي العدم ليس هناك إمكانية أو قابلية لاختراق ظلامه وجموده إلا عن طريق الزمن، ولهذا كان حضور الزمن طاغيا على الثنائية، وساحقا في نحت منحنياتها في  الاتجاهين معا، الوجود والعدم. وعلى هذا الأساس ظلت شخصيات هذا الفصل تتأرجح بين الإمكانيتين سلبا وإيجابا، لأنها في إيجابيتها خلقت لنا حوارا ضمن حركة ملحوظة بين المرأة والحارس، وفي سلبيتها أثبتت لنا وجود الشخصيات رغم إصرار الزمن على محو بصماتها، وخصائصها…: ” اسأل حقيبتي هذه، فهي شاهد في ترحالها عن راهن بلا زمن، راهن بلا قبل وبلا بعد … ” ص.26. 

أزمنة نسبية:

          هل يمكننا فعلا أن نتحدث عن أزمنة نسبية، أو زمن نسبي؟ هل نمتلك حقيقة الإدراك الفعلي لكي نستطيع التحكم في الزمن فنصنفه إلى زمن نسبي، وزمن مطلق؟ متى كانت للإنسان قدرات تجعله يبادر إلى تقويم فعل الزمن؟

          إذا كان الإنسان منغمسا في الزمن، ومستغرقا في انتشاره، وهيمنته فإن هويته لا ترقى إلى درجة التفرد والتباهي دون خضوعها للزمن، فهو صانعها، والقائم على تجليتها، لذلك لا نتصور أن يكون هذا الزمن الذي يسيج كل شيء مستباحا لدرجة تصنيف درجة تأثيره إلى نسبية أو مطلقة. ومع ذلك تظل هذه المواضعات ضمن نطاق التفسير المنهجي فقط، والذي يتيح نوعا ما إمكانية التعامل مع المؤثرات بتصنيف عقلي قابل لتسهيل الفهم والاستيعاب.

          في الفصل الثاني بعد عودة الإنارة تطالعنا نفس المرأة مع حارس المحطة، وهما يصيخان السمع إلى المذياع، لنتصور معا بأن هذا المذياع قد أصبح في زمن الوباء هو الشخصية المهيمنة، زمنه أصبح فوق كل الأزمنة، ولذلك يظل الجميع ملتصقا به انتظارا لومضة أمل، يصر هو على الاستعلاء بإعلانه مزيدا من اليأس والإحباط، ومزيدا من تعطيل آلة الزمن في تأجيل أو تجميد جميع الأنشطة المدرة لعناصر الحياة والاستمرار، زمن المحطة التي تختزل الوجود وعناصره ما زال معطلا إلى أجل غير محدد، وزمن النوم أصبح يصيب المزاج بالتقلب وبالعجز عن إدراك مدة السبات، وما زالت المرأة تحاول جر حارس المحطة للتصريح بأسراره التي يداريها بذكاء ومكر، ويصر على انه لا يهتم بشيء قدر اهتمامه بالزمن الذي يسري في المحطة، والذي تسجله وتعلنه ساعة ” هنا لند “: ” أنا هنا سيدتي لأحرس ساعة ” هنا لند “، فقط. أسمعت؟ ساعة ” هنا لند ” فقط ” ص.29.        

          لقد أصبح تعطل الزمن موتا جماعيا وفناء، مثله مثل الوباء، كلاهما له تأثير بالغ على مجرى الحياة العامة: ” الوباء موت جماعي أيضا وفناء. لهذا توقفت الساعات بأوامر حتى لا يقضي الوباء على الناس ” ص.31. أصبح حارس المحطة يفضي إلى المرأة بالكثير، رغم أنه ظل لمدة طويلة يقاوم ضغط أسئلتها، وحرارة فضولها، لقد انخرط هو الآخر مع المرأة في التطلع نحو نشدان التغيير، واستبدال واقع آسن بواقع بهيج، خصوصا وقد عمل الوباء على إتلاف كل  جميل مشترك بين الناس، وعمل على جر الزمن في ركابه فازدادت الأزمة، واستحكمت العلة، وأصبح الجميع متوجسا من الحاضر والآتي معا، وأضحت الشخصيات في هذا الفصل مرتبكة، حائرة، ومترددة في كلامها، وقراراتها، ولهذا نلاحظ بأن هذه الشخصيات أصبحت عقيمة، وعجزت حتى عن تعريف مفهوم الزمن، الزمن الذي سحق جميع الآمال والتطلعات، خصوصا مع تداخل الأزمان حسب الساعات المتعددة التي تشير كل واحدة منها إلى زمن معين داخل محطة القطارات، وفي الحقيقة لقد كانت الساعات تشير إلى الزمن سابقا، أما الآن فإن عقاربها انفصلت عنها، ولم تعد قادرة على القيام بدورها بتقديم توقيت زمني مضبوط، وكما يبدو فإن الساعات تمردت على الزمن، وأبت أن تستمر في تحديده وقياسه، فعملت على طرد عقاربها، وجردتها من مهمتها الأبدية، لم تعد الساعات تحس بأهمية الزمن الذي تعطل بتعطل جميع المصالح، ولذلك ليست هناك أي ضرورة للاستمرار بالتقيد بقيود الزمن، ولهذا السبب أطبق الظلام على كل شيء.

زمن أعرج: 

          زمن نسبي، زمن أعرج، للزمن سطوة كاسحة لا اعتراف لها بمثل هذه الأوصاف أو النعوت، لا يمتلك الزمن إلا حقيقته التي لا تتغير، وأصله الذي لا يطاله نقص أو خلل، وتظل جميع النعوت مرتبطة ببعض الضغوط النفسية التي تبحث عن تخفيف وطأة الزمن وثقله، فتعمل على تقليص هيمنته عن طريق سحب هذه الأوصاف على وتيرته القاسية، وقد بذلت شخصيات المسرحية جهودا مضنية من أجل تحليل الموقف، ومحاولة فهم الموضوع من جميع جوانبه، لكي تتوصل إلى فهم السر أو الأسرار التي تكمن وراء العطب الكبير الذي أصاب ساعات المحطة، وجردها من وظيفتها الطبيعية في تحديد توقيت الزمن، والإشارة إليه بطريقة متواصلة، ومتتابعة، ودؤوبة، دون انزعاج، أو تعب، أو كلل، ومن شأن كل تأخر، أو توقف عن هذه المهمة أن يصيب الحياة برمتها بالشلل، وهو ما وقع بالفعل، وأصبح تفسير ما حدث شديد الحيوية، وبالغ الأهمية.    

          وقد كانت المرأة أكثر الشخصيات جريا وراء معرفة ما يقع، وما يحدث دون أن تتوصل إلى أية نتيجة، وقد كان أكثر ما يصعقها هو الشخصيات الأخرى التي تحيط بها، وهي تتعامل بكل راحة، وبكل استخفاف بما يحدث، ولا تعبأ بحيرة المرأة وانزعاجها، بل تقابل استفساراتها  بتهوين الأمر، وإرجاعه إلى عوامل عادية قد تقع في كل لحظة وحين، ولذلك فلا داعي للإحساس باليأس والقنوط، ولا بأس بقليل من الفظاظة أحيانا لمواجهة وحصر فضول المرأة، وسعيها نحو الحقيقة المغيبة، إذ من كثرة العوائق أصبحت المرأة لا تميز بين الصباح والمساء، لأن الزمن لديها المرتبط بالساعات وعقاربها وقع فيه اختلال، وأصبح مزاجها يميل إلى الانفعال بسرعة بسبب الخواء الفظيع الذي تشعر به جراء تلاشي الزمن في عالمها، وعالم المحطة، وسريانه بطريقة عادية في ذهن وسلوك حارس المحطة الذي يبدو أن ثقته التي تصل درجة الغرور يستمدها من هذا المعطى الذي يتيح له تلقي الأوامر من جهات معينة هي التي تتحكم في الزمن، فتلغي حقيقته حسب الأوضاع السائدة، وفي نفس الوقت تعيد الزمن إلى وضعه الطبيعي، وترجع للحياة نضارتها، وألقها، وتعطي الإذن لحارس المحطة لكي يعيد تشغيل الساعات مع عقاربها، ويستعد كذلك لكي يعمل على استرجاع حركية القطارات بواسطة ترتيب، وتنظيم التحاقها أو مغادرتها للمحطة، وهذا ما كانت المرأة تبحث عنه بإلحاح، لولا فظاظة الحارس الذي زاد إمعانا في تعميق حيرتها، وخوفها، خصوصا عندما تصيخ السمع إلى المذياع الموجود في غرفة الحارس خلف الشباك وهو يعلن: ” أيها الناس، الوضع الوبائي في تفاقم، في حين أصبح الموت البطيء كاسحا أيضا بسبب توقيف القطارات. وعليه، جاءت الأوامر هذه المرة بالسماح بانطلاق محتشم لبعضها ” ص.43.

          لقد كان هذا الخبر الذي ساقه المذياع لافتا لانتباه المرأة، والحارس معا، ولكنهما أحسا فعلا بأن الزمن بهذه الصيغة لن يعود كاملا، وستكون عودته منقوصة، أو مبتورة، أو مشوهة، بمعنى سوف يتم تحرير الزمن من عقاله أو سجنه بمقدار، وفي حدود معينة، وضمن شروط مرسومة، لأن: ” زمن تفشي الوباء يسير بموازاة سرعة انطلاق القطارات، بينما زمن الموت البطيء يسير عكس زمن تفشي الوباء ” ص.43. وبما أن الأمر لا يعدو أن يكون ظرفيا، ومرتبطا بمدى شراسة وضراوة الوباء، فإن عقارب الساعات التي أعيدت لمكانها قد تنزع منها مرة أخرى في أية لحظة، ويعود الزمن إلى سباته، وعطالته، وتلاشيه، فيعم الظلام من جديد جنبات المحطة، وتصبح حركة القطارات في حالة جمود، وبطالة.      

حوارات مع الذات: 

          أصبحت شخصيات المسرحية أسيرة ذاتها، فقد انكفأ الجميع نحو الداخل، بعد أن تعبوا من الخارج، وأضحت الذات هي الملاذ، وفتحت الشخصيات مونولوغات داخلية تناجي بها ذواتها علها تجد منفذا ومخرجا، ثم إن هذه الحوارات مع الذات كثيرا ما تكون عادية في محطات القطارات أثناء الانتظار قبل الانطلاق نحو الوجهة المحددة لكل شخصية، ولكن الآن فإن الرجوع إلى الذات أملته الظروف الصعبة المرتبطة بالوباء والتي يعاني منها الجميع.

          الشخصيات في هذا الفصل تتحدد في المرأة، وأم مع رضيعها المفترض، وأحد الجنود، وحارس المحطة وراء الشباك. المرأة ما زالت أسيرة أفكارها المرتبطة بمفهوم الزمن المتلاشي، والأم لا تهتم إلا برضيعها المفترض وتعمل على مناجاته ومؤانسته، والجندي يتذكر مرحلة الطفولة التي اعتبر بأنها مرت سريعا جدا.

          لقد عمل المبدع في هذا الفصل على تشغيل الذاكرة، والذاكرة هنا بهذه الصيغة شديدة الالتصاق بالزمن، حركة الزمن هي التي تستثير الذاكرة وتحثها على الاسترجاع، والذاكرة هي بدورها تستند إلى الزمن في ترتيبها لمجرى الأحداث والذكريات التي ارتبطت بكل شخصية، وما حدث للزمن، حدث كذلك للذاكرة، حيث تأثرت كثيرا بالعوامل السلبية التي أحدثها الوباء وجعلها أسيرة للأوجاع، والأحزان، والحسرات، وهو ما نلمسه بكل وضوح في حركية الشخصيات التي أصبحت بطيئة جدا، وواهنة، وأخذت الذاكرة مرغمة تسترجع الألم عوض الراحة، والحزن عوض الفرح، لأنها ذاكرة طبيعية للغاية، ولا تسعى إلى تحسين الصورة من خلال تزييفها، بل تحرص على الوفاء للفترة الراهنة التي تظل أسيرة القلق والهم بسبب الانتشار الكارثي للوباء.            

عربة ورود:

          وأخيرا وبعد معاناة شديدة، وعسر كبير ظهر بعض الأمل، ويكفي الحديث عن الورود لكي يحس المرء بنوع من الراحة والطمأنينة، ويشعر بإمكانية التغيير نحو الأفضل والأحسن، ولكن سرعان ما تكتشف شخصيات المسرحية بأن الأمر فيه مكر وخداع، بحيث لا يوجد هناك أبدا بصيص من الأمل في استعادة التوازن، والحياة الطبيعية، لأن السلطات ما زالت تؤكد عبر المذياع بأن الوباء مستمر في حصار جميع سكان الأرض، والحل ما زال بعيد المنال، وسيظل المرض يفترس أجساد الناس بمختلف مشاربهم، وفئاتهم، وطبقاتهم، فهو لا يميز بين اليمين واليسار، أو بين الشرق والغرب، أو بين الفقير والغني، أو بين السيد والمسود … أنيابه تنخر أجساد الجميع، والويل لمن أدركته العلة فإنه حتما سوف يلج مجال الشك، ويصبح مصيره معلقا بين الفناء والبقاء حتى تتحدد محطته القادمة: ” آه … كم هو عادل ذاك الكائن الغريب اللامرئي الذي غزا دول العالم كلها، فساوى بينها بتعميم الوباء عليها، عادل لأقصى حد عندما عطل أزمنة كل الساعات، دون تمييز بين من كانت ساعته من طين أو من ذهب. ربما لأول مرة في تاريخ البشرية ” ص.ص.62 ـ 63. 

          تستمر شخصيات المسرحية في ولوج صراع لا مخرج منه، حيث تصر المرأة على  التصريح بعدم إحساس حارس المحطة بالمسؤولية، وبجمود مشاعره إزاء المصاب الجلل، ويوافق الجندي المرأة في رأيها، بينما يصر حارس المحطة على عدم اهتمامه بأي شيء سوى الساعات المعلقة وبالتعليمات التي تصله تباعا من أجل توجيه خطواته في تعامله وسلوكه: ” قلت لكما مرارا إنني مسؤول عن ساعتي هذه فقط، والتعليمات لا تأمرني بالاهتمام بسواها ” ص. 62.    

          ينام الجميع بعد تعب وإعياء، وعند الاستيقاظ يجد كل واحد من الشخصيات أن العالم قد أوشك على استعادة نضارته، وحيويته، لقد أصبحت الابتسامة ممكنة، وأصبح ضجيج القطارات والطائرات المقلعة محببا إلى النفوس بعد أن كان مزعجا للأذنين، واستأنفت الساعات عملها عن طريق حركتها ووتيرة حركتها، لقد تم اكتشاف اللقاح السحري الذي سوف يتمكن من محاصرة الوباء والالتفاف عليه، وهذا هو الذي سماه المؤلف بالورود التي أضحت بشارة خير بالنسبة لشخصيات المسرحية وباقي ساكني العالم: ” لنحتفل بعودة الأحضان للأحضان والقبل عند السلام. لنحتفل برقصة العقارب فوق رخام الساعات. لنطرب بضجيج القاطرات على السكك ” ص.70.   

          إن الزمن في مسرحية المبدع ” الطيب الوزاني ” ظل طيلة العمل وهو لا يقول بالضبط ما يعنيه في الأصل والحقيقة، لقد كان يمر بكل انسيابية عبر جميع الثقوب والزوايا لكي يعلن بأن سطوته تفوق كل التوقعات والإرهاصات، ونحن إذا ركزنا جيدا، واستمعنا بدقة فإننا نكاد نجزم بأن هذا الزمن كان يتحدث ويتكلم بصوت مسموع طيلة العمل المسرحي، ويقتحم جميع الذوات والموضوعات التي قام المبدع بتشغيلها، ولا يمكن أن يذهب أحد إلى الاعتقاد بغير هذا، حيث إن كلام الزمن كان فعلا، وفعلا قاسيا، لم يستطع أحد أن يواجهه، أو أن يدحضه، لقد كانت لهذا الكلام الذي لا يبدو إلا أخرسا كل الهيمنة على جميع القرارات، وظلت الشخصيات في المسرحية تردد باستمرار نفس التصورات، ونفس الطموحات والآمال، والملاحظ على المسرحية هو أن الذي ساد فيها هو مفهوم التشابه، لقد كانت جميع الشخصيات تتشابه في عدم اتفاقها وفي اختلافها، وكانت جميع الساعات تتشابه في عطلها وأعطابها، وكان الزمن متشابها وواحدا في جميع الأقطار وسائر بلاد المعمور، وهذا التشابه هو الذي أنتج المعنى والدلالة، بحث نستطيع أن ندرك ذلك إما بصيغة واضحة وظاهرة، وإما بصيغة مضمرة ومتوارية، لقد أنتج هذا التشابه بصيغته الفلسفية البارزة نوعا من التلاؤم بين الشخصيات والأشياء وتوالي الأحداث، كما أنتج نوعا من الوحدة في مجال الأعراض التي عانى منها الجميع جسميا ونفسيا وعقليا، كما أنتج كذلك نوعا من التماهي الظاهر أحيانا والمضمر أحيانا أخرى بين الشخصيات و بين تعاقب الزمن حتى في جموده وتلاشيه، لقد استطاع الزمن بارتباط مع الوباء عبر هذه المسرحية من التحكم في انبثاق الأفكار وتوليدها من خلال ضبط تواليها، ثم عمل بعد ذلك على فتح منفذ جديد لتاريخ الأفكار مشبع بالتصورات الجديدة التي صاحبت وسائل وشروط وطرق التعامل مع الوباء.

 

مقالات من نفس القسم