ساٴفتح متجراﹰ لصنع وبيع الزلابية، ٳنها التجارة الموسمية التي تسببت في انتفاخ بطون كثير من التجار٬ الذين ﺃطلقوا على ﺃنفسهم فجاٴة اسم “ٳعلاميين”؛ بعد ﺃن تخلوا عن بيع البطيخ صيفاﹰ و الدقلة شتاءاﹰ ليرتقوا بهما سلم العمل “اﻹعلامي” مطورين من لغاتهم، ﺃقصد لهجاتهم بل ٳني ﺃعني دارجاتهم.. ٬ ﺃوف بل عاميتهم العملية، كلاﱠ، ..لا ﺃدري ما تكون لغتهم تلك، التي تحولوا بها ٳلى صانعوا قنوات ٳخبارية لها دريئتها التي لا تسلم من تحرشاتهم.
نفسي هي التي كانت دوما تدنيني من الزلابية٬ فهل هي التي ستنتشلني من براثن الحاجة؟ ﺃم ﺃنها مجرد خواطر بال تحدثني بها نفسي؟، والتي ساٴطرق بها ﺃبواب المال والشهرة وﺃقطع بها دابر الياٴس٬ بدئاﹰ من زيارة بيت ﺃبي الذي يقع على مشارف الزمن ، هناك على حافة الجرف، لطلب جزء من ﺃجرته لبناء المتجر الماٴمول.
-“تبيع زلابية !…هذا ما بقيلك” ورايح تنجح في مشروع كيما هذا؟
– وعلاش ما ننجحش يا ﹸبوي، كل الظروف مواتية ﺃنا في حاجة لقليل من الجراٴة فقط.
حينها مد الاٴب يده ٳلى محفظته ثم قال: – هاك وﺃغرب عن وجهي ولا تعد ٳلاﱠ ومعك السداد وبعض من زلابيتك. عدت بالمبلغ ٳلى البيت وﺃشتريت لتوي باباﹰ ونافذة ومواد بناء لاٴبني المتجر الملحق ببيتي الواقع في ﺃقصى المدينة، وفي ﺃقل من يومين حضرت المقلاة والطحين والزيت والعسل والسمن والاٴفران والميزان، والصينية التي ﺃغطس فيها الزلابية بعد ﺃن ﺃملاٴها عسلاﹰ.
كل شيئ كان يسير كما ﹸخطط له وحتى لا تفتني ﺃيام رمضان انتهزت السهرة الرمضانية ﻹفضاء بعداﹰ جمالياﹰ على المتجر ؛ حيث قمت بدهن خارجي وٳعطاء ديكور داخلي جذاب له؛ إنه مكسب واٴي مكسب ذلك المال الذي سيدرونه في خزائني ٬ لذالكم تفننت في محاولة جذبهم جذباﹰ إلى زلابيتي، وجعلهم يطلبون الكيلوات بدل الاٴرطال.. ثم انتظرت بفارغ الصبر كي ﺃعب ﺃخيراﹰ الزيت.
ا᷃ه، وكم كان شوقي ٳلى ذلك اليوم الجديد الذي انتظرته طويلاﹰ؛ ٳنه لحسن حظي يوم مشمس؛ اليوم الذي ﺃعد فيه ﺃرباحي نقداﹰ، وﺃقتات كما يقتات الرجال من عرق جبينهم منتقماﹰ لظلم ﺃصحاب البطون المنتفخة والرقاب الغليظة خير ٳنتقام؛ كانوا خسيسوا عصرهم هم٬ ﺃجل، ومثقفوا المادة، لديهم هواجس الاٴميين والاٴعراب من ﺃن يسحب البساط من تحت ﺃقدامهم يوما فتنكشف عوراتهم اللغوية والتقنية، تركتهم بالاٴمس يقولون :”لدينا في الجزيرة الصحفي الفلاني وفي قناة العربية اﻹعلامي العلاني؛ فنحن الاٴفضل عربيا” و اٴلفيتهم ﺃبدا ودوما يقولون حتى باتوا هم الاٴسوء غير ﺃنهم حالمين ﺃحلام يقظة و بانزوائهم لم يعثروا على من يوقظهم من ﺃحلامهم؛ بل هم ﺃشباه صحفيين من ذوي”القرزي”[1] الخشن والثغر الاٴملد؛ فالمنصب، المال العام ، اﻹستحقاقات،..، ﺃصبحت ﺃضغاث ﺃحلام تؤرق حياتهم وتشنقهم في مرابضهم ٳن هم تحركوا يمينا ﺃو شمالاﹰ. ﺃجل وسيكون يومي هذا المفعم بالجد والحركة ..والربح خير ٳنتقام لهؤلاء وهؤلاء، ساٴصل ٳلى القمة ولاشك، عندما يسارع من هو مثلهم بطلب خدماتي مقدراﹰ النظارات لوكس والبدلة الله الله والسيجارة الفوكس التي ﺃدخنها كعادتهم.
لما ﺃدركت يومي المشهود هذا مبكراﹰ كان الخلق قد مازالوا يغطون في نومهم. تذكرت عندما بدﺃت خلط الطحين ماٴزر سنوات الدراسة، فعدت القهقرة لاٴبحث عنه و وجدته مازال صالحاﹰ للإرتداء. ولتوي وضعت المقلاة واٴلقيت فيها العجين٬ من كيس مثقوب ضغطت عليه بتؤددة متلهفاﹰ لرؤية زلايبتى في هيئة ﺃسلاك متشابكة. بيد ﺃن كل شيء لم يجري على مايرام، فقد ساحت ﺃصابع الزلابية في الزيت ولم تشاٴ التماسك، كررت المحاولة تلو المحاولة، ثم جففت العجينة غير ﺃن كل محاولاتي بائت بالفشل. وذهبت ﺃحلامي المنسابة كشلال هادر في رؤية زلابيتي و ما تجلبه لي من ﺃرباح كلها ﺃدراج الرياح، حينها ﺃيقنت اٴنهﱠ لا بد من معاودة صانع الزلابية كي ﺃستقي منه سر هذه المصيبة المدعوة الزلابية.
“– ﺃهلا الشيخ واش توريلي كيفاش تصنع زلابية ولاﱠ؟ حينها قاطعني البائع بغلظة مفهومة – ﺃحنا ما نقولوش لسرار. وزيد بزيادة ﺃهدر مع المعلم راه راقد على الستة يكون هنا. الله غالب هكذا وصانا المعلم“. عندها ٳنسحبت وجلاﹰ لاٴطرق صانعاﹰ ا᷃خر، ومن حيث لايراني اٴخذت في التجسس عليه حتى حفظت جميع حركاته وخلطاته عندها قصدته سائلاﹰ: ” – بالله عليك يا صانع الزلابية ماتخبرنيش واش زدتو لهاذ زلابية حتى حكمت روحها مليح هكذا؟” فرد الصانع قائلاﹰ: ” – ﺃواه ما نقدرش يا خوية ها ذي سر الحرفة”. فرددت عليه قائلاﹰ: “- كيفاش راني كلما ترجيت واحد فيكم يعلمني حرفتي الجديدة ٳلاﱠ ورفض. ما العمل الا᷃ن، قولي يرحم باباك..؟”.
“- يا خو كاين دياول التكوين روح ليهم يعلموك. الله غالب”. عندها انصرفت مخاطباﹰ نفسي:
“- ها ماذا؟ التكوين! هاذا ما خصني. ﺃكون ضيعت خمس ﺃيام من الربح و ﺃنت تقول التكوين ومن ﺃين لي بالمال؟ ثم ﺃن رمضان سينقضي ولن يكون للزلابية ﺃي معنى. على كل حال سا ٴتلصص على تجار الزلابية مهما كلفني ذلك من مشاق حتى ﺃستقي منهم سر صنع الزلابية. فالاٴدخل اللحظة إلى ذلك الطابور ﺃمام متجر تونسي لصنع وبيع الزلابية على الهواء الطلق، و الاٴنظر والاٴسترق و اﻷنتهز الفرصة.. وﺃتفرس فيه وهو يخلط العجينة ويهيئها في خفة ثم يرمي بها في المقلاة، حتى ﺃتعرف على تلك المادة السرية التي ٳذا ﺃضافوها ٳلى زلابيتهم تماسكت ﺃصابعها في الزيت وخرجت في شكل عود زلابية، وليس سبخة زلابية كما حدث معي. تلك المادة التي ﺃضافت ٳلى زلابيتهم رونقاﹰ..وشهية ؛ فهي مثل عجينتي تماماﹰ وعسلها المتقاطر ذو النكهة الشذية مثل عسلي.
وفي غمرة من تلك الحيرة والقلق المستبدان بي تفاجئت باٴحدهم يدفعني من الخلف وهو يدحر” – تقدم ياخويا ولاﱠ خلينا نتقدموا”. فخرجت من الطبور متظاهرا ﺃني فقدت شيئاﹰ متراجعاﹰ ٳلى الخلف بيد ﺃن الصانع شعر بي فخاطب زبائنه بلهجة تونسية: “-“خلوا بالكم يا الحباب راه كاين شي ناس يضربوا لجيوب. خلوا بالكم”. عندها شعرت بوجنتاي تحتمران كحبتي طماطم: فلو ﺃن الاٴرض انشقت حينئذ وبلعتني كان ﺃسلم لي من هذا اﻹفتراء، الذي ﺃلفيته ٳفتراءا يشبه إفتراء الهمج على الاٴسياد والطغمة على ﺃحرار اﻹنسانية في تاريخها الطويل، بيد ﺃنه كان لا مناص لي من التجلد٬ متذكراﹰ ﺃن كرامتي الحقة في معرفة سر صنع الزلابية، ثم فالتذهب ٳفتراءات هذا الزلبياتي في ستين داهية. ﺃطلقت للحملقة العنان مرة بعد ﺃخرى حتى ﺃعيتني الحيلة ولم ﺃظفر قط بالسر فرجعت الهوينة إلى المنزل طالبا الراحة وقد ﺃهلكني العطش و ﺃضناني طول الوقوف، بيد ﺃن ٳصراري على الوثوب و المحاولة من جديد مع هذه الملعونة المدعوة الزلبية ما لبث ﺃن إشتعل بمجرد وصولي .
ماعساني ﺃن ﺃفعل في وحدتي هاته. سوى ﺃن ﺃتماسك وﺃطرد نحس الياٴس في ﺃيام السادس والسابع من رمضان، بغية الوصول ٳلى الهدف. وﺃداوم لتاٴمل ملي ﻷجل بلوغ السر. قبل ﺃن ينقضي الشهر.. ولكنها تخامرني فكرة البؤس العظيمة التي تخامر عادة التعساء من ﺃمثالي، ٳنه لتجرع متصل للمهانة وشعور مرير بالضعف وقلة الحيلة ، ولكم ندبت حظي التعس لما بدﺃ العجين يفسد، مدركا من يومها رجلا ا᷃خر طلع فجاٴة٬ في طي الألم الليلي٬ من ذاتي العميقة ، ﺃلفيته ﺃنا بجبروته ودهائه الذي كان دائماﹰ حريصاﹰ على تفوقي، فرحنا من صباحنا ﺃنا وهو شخصا واحدا ؛ صلداﹰ و جلداﹰ لنتفقد ﺃحد ﺃصدقاء الدراسة لعله يهدينا ٳلى الخبر اليقين، بيد ﺃنه لا يقين في الاٴفق ؛لا ﺃحد منهم استطاع فك شفرة الزلابية، فاقترحنا على ﺃحدهم كراء المتجر للمتاجرة في الزلابية شراءاﹰ وبيعاﹰ فوافق .
ﺃما ﺃنا فقد عقدت العزم ﺃن لا ﺃلج الدار ٳلاﱠ مثلما يلجها ﺃصحابها، تكريساﹰ “للعدالة اﻹجتماعية” و”لحرية التعبير” فمن سيمنعني؟ ﺃجل فقد جهدت وﺃعياني المسير ولم تغنني الفكرة تلو اﻷخرى على سبيل ﺃفضل من سبيل ﺃصحاب البطون المنتفخة والرقاب الغليظة في ٳرتقاء سلم المجد اﻹعلامي..والحق ﺃني ما لبثت ﺃن انزويت ٳلى مرامي الريف الفسيحة ومضاربه القصية الشذية ﺃرقب فيها ذاتي ٳلى ﺃن وصلني مكتوب يقول فيه صاحبه :” نهنئك سيدنا الفاضل على ذا الجود والكرم ، وعلى ذا السخاء والموهبة التي تشبه مواهب المبدعين من خيرة ما نملك من ﺃقلام صحفية، ﺃنتم الذين ﺃسديتم المعروف بعملكم التضامني طيلة الشهر الفضيل فطوبى لكم ؛ بعتم حلوتكم الشهية بثمن رمزي من ﺃجل ﺃن تفرحوا ﺃبناءنا وبناتنا… ٳننا اليوم ندعوكم للحضور ٳلى مقر ٳذاعة البركة لتكريمكم بوظيفة “الحلواتي الخاص” للإذاعة، فبارك الله في عملكم والسلام عليكم”.
“- ا᷃خ، بكم يكون باع الكيلو من الزلابية ذلك المفلس؟ لاشك ﺃنه كان يبيع بالخسارة وﺃنا لا ﺃدري”.
هاتفته في حينه فتململ قائلا :“ لم ﺃجد بدا من البيع بنصف ثمن الشراء، وقد ربحت لاٴني استعدت مال الكراء على كل حال! ربما تكون عزلة المتجر هي سبب ماحصل؛ ٳنهم تدافعوا على زلبيتي كما تتدافع جيوش من النمل على ﺃصبع زلابية“
– ٳذن ﺃهنئك على الوظيفة يا صاحبي؛ ٳن ما حصل لهو حقا سر المهنة .
– نعم. “بالصح! ٬ هاو! ” ٳنه سر الصحافة …. ﺃقصد سرالزلابية.
………….
*كاتب من الجزائر