سرد المنفلت في مجموعة عفاريت الراديو

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 82
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

تتميز مجموعة "عفاريت الراديو" لمحمد خير فى قسمها الأول "لمح البصر" بالتقاط مشاعر مبهمة فى الحياة، لحظات قصيرة وعابرة للغاية، مهمشة ولها قدرة على الانفلات والتلاشى السريع، فيأتى "محمد خير" بحسه الشعرى والسردى ليلتقط هذا الوجود اللحظى العابر ويعده أو يصوغها فيما يشبه تجهيز الشريحة المعملية الكفشفية، فيقبض على اللحظة برقائق من الزجاج الشفيف، ويضعها تحت الميكروسكوب الفنى الإنسانى، ليرى ما لا يُرى بالعين المجردة، أو بالمشاعر والأحاسيس العابرة، يوقف اللحظة أو الزمن ليضع قيوداً حريرية فى معصمى نور المناطق الوجدانية بالبشر، ليُبقى على العابر، ووقتها قد يدرك ذاته، ويزداد فهمه لها.

 

(1)

–        يغوص “محمد خير” فى الداخل الإنسانى شديد التعقيد، لا على نسق التحليل النفسى العميق، أو تتبع تاريخ التجارب الإنسانية فى تأثيراتها الاجتماعية أو الثقافية المتنوعة، ولا غيرها من آليات، لكنه يلتقط فيما يشبه الحياد البارد نقطة واحدة فى حياة الفرد الإنسانى خلية بشرية واحدة إن صح التشبيه، حين تتقاطع فيها مجموعة من العوامل مجتمعة وغير مقصود اجتماعها على هذا النحو فى حياة الفرد، شأن حياة البشر الواقعية، مثل ما صنع فى قصتيه “فادى” و “لم نفكر” وفيهما يكتفى “محمد خير” عوامل كثيرة ومتعددة، تتقاطع لتصنع هذا الوجود الملتبس، فى شخصية فادى الذى يخترع وجود توأم له فيسقط عليه أخطاءه ونزواته، أو وجود هذه الأنثرى التى ربما لو حدث بينها وبين السارد علاقة متحققة، لأنجبا معاً هذه الطفلة التى تحمل ملامح كليهما، وفى قصة “لم نفكر” يصور القصاص منطقة ضبابية بين الإرادة واللا إرادة ويشكل مجموعة من التباديل والتوافيق على مستوى الداخل النفسى المتخيل، لكنها لم تتحقق نهائياً بالواقع ذاته.

•        ولقد لاحظت أن هناك عوضاً متعمداً فى مكنونات ومنعطفات الداخل ومناطقه المنزوية، وإلاق الضوء الفنى عليها فى مقابل الكف النسبى مع الخارج الهمجى القامع الذى لا حيلة للإنسان الفرد فى التناطح معه، لضعف الكائن البشرى أمام هذه الآلة الأمنية المتضخمة والقاسية التى تتحكم بالمجتمع فى لحظته الراهنة.

(2)

وتنوع تقنيات القص فى مجموعة “عفاريت الراديو”:

فى قصته “فى شارع خاتم المرسلين..” يستخدم القصاص تقنية سردية تتسم بالتوازى حوار من طرف السائق وتعليق أو انطباعات داخلية من جهة السارد، وفيه تلمح عدم التواصل أو البون النفسى الشاسع بين الشخصية، لكننا أيضاً نشم رائحة الموت من خلال عبارات السائق وما سيعانيه بالفعل بعد دقائق وهو ما عبر عنه السارد بالقلق الطفيف الذى لا يعرف سببه على السائق وأن حياته فى الختام كما يلمح عنوان القصة، منطقة ضبابية لا نستطيع أن نحددها، لكننا يمكن أن نستشعرها أو نقع فى منطقة الحدس الإنسانى، منطقة حافرة فى ذلك المشهد لا يمكن التيقن من حدوثها، وفى مثل هذه المنطقة الغائمة تقع قصة “عصبية ككل العجائز”.

–        ويمتلك القصاص قدرة تهيئة الطقس المناسب لكل قصة من مجموعته من خلال المفردات اللغوية والتراكيب الخاصة، فيأخذ بقارئه حنيناً لعوالم قصصه فى مرونة وتلقائية محببة، مثل صنيعة فى قصة “عفاريت الراديو” حين يلعب بالظلال منذ السطور الأولى بالقصة يقول “لم تكن الغارة تعنى لى سوى عدد هائل من الشموع فوق الطاولة الخشبية التى تتوسط الصالة، كنت ألهو وقتها مقترباً ومبتعداً عن الطاولة، أقترب منها فيكبر خيالى على الحائط، ويصغر عندما أبتعد” ص47 ثم يتحدث عن الظلام ويستخدم مفردات وتراكيب من قبيل تغوص، تنبعث الأصوات فى العتمة، يبدأ بصرى بالزوغان وهكذا وتصور القصة الخيال البشرى الطفولى الجميل فى مشهد نينتهى بمفارقة معبرة للدلالة على بقاء التصورات الطفولية المتخيلة فى الشخصية الإنسنية مهما تطور بها الزمن، نفس هذا العالم الطفولى الذى يصوره فى قصة “مفاجأة مشتركة” وتلك المخاوف النظرية.

–        وفى قصته “ظلال وهمس” يدخل القاص قارئه لا منطقة أو طقس الجنس المعهود لكن هواجس المتردد فى ممارسة هذه التجربة، الحالم بسياق خاص تتردد فيه بعض الذكريات عن تجربة مرت بحياته فى لحظة ما، ولذا يأتى القص من خلال مزاوجة بين حلم وواقع مغاير يختلفا ويتلاقا فى آن واحد، منطقة من الاندياح بين الاثنين، يعضد تصورى هذا صياغة القص بطريقة توحى بتصحيح السارد لنفسه ودقائق مشاعره يقول “وتلمح ظلاً يتحرك بسرعة على الحائط المواجه، ثم تتبين أنه ليس سريعاً جداً وإنما أنت متوتر أكثر من اللازم” ص62، ولذا يلجأ القصاص أيضاً لبعض الصور المجازية مثل قوله “وأحاديث متخيلة تخرج من الجدران” ص62، ويستخد القصاص محمد خير ذات الصور المجازية فى قصة “حدود نهاية الشارع” يقول “… أهبط من فوق الرف وأنقض على الغبار، وأحكى لها فأتق التقمص” ص58، ويستمر سردية هذه القصة فى لغة شاعرية، وتبدو لغة السرد فيها كأنها فراشة لا تلبث أن تستقر على زهرة الحكى أو قصة الحب الرومانسية، ثم تفارقها، لتحلق تحليقة أخرى فى أزمنة متغايرة لتلتقط إشعاعات أو تقاطعات لحظة زمنية منصرمة مع لحظة آنية معاشة، من خلال مشاهد ولقطات شديدة العذوبة، لكنها مشاهد حية تحكى بدايات قصة حب زائقة فى بداياتها الناعمة.

(3)

–        واللغة المجازية فى المجموعة مكتملة لا تطلب لذاتها، تتكثف فى إحدى القصص مثل القصة السابقة أو تأتى عرضاً حين يستدعى الأسلوب هذا التعبير المجازى مثل قوله فى قصة “ضوء المصعد” “وبدا كأننى علقت فى بقعة خارج الزمن” ص44، أو قوله “وأن الوحدة لا تتوقف عن إنجاب الهواطس” المجاز هنا يقترب من اللغة التقريرية فى استخداماتها الرائقة العميقة وأتصور أن المعنى الذى يريد أن يقبض عليه القصاص وهى مناطق غير مطروفة كثيراً فى القص هى التى تستدعى تلك التعبيرات المجازية العفوية غير المستدعاة بالرغبة المتعمدة من القصاص فى التباهى بصياغتها، استدعى القصاص هذه التعبيرات المجازية لأنه الحقيقة كما يتخيلها، فلغة المجموعة يغلب عليها اللغة التقريرية التى تصوب مباشرة لأهدافها التعبيرية.

–        قصة “الشئ بالشئ” يجمع القصاص بين ثلاث لحظات متداخلة فى السرد لحظة القص التى تصور مشهد الموت، وخصوصية علاقة السارد بالمتوفاة الأجنبية، وتاريخ العلاقة ذاتها فى إطار علاقة مجموعة من الأصدقاء، يتم القصاص ذلك من خلال متوازيات ثلاثة يتقاطعون فى لحظات سرد متوالية ومتداخلة بانسيابية فى بعض المواضع، أو بقطع مفاجئ فى مناطق أخرى، وفى ظنى أن القصاص بهذه الآليات السردية يحاكى الحياة، مصوراً لما يحدث بها بالفعل، ما نتوقعه وما لا نتوقعه لكنه يحدث مفاجئاً وعلى غير انتظار.

وتبدو نهاية قصة “على رصيف واسع” نهاية ارتدائية تتكرر بها نفس أحداث وجمل القصة فى أولها، كانت الجمل والأحداث فى البداية مبهمة غير محملة سوى بذاتها، بكونها مرسومة على هذا النحو، لتأتى النهاية وتتكرر نفس الأحداث وتقريباً نفس الجمل، لكنها فى هذه المرة قد حملت بالسياق الذى أوجدها ودلالة حدوثها، كما أضيفت لها ملاحظة السارد لهذه النقطة الدائرية البيضاء فى عين السائق والتى أتصور أنها ترمز لهذه المنطقة التى لا تستوعب فيها الآخرين، ولا ترى فيها وجودهم، تلك المنطقة التى تعد من أخطر عيوب الثقافة الإنسانية.

تحمل مجموعة “محمد خير” إسم إحدى قصص القسم الثانى “عفاريت الراديو” هذا القسم الذى يأخذ عنوان “هجرات مؤقتة، ولو تفحصنا القصص تحت هذا القسم لتبادر إلى الذهن أن الهجرة حتماً ستتم فى الذات الإنسانية هجرة من الصمت والحياد فى “ضوء المصعد” و”ورقة بيضاء مطوية”، أو هجرة من التخيلات الطفولية البريئة وعوالمها الثرية فى “عفاريت الراديو”، أو هجرة من علاقة منتهية فى “ألوان البالونات” مثلما تتطاير البالونات الملونة بين يد الصبى أو هجرة إلى علاقة قديمة، هجرة إلى الذكريات فى “طلال وهمس”، هجرة إلى التماس عذر عند الآخر فى “على رصيف واسع”، أو هجرة قدرية إلى ما يأنف منه الإنسان فى “قطعة فى مطعم صغير”، أو هجرة إلا الاستسلام الطقسى أمنى بعد ثورات متكررة فى “ممطر شتاءاً” أو هجرة ألى ما يفرض على الإنسان لا ما يريده لطمعه أو طمع الآخرين فى “عشرة جنيهات”، أو هجرة إلى تذكر علاقة كان من الممكن أن تحدث لو لم تتدخل مقاطعات قدرية من آخرين فى قصة “الشئ بالشئ”.

–        ولقد أضاف القصاص لفظ مؤقتة إلى الهجرات لأنها منسوبة إلى الداخل الإنسانى وهو متغير متقلب لا يضمن له أحد أى ثبات أو تواتر كما يصوره القصاص ويعبر عنه، وهو ما يتفق مع علم النفس الحديث ونظراته فى النفس الإنسانية.

ويتفاوت ويتنوع دور العنوانات فى قصص المجموعة لكنها جميعا تعد ركناً أساسياً فى بناء القصة وتكوينها الهنوس فهى موظفة لأغراض متنوعة أحياناً يأتى العنوان وتكون مفرداته جزءاً من بداية القصة واستقلالها بها، أو خاتمتها ومشكلاً لتقنية أو عنصر المفارقة فيها، أو تعليقاً عاماً على القصة مثل موعد لن يتكرر أو مفهومها ودلالتها المحتملة.

ولذا تقع العنوانات جميعها فى القسمين “لمح البصر” و”هجرات مؤقتة” ما بين انفتاح العالم النصى وإنتاج دلالته أو جعل القصة ذات وجود امتدادى يحتوى نهايات متجددة.

–        ولذا يغلب على المجموعة طابع الزمن اللحظى المنفتح، زمن اللحظة التى تكتنز بما قبلها أو ما سيأتى بعدها، هى لحظة نتاج الماضى والحاضر والمستقبل، كما أنها لحظة فردية وغير فردية فى ذات الوقت، لحظة يصنعها الفرد فى علاقته بالمجموع أو بالآخر.

–        اختصت هذه المجموعة بخبرات وتجارب لم تزل شابة، تلقائية وفطرية لم تنقل بتجارب السنين فادحة البصمات، غائرة العلامات فى الشخصية الفنية، ولقد اتسق هذا مع تجارب القصاص الشاب وقراءاته التى لم تزل فى طور التشكل المستمر، لكن تجربته القصصية تنبأ برغبته فى ارتياء مناطق غير مأهولة فى النص القصصى القصير بهذه التقنيات الفنية المتنوعة، وهذه النوعية المميزة من الانفعالات فى حال تقاطعها.

وتتضمن المجموعة خروجاً من الداخل الإنسانى الفرد إلى إشارات إلى تفاعل الفرد مع المجتمع، فى تشابك محدود، انطلاقات صغيرة لكنها عميقة ومعبرة، مثل قضيته “ممطر شتاءاً” أو “تقاطع” وتصويره لتأثيرات المنظومة الأمنية على الفرد فى المجتمع الذى نحياه، أو تصويره لتحولات المجتمع المصرى وسيطرة الفكر الأصولى الرجعى عليه فى قصته “فى أى وقت” وفى هذا النص يتعامل القصاص مع السارد كأنه حادث افتراضى يمكن أن تتعدد مرات حدوثه ليصور طغيان ووطأة هذا الاتجاه فى مقدرات وأحوال المجتمع المصرى، وليصور فى ذات النص أيضاً رثاء القصاص لحالة من الود والألفة والأريحية كانت تظلل الأجواء العامة فى المجتمع المصرى قبل تفشى هذه الأفكار والجماعات المتشددة به، فهى ترثى مجتمع لا يتقبل تمايزاته، وتعايش الأفكار والحريات به.

لم تطرد تلك الذبذبات الشعورية المتوترة بكل قصص المجموعة فى قياس متقارب فتفاوتت وارتفع هذا الحس الإنسانى فى بعضها وانطمس بعض الشئ فى قصص أخرى.

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم