تقديم وترجمة: عثمان بن شقرون
في نص قصير، ظاهره خفة ساخرة وباطنه وجع لا يُحتمل، نشر روبير فالزير سنة 1917 قطعة سردية بعنوان “السجق” ضمن مجموعته الموسومة بـ قصص. وهو نص محوري في هذه المجموعة، يضعنا فيه “سيد النثر القصير” منذ البداية داخل مسرح ساخر ومأساويّ في آنٍ معًا. حيث تتحول تجربةٌ عابرةٌ – أكل السجق – بين يديه إلى لحظة وجودية باردة، وتأمل في إنسان لم يسقط بخطيئة كبرى، بل هوى فقط لأنه افتقر إلى فضيلة الصبر. يجسد فالزير بهذا تفكيكه الدؤوب للحياة اليومية، حيث يجد في التفاصيل الصغيرة أبعاداً فلسفية ونفسية عميقة.
منذ الجملة الأولى، ثمة شيء ينكسر. وتفتح النبرة الساخرة، التي تستدعي أسلوب بريشت في إخفاء المأساة خلف الابتذال، بابًا على مونولوج داخلي يدور حول نفسه بلا توقف، يعود دومًا إلى نقطة الذروة: لحظة التهام السجق. لا يسرد فالزير حدثًا، بل يتعقّب أثره، كما لو كان يطارد شبحًا استقرّ في جسده. إن اللقمة التي مضت لا تعود في لذتها، بل في ندمها الثقيل.
وسط هذا الدوران المحموم كمن يسير في متاهة، يتحول السارد إلى كائن هشّ، يجلد ذاته بصيغ بلاغية متكررة، يعيد صياغة الشعور ذاته مرارًا، كأن النص برمّته يشيّد من فكرة الندم خطابًا متشعبًا لا ينفك يعيد خلق نفسه. شيئًا فشيئًا، ندرك أن السجق ليس مجرد ذريعة، بل استعارة دقيقة لانقسام الذات الحديثة بين الرغبة والإشباع، وبين اللذة والتأجيل، وبين ما حدث وما كان يمكن أن يحدث. يتحول السجق هنا من طعام زائل إلى أثر وجودي، إلى مفعول به ميتافيزيقي يُختصر فيه الفناء اللحظيُّ للإنسان، وإلى استعارة كبرى عن الكائن المعاصر الممزق بين لحظة التوق ولحظة الخيبة، وبين الامتلاء المؤقت والفراغ الأبدي. إنه نص عن الزمن والمتعة والذاكرة. كتبه فالزير بلغة ساخرة تنهك القارئ، لا تُضحكه إلا لتزجّ به في هاوية أعمق.
السُّجُقّ
فيمَ أفكر؟ أفكر في سجق. إنه أمر مُريع حقّا. يا شباب، أنتم الذين تخدمون الدولة، وهي التي تعلق عليكم كل آمالها، تبصَّروا فيّ بعناية واتخذوني مثالا رادعا، لأنني قد انزلقت إلى عمق الهاوية. لا أستطيع التخلص من فكرة أنني، إلى عهد قريب، كنت أملك سجقا، لكنه الآن مضى إلى الأبد. لقد أخرجتُه من خزانة الملابس، وفي تلك اللحظة بالذات، التهمته بتلذذ ظاهر وصريح، ربما أكثر مما ينبغي، التهمتُ ما كان من الممكن أن يبقى موجودًا هنا لولا أنني أتيت عليه. قبل دقائق قليلة فقط، كان أفضل وألذ الأسجاق حاضرا هنا بلحمه ودمِه، لكن الآن، ولسوء الحظ، وبسبب التهامٍ متهوِّر جدًا، اختفى ذلك السجق الشهي، وهذا ما أحزنني حقًا. ما كان موجودًا قبل قليل قد غاب الآن، ولن يعيده أحد إليَّ أبداً. لقد أكلتُ شيئًا لا يمكنني أن أتناوله مرة أخرى بهذه العجلة، وما كان لي أن أتذوقه بتلك السرعة. لقد التهمتُ كل ما كان بوسعي أن أستمتع به لو كنت قاومت الرغبة. أشعر بأسف شديد لأنني لم أقوَ على كبح رغبتي في استهلاك ما كان لا يزال طازجًا وأحمر اللون بين يدي قبل لحظات، لكنه الآن لن يكون في متناولي أبدًا، فقد استهلكته بعجلة لا تُغتفر. لقد اقترفتُ ما كان بوسعي ألا أقترفه بعدُ، لو لم يحدث ما حدث، ولا سبيل إلى إصلاحه الآن. ما انقضى كان يمكن أن يظل بهدوء وسلام، وما فُقد للأبد قد يوقظ الشهية، لكن الشيء الذي يوقظ الشهية قد ولًّى، وهذا ما أشكو منه بصدق، رغم أنني أعلم أن الشكوى لا تجدي نفعا. ما تم العبث به كان يمكن أن يبقى سالماً، وما أُكل كان يمكن أن يبقى غير مأكول، وما سُلب مني كان يمكن أن يظل بحوزتي لو كنت في غاية الحذر وضبط النفس، لكن للأسف، لم أكن كذلك أبدًا، وهذا ما أندم عليه بشدة، رغم أنني أدرك أن الندم والتذمر لا فائدة منهما. ما اختفى كان لا يزال بإمكانه أن يكون حاضراً، وما مات كان يمكن أن يعيش في سعادة. ما تم قضمُه وتمزيقه بوحشية كان من الممكن أن يبقى سليمًا، لكن للأسف هو الآن ممزّق، ولا يمكن لأي شكوى أن تغير ذلك. ما لم يعد صالحًا كان يمكن أن يقدم أفضل الخدمات، وما اختفى كان لا يزال بإمكانه أن يسعدني بحضوره الجميل لو لم أرتكب ما أنا نادم عليه الآن بشدة. إن ما مضى، لم يكن ليضيع حتمًا، لو كنتُ أكثر صلابة ومقدرة على المقاومة، ولو أنني تخلّيت عن نزواتي الشريرة. يا رغباتي الآثمة، لقد سلبت مني سجقي. ذلك الذي كان يمكنني تذوقه لاحقًا، لو أنني تركته على حاله، غير مُتذوَّقٍ ولا مُستمتعٍ به. وهو ما يُشعرني باليأس، كما ذكرتُ مرارًا وتكرارا، ولا يسعني إلا أن أكرره إلى ما لا نهاية. لقد جررت على نفسي خيبة، فقط لأنني تذوّقت طعامًا كان في ذروة جودته، لكنه الآن قد تلاشى تمامًا، لأني لم أتمالك نفسي، وهذا ما أندم عليه. الندم لا طائل منه؛ بل لا يزيدني إلا شعورًا بفداحة فقدان السجق. لذا، سأحاول أن أترفّع عنه، وإنْ كان ذلك عسيرًا، لأن ما يدعوني إليه ليس بالأمر الهيّن، بل هو عظيم الشأن. لقد ذقت طعم الهزيمة، لأني لم أُبقِ على ما كان ينبغي لي بكل تأكيد أن أصونه وأحفظه، ولم أُولِـه ما يستحق من العناية، رغم أنني بالكاد أصدق ذلك، إذ كنت دائمًا أعتقد أنني قويّ ومتماسك، ويبدو أنني كنت مخطئًا في هذا الاعتقاد، وهو ما يؤلمني، رغم أن الندم، كما قلتُ، لا يبدو ذا نفع على الإطلاق. أوه، هذه الأسجاق، أقسم أنها كانت رائعة. مدخنة ببراعة، ومحشوة بقطع من لحم الخنزير اللذيذ، وكانت بطول محترم وجذاب، وكان لها رائحة لطيفة وجذابة، ولون أحمر ناعم، وكانت تصدر صوتًا مقرمشًا عندما عضضتها، ما زلت أسمع صوتها وهي اتفرقع باستمرار، وكانت طرية، لم آكل شيئًا أكثر طراوة في حياتي كلها، وهذه الطراوة وهذا الطعم اللذيذ كانا لا يزالان يمكن أن يكونا لذيذين وطريين الآن، واللون الأحمر والنعومة لا يزالان أحمرين وناعمين الآن، والرائحة الطيبة لا تزال طيبة الآن، والطعم الرائع والمشهي لا يزالان رائعين ومشهيين الآن، والطول والشكل الدائري لا يزالان دائريين وطوليين الآن، والمدخَّن لا يزال مدخنًا الآن، والمحشو باللحم لا يزال محشوًا باللحم الآن لو كنت قد صبرت. كان بإمكاني أن أسمع صوت فرقعتها الآن لو لم أكن قد جعلتها تفرقع بالفعل، وكان لا يزال بإمكاني العض الآن، للأسف لقد عضضتها بسرعة كبيرة. آه، يا هذا السجق! أقسم أنه كان رائعًا. لقد كان مدخنًا ببراعة، ومحشوًا بقطع لحم مقدد لذيذة، وذا طول مهيب ومقبول، تفوح منه رائحة خفيفة آسرة. وكان لونه أحمر رقيقا، وعندما عضضته أصدر صوت قرمشة لا تزال ترن في أذني حتى الآن. وكان طريًا جدًا، لم أتذوق في حياتي شيئًا أطرى منه. وكان بإمكان هذه الطراوة الشهية أن تبقى، وهذا الأحمر الرقيق أن يظل رقيقًا أحمر، وهذه الرائحة العطرة أن تبقى عطرة، وهذا المذاق البهيّ الشهي أن يدوم بهيًا شهيًا، وهذا الشكل الطويل المستدير أن يستمر مستديرًا وطويلاً، وهذا التدخين الجميل أن يستمر مدخنًا، وتلك الحشوة الدهنية اللذيذة أن تظل محشوة بشحمها، لو كنت فقط تحليت ببعض الصبر. لا يزال بإمكاني سماع صوت قرمشته حتى الآن، لو لم أكن أنا من أحدثها بالفعل. وكان هناك ما لا يزال يستحق العض، لكن للأسف، كنت سريعًا جدًا في التهامه.