عبد العزيز دياب
وضعني بورخيس في واحدة من متاهاته….
هذا نتيجة نصائح راوي القصة التي كنت بصدد كتابتها… كعادتي هيأت طقوسي الغرائبية للدخول في عوالم الكتابة، وما وراء عوالمها، أعلاها وأسفلها، ظاهرها وباطنها.
لا أعرف…
هل كانت طقوسي هذه بكل ما تكتنفه من جنون وغرابة هي التي استدعت الرجل… هل كان دخان البخور برائحته المستفزة دليله للوصول إلى مكاني؟
ضحك راوي قصتي، بل قهقه وهمس في أذني: ربما كان الطرطور الذى تضعه على رأسك هو سبب حضور صاحب الألغاز والمتاهات.
هو طرطور أضعه على رأسي ساعة الكتابة، تكتنفه الألوان المبهجة فأبدو مثل مهرج في سِرْكْ صبغ وجهه بالألوان… لبس الطرطور، تشقلب، نط نطتين في انتظار تصفيق العيال.
لحظة الكتابة أضع على الكنبة القطة “كاتى” لتكون أمامي، أتمسك بحضورها لحظة الكتابة، ربما تسللت في نعومة ودخلت القصة التي أكون بصدد كتابتها فأكسبتها المذاق الذى كنت أبحث عنه، لكنني أشترط عليها وأنا أضعها على الكنبة أن تتحول إلى كائن آخر خلاف المرة السابقة عندما تحولت داخل قصتي إلى عجوز تهش بعصاها المعوجة قطيعًا من السلاحف وبدا الأمر مزعجًا.
جمجمة بشرية منحنى إياها طالب كلية الطب بعد أن هجرها إلى الدراسات الفندقية، أضعها أمامي لحظة الكتابة، لدى يقين راسخ أنها تلهمني أفكارًا غير مسبوقة، في لحظة الذروة التي تصل إليها قصتي تكتسى لحمًا وجلدًا وشعرًا، تظهر بملامحها الحقيقية، ذات مرة اكتشفت أنها جمجمة لأنثى بعينين زرقاوين، تغمز بعين واحدة وتبتسم كأنها تقول لي: أنت يا سيد على الطريق الصحيح، أسألها عن اسمها الذى كان، تَخْجَلْ وتعود سيرتها الأولى.
موسيقى خافتة لأغنية فيلم “ريا وسكينة” بصوت “شفيق جلال”، أو شفشق كما يطلقون عليه:
يا ختي عليها ويا ختي عليها
جت رجليها ما جت رجليها
………………
على نغمتها تكتمل طقوسي وأبدأ الكتابة، لكن هذه المرة حدث ما هو أغرب من طقوسي، تجسد أمامي راوي القصة التي أتصدى لكتابتها، انتبهت فوجدته أمامي على الكنبة يحتضن قطتي “كاتى”، يوشوشها وعلى وجهه يرف شبح ابتسامة ماكرة، أظن أنه كان يقول لها: هذه المرة ليست كالمرات السابقة… هذه المرة سيكون صاحبك- يقصدني طبعًا- في محنة.
شعر أنني انتبهت إليه، تقدم ناحيتي وخاطبي بلهجة جادة آمرة: هيا يا سيد.. انتبه، عيلك مغادرة المكان فورًا…
أدهشني حديثه: ما الذى يجعلني أغادر صومعتي… مكاني الذى يضمني وشخوص حكاياى؟
“بورخيس.. أتعلم.. بورخيس يا أخي في الطريق إلى هنا”
ضحكت ضحكة ساخرة أيقظت كاتى، وأم كاتى، وإخوة وجارات كاتى: وما الجديد في ذلك.. هذه ليست المرة الأولى التي يزورني فيها بورخيس، هو دائما ما يزورني الرابعة فجرًا لحظة إعداد طقوسي وتَجَرُّدِي للكتابة، لا يفعل شيئًا، هو فقط يملى علىَّ نصائحه الثمينة.
“كل مرة لا تسلم الجَرَّة كما يقولون… اليوم لن تستطيع تحمل نصائحه”
“كيف…؟”
“هذه المرة سيكون كالطوفان يقتلعك من جلستك هذه ويرميك في غابة كل سكانها الوحوش يطلبون لحمًا آدميًا… هذه المرة سيكون خلية نحل أو زنابير تهرى أفكارك التافهة، يقول لك إلى اليوم لم تتعلم منى شيئًا، لازلت تقف على تخوم المتاهات…”
دائما ما أصدق رواة قصصي عندما يتجسدون أمامي ساعة الفجر والحديث معي كأصدقاء هشتهم مقاهي آخر الليل، سألته:
“ما العمل إذن؟”
استغرق لحظات كنا خلالها في البحر الكاريبي على ظهر مركب عجوز بمجداف واحد يجدف به، فجعلت أنا الآخر ذراعي مجدافًا قبل أن يأتي الموج ويقتلعنا من على ظهر المركب ويرمينا على أرض جزيرة كل سكانها من القرود…
انتشلني من بين القرود قائلا: من الكياسة أن يأتي بورخيس ويجدك ههنا تكتب وتضحك وتبكى وتغازل قطتك.
“هذه معضلة… أنت لتوك أمرتني بأن أغادر المكان”
قال: لا تحمل همًا… سآتيك بالحل…
تكلم كأن الكلام يأتي من بئر عميقة محفورة بداخله: ليس أمامك إلا أن تترك نسخة منك هنا في مكانك هذا…
“نسخة منى…؟!”
الفكرة كانت طيبة قمت بتنفيذها على الفور، لكنه بورخيس… اكتشف الخدعة في أول لحظة من لقائه بنسختي التي حلت مكاني، فما كان منه عقابًا لي إلا أن قذفني في إحدى متاهاته…
………………
ساعدوني من فضلكم لأنني إلى الآن لا أستطيع الخروج…