أما “هدير” حفيدة “شيرويت” المناضلة اليسارية العجوز التى لا تملك إلا اجترار ذكرياتها وحث حفيدتها الشابة على التحرر والسفر وخوض تجربتها الخاصة، فهى تلك الفتاة التى تحيا فى قاهرة 2011، تحركت لعنتها وثارت بعد خمود، لترقب مصيرها المجهول، فالخلاص لا يكتمل إلا بحلول اللعنة ونزولها.. والثمن لا بد أن يسدد كاملا غير منقوص. وبين هدير وشيرويت، هناك “نادية” الجميلة، أم هدير المفتونة بالزمرد وحاملة اللعنة ومُورِّثَتُها فى آن، “رابونزل” المصرية، التى تضحك لها المرايا، باحثة عن خلاصها الذى وجدته فى “الهجرة” والمغادرة إلى حين. أما “مروج” حفيدة كبير الحكماء، فهى كاتبة السيرة ومفجرة اللعنة، خارقة المحظور هاتكة المحرم، صانعة الحكايات التى ستكتب بماء الذهب وتحفظ فى خزائن الملوك كالجواهر، أو تدون فى السجلات لأجل أن يطلع عليها الخلف فيعرف أخبار السلف، أو يسعى إليها الساعون فى البلدان المختلفة، لينسخوها بأدق ما يستطيعون، كى يعودوا بها هدية إلى ملوكهم الذين يحفظونها فى خزائنهم، ليطالعها من يبحث عن “الحكمة المتجددة” فى الزمان والمكان. “مروج” هى حاملة الحكمة المتجددة، “حكمة الكتابة” التى تصل الماضى بالحاضر بالمستقبل، فتهدم حواجز العرق والجنس واللسان والعقيدة، وتجمع من التدابير العجيبة والعلوم الغريبة والتجارب الحكيمة ما يصل القرون الماضية والأمم البائدة بالقرون الحالية والأمم الآتية، مؤصلة فى الإنسان انتماءه إلى المعمورة الإنسانية كلها فى أحلامها وأشواقها، مؤكدة أن حاجة الغائب موصولة بحاجة الشاهد، لاحتياج الأدنى إلى معرفة الأقصى، واحتياج الأقصى إلى معرفة الأدنى، فذلك هو طبع البشرية وفطرة الإنسانية التى تؤكدها “أمثولة شهرزاد”، وموازياتها الأخريات “زمردة” و”مروج” و”هدير” فى ما تؤكده من دلالات أو تومئ إليه. “المعرفة سبيل التحرر.. ولا تحرر إلا بهتك أستار اللعنة وحلولها” هذا هو الدرس الأهم للّيالى، الذى استخلصته منصورة واستوعبته جيدا عبر معايشتها لنص الليالى، مدركة أن “شهرزاد فى الليالى، إنما كانت تقدم أمثولة المثقف الذكى فى مواجهة السلطان الجائر، إلاّ أن قدرة المعرفة على التحرير لا تتوقف فى ذلك النص الثرى على شهرزاد وحدها، إنما تكاد تتكرر فى كل حكاية من حكايات اللّيالى، إذ تتناسل “الشهرزادات” ويتعدد الرواة البارعون فى سرد حكايات مخلِّصة”. تدور أحداث الرواية فى فضاءات مكانية متعددة، من قلعة ألموت بإيران حيث جاءت حفيدة أحد الحكماء السبعة إلى القاهرة لتبحث عن “المنذورة” المعاصرة لاستكمال الحكاية الناقصة من الليالى، مرورا بالقاهرة وثاكاتيكاس بالمكسيك، التى ستلتقى فيها “كريم خان”، الحفيد الآخر لأحد الحكماء السبعة، وجبال الليالى الأسطورية، وممالكها السحرية، جبل قاف، وجبل المغناطيس، وما بينها تدور الدوائر وتتكشف الأسرار وتروى الحكايات وتتتابع الوقائع. هكذا تبدو رواية “جبل الزمرد” (أو الحكاية الناقصة من الليالى)، سردية رمزية كبرى، تترك قارئها، أو بالأحرى أسيرها المسحور، لاهثا يتمرى فيها لاستخلاص ليس المتعة فقط، إنما بالأساس “الحكمة والعظة”، كما حملتها الجملة المفتاحية المتكررة فى الليالى “حكاية لو كُتِبت بالإبر على آماق البصر لكانت عبرة لمن يعتبر”، وهى الجملة التى صدرت بها منصورة نصها الروائى الجميل، باعتبارها “جملة مفصلية” توصف بها الحكايات العجيبة والمهمة. فالعبرة / السؤال / والاشتباك الوجودى والمعرفى مع الموروث ومع الحاضر، هدف أساسى للحكى جنبا إلى جنب مع الإمتاع.. من هنا تؤسس منصورة لنص موازٍ لليالى، يستلهمه، ويشتبك معه، يناوشه ويحاوره يجاذبه من حيث هو “النص الأكبر” المكرس بكامله لمديح فن الحكى، والاحتفاء به بوصفه الفعل الأكثر إمتاعا وجلبا للتسلية والعِبرة. تتفحص منصورة فى نصها متاهة الحدود الملتبسة بين التاريخ والفن، فما يواريه التاريخ ويسكت عنه، ينطق به الفن متحررا من أسر أى سلطة زمنية أو أى حدود ينبغى أن تحد، ذلك ما تبحث عنه منصورة جاهدة “عما يشبه تلك الحكايات الشفاهية الآسرة، عن كتابة لا تعترف بالحدود الفاصلة بين الواقع والخيال”، من خلال ثنائية “الشفاهى والكتابى”، فالحكى عند منصورة كما فهمته عن جدتها الأسطورية شهرزاد “يمنحها سلطة هائلة، سلطة خالق يتحكم فى المصائر، ويسيطر على آذان مستمعيه جاعلا قلوبهم تخفق على إيقاعات صوته المتماوج بين الهمس والصياح، بين العلو والانخفاض، بين تصدير الأمل والحماسة أو الخيبة والشجن”. إن الرواية تجسد ببراعة لا نظير لها ذلك الخوف اللا شعورى من القوة الكامنة فى عملية الكتابة “التدوين”، وهو خوف يوازى سوء الظن المتأصل بالأنثى، وكما لو كانت “الكتابة / الشر” هى الفعل الذى إذا أطلق سراحه أحال الكبير إلى صغير والصغير إلى كبير، والمقموع إلى متمرد، والسادر فى ظلمات الجهل والخرافة إلى حائر متشكك فى محيطات المعرفة، واستبدل الأدوار وعبث بالمواضعات والأعراف وفتح من أبواب الوعى ما ينقض كل قمع ويزرع بذرة التمرد فى أعماق كل مقموع. ويبدو أن “الكتابة” التى أصبحت العلم المحيط للكون اكتست المعنى الرمزى لشجرة المعرفة المحرمة التى كان على الإنسان أن يقطف ثمارها مقترفا فعل الخيانة الذى اقترفه بروموثيوس حينما سرق نار المعرفة من الأرباب التى حرمتها عليه فاستحق العقاب الذى خرج به من جنة الطبيعة إلى جحيم الثقافة / المعرفة. فى ظنى ستكون “جبل الزمرد” واحدة من الروايات التى ستملأ الدنيا وتشغل الناس طويلا، وهى جديرة بأن تشغلهم وتمتعهم وتخلب ألبابهم.. فلتحيا مملكة الرواية!