د. خالد عزب
تدور أحداث رواية “زهر الخريف”، للكاتب، عمار علي حسن، والتي تتخذ من شابين مصريين (أحدهما مسلم والآخر مسيحي)، بطلين لها، تدور في قرية معزولة منسية ترقد صامدة بين الزرع والنهر، بالقرب من مدينة المنيا وسط صعيد مصر، وهي تحارب بالرصاص والغناء، جميع اللصوص الطامعين في القوت والبهائم.
وفي الليل، تختلط فيها فرقعات البنادق الآلية بصوت عذب وربابة شجية لشاعر يستدعي في نشوة مستعرة، سيرة أبي زيد الهلالي ورفاقه، تلك السيرة العامرة بالبطولة والرجولة والنبل، فيشعل الحماس في النفوس المتألقة وسط الظلمة الشاملة.
وهذه الروح الأصيلة والحزينة في آن، جعلت الرواية تحتفي بالموروث القصصي الشعبي، إلى جانب العديد من ألوان الفلكلور، مثل الأمثال والتنجيم والحكمة الإنسانية الخالصة التي اقتطفها المؤلف من مصادرها الأصلية، ووظفها تباعا في نصه السردي المتدفق.
وبطلا الرواية: عليّ عبد القادر إسماعيل وميخائيل ونيس سمعان، هما صديقان جمعهما حب المغامرة، وذكريات الطفولة، والخوف على ذويهما المتعبين، فقادا أهاليهما في معارك حامية دفاعا عن قريتهما الوديعة المجهدة، ضد عصابات الليل.
وحين وقفا على أبواب الشباب الغض، جاءتهما الفرصة للدفاع عن الوطن برمته، فذهبا سويا إلى حرب 73، ولكن عاد ميخائيل شهيدا، كما ضاع عليّ في الصحراء الواسعة لتبدأ رحلة البحث عنه.
وتشتعل الأسئلة، وتظل شخصيات الرواية حائرة في إيجاد إجابات تشفي الغليل، وتريح النفوس التي يعتصرها الألم، ويلهث الجميع في سبيل فك هذا اللغز العصي، ويلهث معهم القارئ حتى الصفحة الأخيرة من الرواية، والتي حملت إجابة تنطوي على مفارقة، تبرهن على أن «الدنيا» ضيقة رغم اتساعها، وأن ما نجري أحيانا وراءه دون فائدة، قد يأتينا في لحظة عابرة من دون أدنى ترتيب.
ومن الشخصيات اللافتة في الرواية، وفاء، حبيبة علي عبد القادر، التي لم يتزوجها سوى أسبوع واحد قبل تجنيده وذهابه إلى الحرب. وكانت وفاء تطالع دوما من شرفتها الواسعة انحناءات الشارع الذي ينتهي بجسر طويل مفتوح على المحطات التي يحل فيها الغرباء والعائدون، فلعل حبيبها الغائب يهل مع أول إطلالة للنور، أو في سكرة الليل الراحل بلا هوادة.
فتغمض عينيها لتراه آتيا كالقدر، يشق الظلام بجسده الفارع وإلى جانبه صديقه الحميم، وشريكه في الكفاح ضد أولاد الليل، ولكنها حين تفتح عينيها لا تجد سوى الفراغ، فتنتظر في صبر جميل، والشيب يتسلل إلى رأسها كالسم الذي يقتل في هدوء وعلى مهل، ولا تجد أنيسة ومواسية سوى جورجيت حبيبة ميخائيل التي افتقدته إلى الأبد.
ثم تأتي شخصية رفاعي، الرجل البسيط الذي قادته قدماه حتى الصعيد الأوسط، ليبيع الخبز للفلاحين، ويروي لهم حكاية مدينة باسلة، بعد أن دمر الإسرائيليون بيته ومخبزه، ثم تترى الأحداث سخية رخية ليجد رفاعي نفسه في النهاية، عائدا إلى مدينته، وما حولها للبحث عن الشاب الضائع، الذي ربطته به علاقة إنسانية خاصة تختلط بصدى صوت الصبية الذين يزفونه كل صباح وهو يضحك ويوزع أرغفته، ويغني معهم: «يا رفاعي يا بتاع العيش .. خدنا معاك ودينا الجيش”.