تغير العلاقات تحت شجرة العائلة

تغير العلاقات تحت شجرة العائلة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أمجد ريان

في نزوع أمومي بلغة الفلسفة تعبر قصائد (أحمد يماني) في ديوانه الجديد الصادر منذ أيام (تحت شجرة العائلة) عن حالة من الكمون، وانتقال من الفضاء والأفق نحو البيت، ويصبح البيت مركزا للتجربة، فنجد لدينا حركة عكسية لرأس السهم، فبعد أن كنا في التجارب السابقة نطالع تجارب شعرية تنطلق من الذات الى الخارج، سنتعرف هنا على تجربة تتجه في الطريق العكسي لتصبح الذات (بالمعنى الشخصاني) مركزا للتجربة الشعرية.

يكتب الشاعر ما يشبه السيرة الذاتية من خلال منطق مختلف يطرح معنى شديد الالتفاف حول الاهتمامات والملاحظات والايماءات الشخصية، متضمنة تشبثا بالطفولة من ناحية، وتأملا لعالم جديد غزته قيم ومضامين جد مختلفة من ناحية أخرى، ويجتاح الديوان احساس بالضعف والهشاشة، الاحساس بعطب العالم دون أن يشي هذا بانتقاد ايديولوجي، ودون أن يتضمن نزوعا ثوريا بمعنى أو بآخر، فالكتابة تشير ببساطة الى أن هذا هو عالمنا الجديد الذي يشيع فيه كل هذا الضعف والخلل حيث ينقل الشاعر الى (دار للأيتام.. حيث الرعاية المتكاملة لشخصي الضعيف).

تنتقل الثقافة اليوم الى مرحلة جديدة يتحول فيها الخطاب المتجاوز متعدد الدلالة الى خطاب الشهادة والمعايشة، حساسية الكتابة اليوم تطرح قضايا ذات طابع مختلف عما كنا نعرفه طوال العقود الماضية قد نفضت الكتابة عن كاهلها كافة المنظورات الفكرية والجمالية السابقة لأنها لم تعد قادرة على أن تثق في فعاليات فقدت مكانها من خلال التطور المطرد لحياتنا اجتماعيا وعقليا.

لم تعد هناك حاجة لكي نصادق العالم ونثق فيما سيعطيه لنا فنظل نستجديه بشكل عاطفي ورومانسي، كما لم تعد هناك حاجة لكي فحارب العالم فندخل غمار صراعات ايديولوجية خاسرة منذ البداية فلا تعود علينا الا بالوبال.

ولكن الكاتب اليوم يطرح العالم بما هو عليه، يتأمل خصائصه التي تغيرت تغيرا شديدا يصل الى حد الجذرية.

تندرج كتابة أحمد يماني بجدارة في منطق الكتابة الجديدة مع ملاحظة هذا الكم الكبير من التنوعات بين الكتاب والشعراء، وإذا عقدنا مقارنة سريعة لمجرد التمثيل فيمكننا أن نشير الى ميل تجربة شاعر مثل محمد متولي نحو الحداثة المابعدية، فالذات في هذه التجربة تتوارى الى حد بعيد وتختفي حدود موضوع بعينه في النص، أما عند يماني فالمسألة تختلف، لأن كلا من الذات والموضوع مازال لهما وجود بارز يتنوع بين نص وآخر وإن كانت الذات هنا تخلص من الجماعية بل والفردية وتصل الى ما يمكن أن نطلق عليه الذات بالمعنى الشخصاني.

ويملأ الديوان احساس بالانشاد وهناك باستمرار امرأة منتقدة:

ماتت حبيبتي.. وكان الليل أزرق

يلكزونه بكلمات عن حبيبته التي ذهبت

 ما إن يرتاح.. حتى تخترقه أغنية حبهما الأولى.. وهو بعيد في عربة ميكروباص

وفي تأمل ممتد يغطي صفحات الديوان نرى أن هذا الوصف المحايد لما أصاب العلاقات العائلية من فتور وتفسخ وافتقاد للمعاني الروحانية للتجمع العائلي التقليدي:(القطط تعوي في أخر الليل / كأبناء العائلة الصغار/ حيث يبحثون جميعا وفي وقت واحد/ عن لعبة قديمة تهشمت لم والرجل العائد الى البيت / بعدما صفى مأساته / في عصارة حديدية انتجت آلاف الأكواب بلا ملل).

وترصد التجربة تجاوز معطيات الماضي التي لم تعد لها قيمة في حياتنا الجديدة وتتعدد الرموز التي توحي بهذا المعنى، فالفتاة تفرغ حقيبتها على أقصى الذراع لكي تطير علب الماكياج وجواز السفر والأوراق الكالحة التي على وشك الذوبان، وفي قصيدة أخرى يلقى هو بكل ما يملك من أشياء ويردد: (لنبدأ الحياة من جديد)، إن شرط بداية الحياة إذن هو إلقاء كل الأشياء والمعطيات التي ارتبطت فعاليتها بالماضي.

لا يبحث الشاعر عن مصير الآدمية ولا يتحدث عن حلول كبرى لأزمات الانسان. بل هو يبدأ من الأشياء الصغيرة النسبية، ويبدأ من أصفر التفاصيل الجزئية وأبسط لحظات الحياة حيث تتوالى في القصائد معطيات يومية متصلة، فيما يمكن أن نسميه بميل نحو أيديولوجيا الأشياء الصغيرة داخل هذه السيولة من مفردات الحياة المعيشة بشكل تلقائي، كما إن الحسية لها الغلبة في الديوان كله بما يقي بافتقاد الثقة في كثير من المعاني المعنوية كما يصبح من الواضح أن هناك لغة جديدة للجسد كأن الجسد هو الذي يفصح ويتفاهم ويفعل، وهناك مقطوعة كاملة في القصيدة الأولى عبارة عن حوار جسدي مع فتاة أمام مرآة، هي تقف على أصابعها كباليرينة ستعتزل قريبا وهو يحمل صورتها فوق ظهره في كل مرآة يدخلها.

ومن الملامح المهمة في ديوان أحمد يماني تقمص تيمات عديدة فلم يعد الشاعر مندرجا تحت تصور وحيد يدفع بدعاء المضمون الموحد في الكتاب طه، ولكن الكتابة اليوم تلعب بالقناص وتطرح تجاورا هائلا لمتيمات متعددة، كدن الشاعر يلعب بها حميها أو يعيشها جميعا، ويجسد النص الأول في الديوان هذه القضية بوضوح، وتحت عنوان (أغنيات) هناك سبع مقطوعات مرقمة، تكاد تشيع في كل مقطوعة لعبة مختلفة أو تيمة مختلفة، هناك مقطوعة تطرح تيمة الحرب والجنود، وتكاد تمثل حربا كوزموبوليتانية غير محددة بزمان أو بمكان، ومقطوعة تالية تطرح تيمة التلميذ العاشق أمام باص مدرسة (القلب المقدس)، وأخرى تطرح تيمة الحياة العائلية القروية ثم تيمة المحب المثقف ابن المدينة وتيمة الحب الأسطوري المقدس وهكذا.. لقد تجاوزت عشرات المتيمات التي تطرح شوق الشاعر الجديد الى معايشة كافة التجارب الانسانية السابقة فهو لا يكتفي بالانحصار في احداها أو الانتماء الى احداها، الشاعر الجديد يريد أن يعيش الحياة كلها بكل مستوياتها وبكل عناصرها.

أوضاع بعينها اقتصادية واجتماعية وثقافية هيأت لنموذجنا الفكري أن يتبنى في حلقاته الأخيرة مشروع الحداثة فكريا وثقافيا وإبداعيا، هذا المشروح الذي لم يكتمل بل نستطيع أن نقول: إنه ظل في بدايته حتى النهاية في إطار الخلل الذي أصاب مختلف المشروعات الاصلاحية منذ أواخر الستينات، بعد استلاب البورجوازيات العربية، واستحثا ام الطوق الامبريالي، فصارت هناك تناقضات صارخة لا سبيل للافلات منها الا بنقضها كلية.

لم يكن المشروع التحديثي نابعا من ظروف الواقع، ولكنة كان فعلا تعويضيا، واحتجاجا سلبيا على هذا الوضع التاريخي الملغوم، وهونا في رضه يشبه في شكل من أشكاله ذلك الوضع الذي قال به (هنري لو فيفر) وهو يتأمل الحداثة الغربية:

جزء من الثورة يتحرك بالمقلوب داخل العالم المقلوب) إنه كاريكاتير الثورة يتمرن داخل سوسيولوجيا السأم الحديث).

لقد كانت الأولوية في تجربة الشعر السبعيني، إنما تنصب على الموقف السياسي، حتى لو كان الموقف السياسي المضاد، وفي هذا بالطبع تهميش للسؤال الشعري، وإثبات للفعل السياسي بعده المالك الوحيد للحقيقة، صار الحديث السياسي يفرض نفسه على النص كحقيقة مطلقة، صار يأسر الشعر، ويعوق التحولات الابداعية، ليظل الموقف ونفيه عملية وهمية مستحيلة، متضمنة لوسواس سياسي قاهر، لقد انفعل الشعر السبعيني بالتاريخ ولكنه لم يتفاعل معه، كان النص الشعري يعيد انتاج التاريخ ولكن لا يعمقه، وهكذا ظلت هذه التجربة تطرح ش معر الانتظار بمعناه المطلق الميتافيزيقي.

كانت اللغة تجبر شعراء القرن العشرين على بكاء الأطلال، والكتابة على الورق بقوانين الشفاهة والانشاد التقليدية نفسها، لغة صنعتها ذاكرة العصور التاريخية بكل أمجادها القديمة، لغة تجبر الشعراء على البحث في كشف سرها، أي التوقف قبل البدء لمعرفة طبيعة العلاقة المشتبكة بين الجسد والعالم، بتلجيم هذه العلاقة، حتى أصبح هذا الشعر يبدو وكأنه يلوح في المكان أو يطفو غافلا فوق ليل من العلاقات المهترئة.

لم تقع هذه التجربة في الحيرة التي لا تستطيع الافلات منها فقط، بل أفلست عمليا أفكار التحديث، برمتها، تلك الأفكار التي نقلها لنا الليبراليون، ودعاة العلم المحايد والظواهر المستقلة، وكما عند (ديبور) في إطار مناقشته لعزل الابداع في تشكيلات تحميه من التاريخ، يرى أن الاستهلاك الاستعراضي يحفظ الثقافة الماضية المجمدة من خلال التكرار المستعاد لتبدياتها السلبية، بما يتضمنه هذا من توصيل ما لا يقبل التوصيل، من حيث التشكيل الصارخ للغة، ان التدمير الصارخ للغة بوصفه قيمة ايجابية رسمية ولكن المقصود هو إعلان المصالحة مع الوضع السائد، بينما يتم بابتهاج إعلان غياب كل تواصل.

ينتقد (ديبور) الوضع الحداثي الذي يجعل التاريخ منسيا بعزل الابداع من كل سياق، فتعلن المدارس الأدبية الجديدة من خلال أنشطتها (الجماعية في الغالب) أنها تتأمل الكلمة لذاتها او تسعى من خلال تكتلاتها الجماعية المتعاضدة تلك، لتشكيل محيط فني جديد مركب من عناصر منحلة بأسلوب التهجينات التقنية، انه المشروع العام للانهيار، ذلك الذي وصفه البعض، بأنه إعادة البنية دون جماعة انسانية.

بدأت السوسيولوجيا تركز النقاش على شروط الحياة التي نتجت عن التطور الحالي، وعلى الرغم من أنها جمعت قدرا كبيرا من المعطيات الامبريقية، فإنها لم تدرك حقيقة موضوعها ذاته، لأنها فيما يرى (ديبور) لم تعثر فيه على النقد المحايث لها. والنتيجة هي أن الاتجاه الاصطلاحي المخلص لهذه السوسيولوجيا يلجأ الى الأخلاق والحس السليم ! وهي نداءات تخلو من الدلالة بالنسبة للمقاييس العملية، لأن هذه الطريقة تخلو من السلب الكامن في لب عالمها وهي لا تفعل سوى الاصرار على وصف نوع من فائض القيمة السلبي يبدو لها منزعجا على السطح بشكل يبعث على الأسف، هذه النية الطيبة الناقمة تنتهي بتوجيه اللوم الى العواقب الخارجية للنسق فحسب، لأنها تتناسى الطابع الدفاعي لافتراضاتها ومنهجها.

نشهد في هذه الآونة الاحتفالات المختلفة في محاولات مستميتة للايهام بالتماسك في ظل ظروف موضوعية بدأت تعصف بالهياكل والمنظومات والرؤى القديمة، في مقابل معطيات الجديدة، تشير الى واقع يولد على أنقاض الماضي. ويهاجم شعراء مرموقون صفار الشعراء بقسوة ويتحججون بأن قصائد هؤلاء الصغار تملك حسا جيدا ولكنها تفتقد شروط الشعرية ! قاصدين بهذه الشروط تصور هم الذي يريدون تأييده بشكل مطلق، في واقع لم يعد يحتمل هذه الشروط.

اننا نتساءل ببساطة عما يدور حولنا: لماذا هذه الموجة من عصيان الشباب، ولماذا هذا التفكك الأسري، ولماذا يلح القاصرون على تجاوز القيود الاجتماعية والقانونية ولماذا يحس الجميع بأنه ينبغي أن ينكسر الطوق البرجوازي التقليدي الذي يحاصر كينونة الفرد، بكل ما يمتلك من رغبة

في التحرر من ضغوط الآلة الاجتماعية التي تشبه الدوامة، ولماذا تنتهي قصيدة يماني في ديوانه السابق باحتراق المنزل، وطيران السجاجيد المشتعلة، والأوراق المخترقة، واختفاء الذات القديمة:

احترق منزلنا

الأبواب لم تعد تقفل على شيء

السقف يغطي هواء من

الذكريات

وفي هذه الشساعة

لن تكون لساعة أية فائدة

حيث سأعرف الوقت عندما

انظر الى نفسي

العراء خارج المنزل

يشبه إصابتك بالصداع

المنزل

النيران

الموت

أنا أختفي في قلب العالم

لماذا تستهلك الفئات الواسعة اليوم النتاجات الثقافية الرخيصة والمبتذلة، وأغنيات الكاسيت السطحية، هل تبحث عن أنماط ثقافية تغاير الأنماط السائدة،. وكأن هذه الفئات مضطرة الى مساءلة قناعاتها السابقة، حيث تفقد الثقة في مدى أهمية رسوخ الأنماط السائدة في مسلمات الفرد والجماعة، في إطار افتقاد الانسان الاحساس بانتماء كبير، بعد سقوط الفكر والثقافة في تشظ لا نهاية له، لمخل ذات تختبر نفسها على حدة ولا تكف عن التمرد على نفسها وعلى الآخرين في حس اغترابي ممتليء بالبرودة، برودة الحياة والثقافة برودة القلم في يد الشاعر، ولكن لا شيء سيدفئه سوى ضغط الأصابع عليه، الدفء الذاتي النابع من أعماق الذات وحدها بإمكانياتها الخاصة لا الامكانيات المستعارة من خارجها، الذات وحدها هي القادرة على الفعل:

القلم بارد في يدي

لكن كثرة ضغطي عليه ستدفئه

أعرف ذلك،

يسعى الشعراء اليوم الى خلق تقاليد جديدة، وهناك سمات خاصة يتميز بها التغيير المجتمعي، والعلاقة بين التقاليد والتحرر تطرح الآن بشكل واسع، وهناك انتقال واضح من الثقافة المهيمنة الى الثقافة الصاعدة، ونستشعر الآن بجلاء الفرق بين الثقافة النظرية المستتبة، والثقافة كما تنتج وتمارس وتعايش، الثقافة النظرية المستتبة هي جزء من النظام المستتب الذي يتشبث باستمراره، من خلال محاولة فرض رؤاه فرضا من خلال الابقاء على العنا هو القابلة للقياس، ونمذجتها بضراوة، العناصر القابلة للقياس والتحديد،، بحيث تقوم المشروعية السلطوية على أساس جعل النظام أكفأ أداء، وأدق أداء، من خلال الشعار الصارم كن جاهزا للعسل أي قابلا للقياس، أو اختف والاختفاء هنا هو دليل عدم تجانس مع النظام العام، ولت اختفى أحمد يماني فعتلا في آخر المقطع التالي من ديوانه الأول عندما لم يتمكن من أن يتحول الى مسمار منضبط في ماكينة مصنع الكرتون:

في الصباح قررت أن أنهض

باكرا

وأضع كل قدراتي العضلية في

مصنع الكرتون

العمل مرصوصون أمام

بعضهم، رائحة الأوراق،

رجل هائل في المقدمة يصرخ

بانتظام كل دقيقتين،

أوكلني بجمع الكراتين

الكبيرة، قبل ان يتم.

انزلقت قدمي الى الخارج

ولأكثر من ساعة، رحت أعدوا

في الغيطان

المجاورة

يختلف هذا النموذج بالطبع عن النموذج الشعري في مرحلة سابقة، عندما كان الشاعر يفتخر بتأكيد قيمة العمل داخل سياق المشروع الهيكلي الكبير، الشاعر السابق كان ينتظم داخل التروس الدوارة، في الآلة العملاقة، أما يماني فهو يهرب الى الحقول المجاورة باحثا عن خلاص الذات وخصوصيتها بعيدا عن أية مشاريع كبيرة.

نعيش اليوم هذا التغيير الاجتماعي والثقافي الهائل الذي يمر به واقعنا في سياق وضع عامي جديد، تتوازن فيه القوى بشكل مختلف، نتأثر كلنا بهذه الهزة العنيفة التي ضربت الفكر، وضربت المشروعات القومية الكبرى، وبعد أن اختلف فهمنا لمعايير السلطة والاقتصاد والسلعة في اطار التنظيم والتشغيل والتقنية العالية الفارغة من محتواها، بالرغم من السياقات التراكمية الشكلية، فائقة النمو، في الوقت الذي تركد فيه العلاقات الانسانية بين البشر، ويشعر الانسان بالشتات والضعف، يفتقد أي شيء يمتلكه ويحاول أن يؤمن نفسه، من خلال إحساسه بالتفرد.

هناك ورطة أزمة شاملة، ورغبة جذرية في تغيير الحياة، ورفع قامة الانسان وتدمير المتعاليات المسيطرة، والتي لم تعد سوى آثار بائدة، وفي هذا الاطار سيبحث الفرد عن الشيء الذي يخصه تماما، يبدأ من خط له رحلته التي تخصه في طريق جديد، يبحث عن حدود ذاته وفي المقطع الأول في احدى القصائد، يدفن الشاعر في جوف كل صديق سرا مختلفا والسر هنا هو الشيء الخاص الذي تمتلكه الذات تماما، والسرية هنا التي هي الخصوصية هي سبب سعادته التي يحققها في عالم يسير بعيدا عنه بـ23 سنة من الدوران حول الذات في حياة رتيبة تبعث على الملل واليأس:

شخير أمي الخارج

يجعلني أعيد التفكير كثيرا،

أفكر في رتابة يومها وأنها

مازالت

تصنع الطعام كل يوم

وأننا مازلنا نأكل ثلاث مرات

وهناك بحث عن خلاص الذات يأخذ صورا أخرى، فالشاعر يريد أن ينام وحيدا، ويبحث عن لحظات خاصة للبكاءه الداخلي وهكذا.

الذات قلقة حائرة تتعرض لتقلبات الشعور الحادة (ولماذا في لحظة واحدة) أحببت صديقا لم يكن يعنيك أبدا أن ترده / لابد أن شيئا آخر غير البيولوجي والسيكولوجي، شيئا لا تعرف أن تسميه هو ما تفكر من خلاله) إنه شعور بالحيرة يدفع الى العبثية، في لحظات يمارس فيها أشياء لا تعني أحدا، بل قد لا تعنيه هو ذاته في لحظات أخرى، كأن يبتسم لنفسه في مرآة الحمام، أي حمام أو مثلما يقضي وقتا طويلا يعبث بمفاصل باب الغرفة، ويتحرك معه، ويتذكر كيف فشل في تحريكه في الشتاء، أو يقتل عشر ذبابات بعد أن ظل يطاردها لأكثر من ساعة، أو في ممارسات عشوائية أخرى، كيفما اتفق:

وعندما ينادي على صديق ما

أيا كان ترتيبه في قائمة محبتي

اذهب إليه

وفي قلب كل هذا، ستظل (الأنا) محور الوعي، ستظل مركز النص، تتفاعل مع كافة تفاصيله، ومعطياته وعلاقاته في كل سطر، بل تنتهي قصيدة (هواء توقف أمام البيت) العملاقة بمقطع طويل عنوانه (أنا) كما لو هانت الأنا تمثل قاع النص الذي يستند اليه البناء كله.

الشاعر الجديد يرفض اليقين الجاهز، والتقنين السابق، ويبدأ من النسبي: من الجزئي والتفصيلي، من المفكك، وليس من المركب المجمل، يبدأ الشاعر من السؤال وليس من الاجابة، لا يعرف سوى قدرته على السؤال، ولا يثق إلا في قدرته على الشك.

يبدأ الشاعر من أصغر الأشياء التي يمتلكها ومن تفاصيل جسده وحسه، ومن تفاصيل حياته اليومية، لذلك فالشاعر صار بريئا في تعامله مع الأشياء، ويبدأ من البداية دون توجيهات معرفية أو فكرية أو جمالية سابقة، يقتحم المنطقة البكر في العالم والفن، ويطرح رؤية تنطوي على علاقات قوة جديدة مضمرة، بعد أن تحللت أكثر القيم رسوخا، وبدأت المرجعيات الاجتماعية والثقافية المختلفة تؤثر على الخطاب الشعري، في الوقت الذي يستفيد فيه هذا الخطاب من كافة الفنون الأخرى: أدبية وبصرية وصوتية وحركية، حتى كادت تختفي الحدود بين الأجناس الفنية، بل وتختفي الحدود بين الحياة والفن.

اللغة الشعرية الجديدة تختلف عن اللغة الشعرية القديمة سواء أعانت تركيبية أو إشارية أو وصفية، لأن اللغة الشعرية اليوم لا تستجيب للتوجيه السابق، فهي لغة بدئية، تدشينية، لا مكان فيها للمجاز اللغوي السابق الذي كان يخدم قضية التعدد والتكثير، والنص الآن يتعامل مع الشيء في حياديته ونقائه ولا حاجة له لهذا التعدد أصلا، بل هو يسير في الاتجاه المضاد له تماما.

لم يعد هناك مكان لفكرة الانشاد في الشعر، هذا المفهوم المرتبط بوضعية اللفة العربية نفسها في الأزمنة الماضية، صرفيا ونحويا وصوتيا بل كيانيا، وأصبح التوجه الشعري مرتبطا باللغة المعاصرة التي قبض عليها النثر أكثر مما فعل الشعر، ومن هنا نفهم خفوت الجانب الصوتي والموسيقي، بل انتهاءه تقريبا في القصيدة الجديدة.

ينبض شعر يماني بالرفض للسلطة الثقافية والابداعية السائدة. ويستخدم السرد بتمكن عال يغزو من خلاله مجتمع الصورة الذي نعيشه، يتقدم السرد عنده على مسار واحد دائما، في جمل قصيرة مفتوحة، وبساطة السرد عنده لا تعني أن البنية السطحية هي حاملة المعنى، لأنها وسيط استيلاد المعنى وإذا كان المعنى في قصيدة السبعينات ظل زلقا واحتماليا، يشم ولا يفرك، من خلال تقديس الزمان النحوي لجملتي الخبر والانشاء، ومحوري النفي والاثبات، فإن المعنى السردي في القصيدة الجديدة يصبح غنيا متنوعا، غير محكوم،لقواعد السابقة، وغير قابل للتصحيح والمفاقهة.

ظل الشعر السبعيني فنا صوتيا، ظاهرة صوتية يشكل الصوت فيها بعدا أساسيا الصوت هو القاعدة، والبصرية هي الاستثناء، لقد ضبط السبعينيون إيقاع الشعر، كما تضبط النوتة ايقاع الموسيقى.

تمكن الشاعر في إطار حركة جيله من العثور على منطقة شعرية جديدة، تلتقط مادتها من اليومي والشخصي والعادي، لكي تسد الثغرة بين التاريخ، أي اللحظات الأساسية في التطور الاجتماعي من جهة والعابر والجزئي والنسبي في حياتنا من جهة أخرى، هكذا يشيد الشاعر وسطا جديدا يبرهن على تحول ايديولوجي استراتيجي، بداية من أبسط ما نعيشه واقعيا، وما ننطق به في لحل لحظة.

يجعلنا الشاعر فنثقل من أجواء الفانتازيا، والأسطورة والمجاز اللغوى الكثيف الى أبسط تفاصيل حياتنا، الى نكهة الوجود الواقعي الطازج، والى حديثنا اليومي الذي نكشف خلف بساطته انه متقطع ومكون من أجزاء متقابلة ومتقاطعة، ويا للدهشة فالشاعر يصدمنا بعنف عندما ينقلنا الى الحياة، كما لو كنا غائبين عنها. ينقلنا الى الكتابة التي تعبر عما ولد توا كل شيء فيها ممكن.

هي الحياة اليومية بثرائها الفادح ومفرداتها اللانهائية التي لا مركز لها، يجد فيها الشاعر ثروته الضخمة التي تمنحه مطلق الحرية، لأنها لم تخضع بعد للشروط الاجتماعية والايديولوجية.

السخرية عند يماني لا تكتفي بالسخط بل هي تطرح التحدي، وتأكيد النداء الانساني في قلب العالم الصامت، بعد أن صار الانسان يتعايش بدلا من أن يعيش، تحول الى ماكينة بيولوجية ا تفتقد معنى الوجود الآدمي، الشاعر قادر على احداث التقاطب بين أصغر التفاصيل التي يحتقرها العرف من جهة والمعين الكبير الذي يطرح معاناة الوجود من جهة أخرى.

عندما يقول الشاعر: (حواسي متفتحة جدا، ومستعدة لالتقاط ما يدور حولها). فهو يبرز خصيصة أساسية في التجربة وهي التركيز على الجانب الحسي الذي يجسد أهم ما يملكه الشاعر بشكل خاص، مما ينسجم مع التوجه الكلي للتجربة التي تبحث عن الخصوصية والتفرد والاستقلال عن العام والمتشابه.

ومن الطبيعي أن يكون للجسد في هذه اليقظة الحسية العارمة مكان مهم، فالجسد بؤرة كثيفة ينطلق منها الحس بكل مستوياته، والجسد هو الكيان المادي الذي يواجه به الشاعر عالمه.

يريد الشاعر أن يكسر غموض الجسد أو يكسر المعرفة الضبابية عن الجسد كما قال لوبروتون، هذه المعرفة المنقطعة قهرا، يتلقى الانسان اليوم شيئا من المعرفة البيوطبية على مقاعد المدرسة الثانوية من خلال النظر الى، الهيكل العظمي والخرائط التشريحية في قاعات الدرس ولوحات الكتب المدرسية، أو من خلال المعارف المبتذلة التي يتم تبادلها يوميا بين الجيران والأصدقاء، أو من تأثير وسائل الاعلام، ولكن هذه المعرفة تبقى منقطعة عن النفس، فلا يعرف الانسان جسده حقا، وينقطع كل ما يملك أن يمارسه الجسد لأنه لابد أن يبقى في الداخل السري المكبوت.

ولا يطرح الشعر معاني تجريدية عامة تتعلق بالجنس، بل تكون في شعره بصدد وقائع وتجارب مباشرة، فالمسألة ليست مسألة فلسفية عابرة، بل هي مشكلة عميقة ذات مستويات تاريخية ومجتمعية ونفسية، وعندما يعبر الشاعر عن حقائق تجربته الشخصية، بهذا الوضوح، فإنها تفقد طابعها السري لتعبر عن حقائق جمعية، وعندما يتأملها المتلقي بصراحتها وبساطتها فهو يتأملها في نفسه بالدرجة الأولى.

المرارة الشديدة التي يطرحها الديوان، تعبر عن الحنين الى التواصل مع الكون، مع الواقع، مع الآخرين، في مرحلة لم يعد فيها وقت للانسان لكي يكتشف صفاته الآدمية، أو يمارس الحياة الحميمة مع نفسه ومع الآخرين.

لا يحب الشاعر أن يدفن وحده بل يريد أن يموت وسط الصخب والحياة الممتلئة والهواء الذي يتوقف أمام البيت، عنوان النص يشير الى هذا الجمود، لا حركة ولا تفاعل هناك عزلة انفرادية لجعله مضطرا لمصاحبة صديق لم يكن يعنيه أن يرده أبدا إنه يريد أن يتفاعل مع الآخرين، مع أي شخص، يريد أن يمارس أية علاقة تطمئنه الى أنه انسان يمتلك حق الآدمية والفعالية الاجتماعية:

وعندما ينادي على صديق ما

أيا كان ترتيبه في قائمة محبي

اذهب معه، أضحك كثيرا 

وأعود بعد يوم، أو في آخر الليل

حاد بالعزلة، والانفرادية بالرغم من الزحام في الشوارع والمدن والمباني في المجتمع البشري الخاوي، هو وحيد وهراوة الوحدة تكاد تقتله أو تصيبه بالجنون، هي وحدة عدم الاتزان بين آدمية الفرد والعلاقات الآلية من حوله، فينتابه شعور بالكآبة حين لا يجد ما يؤمن به أو ما ينتمي اليه.

تتأمل تجربة يماني بقوة هذه التغيرات التي تمس كلا من المجتمع والانسان وتتأمل هذا التفسخ للتكوين العائلي بمعناه الروحاني التقليدي دون أن يعبر هذا بالضرورة عن ميل انتقادي أو ايديولوجي تشكل عام. لقد احترق البيت في احدى قصائد الديوان الأول، وتحطم وصار أطلالا في إحدى قصائد الديوان الثاني، وهذا يشير بشكل أو بأخر الى طبيعة التغيرات العنيفة التي حلت بواقعنا في العقدين الأخيرين. ولكن من المهم أن نشير الى أن البيت هو مركز التجربة الجديدة، فالشاعر طوال التجربة الماضية كان ينطلق الى الأفق والى الفضاء والى ما هو أبعد من ذلك في حركة سهم تتجه من الداخل الى الخارج أما يماني فقصائده تمارس الحركة العكسية للسهم كما سبقت، الاشارة، كل ما هو بالخارج يتجه الى الداخل، لقد انعكست حركة السهم لتشير الى هذه التجربة الأمومية الرحمية التي يصبح البيت فيها مركز الوجود ويصبح السرير الذي هو رحم دائم يحيط بالانسان الشبيه بالجنين، يصبح مركزا داخل المركز لقد عبرت حركة الفكر والثقافة والفن كله عن توجه جد مختلف عن تراثنا القريب برمته، وعبرت التوجهات الكمونية عن فلستة جديدة ذات طابع يتغلغل في كافة ظواهر الحياة، بعد أن تفتت فيها كل مركز صلب وكل كيان ملتف حول نفسه لم يعد هناك مجتمع مغلق، ولم تعد هناك عائلة متماسكة ولم تعد هناك ذات مقفلة، الذات نفسها تتشظى لتمارس عشرات الحيوات في كل يوم، مثلما يمارس يماني في بداية ديوانه الثاني حيوات متعددة من خلال تيمات متعددة.

ـــــــــــــــــــــــــ

مجلة “نزوى” العدد 18

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم