“زجاج معشّق” هوعنوان أحدث روايات مسعد الصادرة عن دار ميريت. تتعامل روايات هذا الروائى بجرأة مع عالم الغريزة المسكوت عنه، وفى عمله الجديد ما يقترب من الدراسة النفس/ جنسية لرجل كهل اسمه رمسيس شاروبيم النقادى قرر أن يكتشف رغباته وهو على مشارف الستين، أراد أن يقتحم كهف أحلامه السرية المنسية، وأن يرسم بالكلمات فانتازيا الرغبة، يصف نفسه فى أوراقه بأنه ممسوس بالجنس، تظل هذه الغريزة دوما تعبيرا عن الحياة فى ذروتها، خط الدفاع الأخير فى مواجهة الموت ، قرر رمسيس ربما بدافع الملل أن يتعرّى نفسيا على الورق، أن يحقق حلمه باستدعاء عشتار إلهة الحب والجنس والجمال من جديد الى العالم، أن يكون كاهنا فى محراب الجسد، وأن يستمتع بعبودية الأنثى كما كانوا يفعلون فى الحضارات القديمة، إنها الإله المنسى على الأرض، بل إن المترجم أخذ خطوة أبعد فى اكتشاف لذة الخضوع بداخله، أراد تحليل العلاقة بين اللذة والألم.
اختفى العجوز الذى يعمل مترجما بعد أن باح لأسراره لجهاز الكمبيوتر، وصلت اعترفاته لصديقه الكاتب الذى قرر بدوره أن يحقق ويعلّق ويكمل اعترافات صديقه، نكتشف تدريجيا أن الكاتب يقوم بدور الراوى العليم من خلف الراوى المخادع صاحب الإعترافات المبتورة، رمسيس والكاتب صديقان من المرحلة الإبتدائية، كانا رفقاء السجن بسبب إنضمامهما الى تنظيم شيوعى بحثا عن العدل، الكاتب أصبح مؤلفا معروفا، وهو الذى تجمعت لديه حكايات صديقه العجوز. تتركزحكايات المترجم بالأساس حول علاقته بفتاتين: إحداهما عبر العالم الإفتراضى أطلق عليها اسم غزال، فتاة مجهولة تحرّضه على كتابة رواية إيروتيكية بدلا من ترجمة تلك الروايات كما كان يفعل، من هنا يبدأ فى دخول كهفه السرى، والثانية علاقة مباشرة مع امرأة أرملة أطلق عليها اسم المهرة أو عشتار، علاقتهما معقدة، فتح أمامها أبواب اللذة، وفتحت أمامه باب الفانتازيا والرضوخ، وجد فيها ذلك المزيج الأنثوى الأسطورى الخالد، بشر وحيوان وإله، امرأة تتحول الى مهرة ثم تصبح إلهة مثل عشتار.
بناء الرواية مذهل، عدة أصوات متداخلة تحكى: المترجم يمارس البوح العارى أمام شاشة الكمبيوتر، يكتب مناماته وتأملاته وتفاصيل علاقاته ولمحات من ماضيه، يعترف بكراهية البشر واحتقاره لهم، يتحدث عن أسرته الفقيرة، عن عمله فى أوربا وفى نيويورك، عن اكتشافه للسادية وللمازوخية، صديقه الكاتب يعلّق، يملأ الفجوات، يستعير أدوات كتابة السيناريو، ليل داخلى وإظلام، نكتشف أن الكاتب يعرف زوجة المترجم، ويعرف عشتار، وأنه شريك للمترجم فى تجاربه الجنسية الأولى، تقتحم عشتار السرد لتعترف، تتداخل مقتطفات من رواية إيروتيكية كتبها المترجم بإيعاز من غزال، هناك أيضا هوامش طويلة للتعريف بمصطلحات يستخدمها علماء الأمراض النفس/ جنسية، تعليقات حول السادية والمازوخية والفيتشية والتلصص، لدينا نص مكتوب، ونص آخر مواز، نكتشف ملفات مخفية، تُسجّل جملٌ كتبت وقام الكاتب بإلغائها، اعترافات للكاتب تتقاطع مع اعترافات المترجم، أنت بالضبط أمام رواية تحاكى فكرة الزجاج المعشق: قطع صغيرة متجاورة يفترض أن تكوّن فى النهاية لوحة واحدة، شظايا من حياة رجل ورغباته، تبدأ الحكاية بالبوح، وتنتهى بالطيران الذى يكاد يكون مرادفا للموت، الجسد على الأرض يشد الكاتب الى زوجة رمسيس المختفى، والأجنحة تحمل المترجم الى السماء مثل اللقلق بعد أن حقق بعثه الأخير مع عشتار معاصرة. سؤال الرواية ليس فقط عن الحب والرغبة الجنسية، ولكنها تتساءل عن تلك الكهوف المنسية بداخلنا، المترجم الذى عاش فى أمريكا وأوربا، والذى ترجم عشرات الكتب عن آخرين، والذى تزوج وأنجب بنتين، لم يكن يعرف إلا أقل القليل عن نفسه ورغباته، وصديقه أيضا اكتشفه من خلال تلك الاعترافات، عشتار أستاذة علم الأجناس لم تكن تعرف جسدها ولا رغباتها ولا حتى الرجل رغم أنها أرملة فى سن الأربعينات . كل شخصيات الرواية تعيد اكتشاف كهوفها السرية فتندهش هى مثلما نندهش نحن، تصبح غزال و مرام بطلة الرواية الإيروتيكية للمترجم وعشتار أو المهرة ثلاثة وجوه للأنثى الحلم، ماذا نعرف نحن عن أنفسنا؟ وماذا نعرف نحن عن الآخر؟ هذان هما سؤالا الرواية الكبيران، الجسد حاضر بقوة ولكنها رواية تستفيد أيضا من علوم النفس والإجتماع والدراسات الجنسية عن الإنسان والحيوان أيضا، عمل ينحاز للأنثى كأصل للحياة، بعد أن صارت إثر عدة قرون طويلة من الإضطهاد فى موقع المفعول به، رواية مركّبة للغاية كانت تستحق فقط عناية أكبر فى مراجعتها لتحريرها من الأخطاء المطبعية المزعجة.
“زجاج معشّق” رواية تتعامل بالأساس مع الرغبة فى أصلها الأول، تحكى عن حالة عشق تبدأ بالجسد والمادة وتنتهى بما يقترب من المعراج الصوفى، تنمحى الفواصل بين الحب وممارسة الحب، رمسيس شهوانى ورومانتيكى وخيالى فى نفس الوقت، تجمع حكاياته بين خشونة الواقع وفانتازيا الخيال،وكأن شخصا قرر رغم خذلان الجسد أن يسير الى نهاية الطريق، أن يقتحم الغابة التى بداخله حتى النهاية، المترجم يتلصص على الآخرين، وصديقه الكاتب يتلصص على اعترافاته، ونحن نتلصص على الاثنين، حكاية من داخل حكاية من داخل حكاية، مثل تلك الدمية الروسية التى نفتحها فنجد دمية أصغر فأصغر فأصغر، لدينا تنويعات لا تنتهى على نغمة الرغبة، وزوايا للرؤية متعددة الألوان، قطعٌ من زجاج تصنع لوحة مرسومة فوق نافذة، هل تُرانا فهمنا رغباتنا أو أنفسنا أو العالم؟ هل تكفينا أعمارنا لكى نفهم؟ أحسب أن رواية رءوف مسعد التى تصدم بشدة أولئك المحافظين على إخفاء أنفسهم داخل كهوفهم السرية، تنفى بوضوح إمكانية ذلك،ربما نحتاج أعمارا إضافية لكى نعرف رغباتنا وأنفسنا.
لم يتزوج رمسيس شاروبيم من عشتار، إنه فى النهاية نتاج مجتمع تربى على القهر منذ مينا موحد القطرين كما يقول عنه الكاتب، يصف هو نفسه فى أكثر من موضع بالجبن، ولكن رمسيس المترجم المختفى خاض فى النهاية أخطر مغامراته، ترجم أخيرا عن نفسه بعد أن كان يترجم عن الآخرين، اكتشف ذاته عبر الآخر، جعل الجسد معبدا فنبتت له أجنحة، رأى السنتور وعرف عشتار، انفصل واتصل، وحتى إذا كانت المعدية التى حملته بدون معدّاوى، فإنه مشى فوق “جسر الوصل الذى يبحث عنه أهل الوصل فى مطلبهم الدائم للوصال”، ولعله لم يترجم عبثا تلك العبارات إلا لأنها تعبر عنه بصورة ما:” فقط هو المحارب الذى يستطيع البقاء حيا فى درب المعرفة، لأن للمحارب فنونه التى بها يستطيع إيجاد التوازن بين رعبه من كونه إنسانا، وروعة كونه إنساناً أيضاً”، المترجم هو برومثيوس عجوز كان يبحث عن آخر حدود الجسد، فاكتشف أول تخوم الروح، وقد احتمل الألم والعقاب دون أن يتخلى عن أن يعرف وأن يسرق نار الرغبة، ونار المعرفة. رواية “زجاج معشّق” ليست فى حقيقتها سوى متاهة وجودية جديدة تخاصم اليقين، وتُفزع أصحاب القلوب المطمئنة، ولكن من بوابة الجسد والرغبة الجنسية.