د. مصطفى الضبع
ما بين روايتها الأولى “رائحة البحر” (2005) و روايتها الخامسة “أشياء رائعة ” (2010) مساحة زمنية لا تتعدى الخمس سنوات قدمت فيها ريم بسيونى ( [1] ) ثلاث روايات: بائع الفستق (2006)- الدكتورة هناء (2007) – الحب على الطريقة العربية (2009). اجتهدت فى كل مرة أن تقدم نصا له خصوصيته فيما يشكل نطاقا ذا طابع تجريبى (على مستوى تجربتها الخاصة بالطبع ) يمثل ملمحا واضحا لتجربة الكاتبة.
التجربة فى كليتها تمثل رصدا للكاتبة من نقطة أبعد فالروايات جميعها تقريبا كتبت فى بلد الإقامة ( الولايات المتحدة الأمريكية ) وليس بلد المنشأ ( مصر) فيما يمثل بلد الإقامة مكانا للحكى فيه. وبلد المنشأ المحكى عنه وبه بوصفه قاسما مكانيا مشتركا فى كل النصوص. الروايات جميعها تنطلق أحداثها فى مصر وتجمع بين أمكنة متعددة الأساس فيها البيئة المصرية. كما أن الروايات جميعها تعتمد مصر – مكانا- تقنية سردية تنبنى عليها الدلالة الكلية وتستثمر طاقاتها الرمزية فى إنتاج الحكى وما ينتج عنه من تفاصيل من شأنها تشكيل ذاكرة النص المدعمة لرسالته.
مما يشى أن كاميرا السارد المنفتحة على التجربة المصرية سواء فى سياق خاص بها أو فى سياق تجربة مغايرة ( كما فى رواية “الحب على الطريقة العربية” حيث تنتقل البطلة لتعيش التجربة الأمريكية وفق تجربتها العربية مما يطرح نوعا من الجدلية بين التجربتين. وتداخلا بينهما بالشكل الذى يجعل من التجربة الغربية كاشفا للتجربة العربية فى سياقها الغربى). تنفتح الساردة على التجربة المصرية بنوع مغاير من الخصوصية. ذلك النوع الذى يجعل من الكاميرا راصدا للكثير من الوقائع والأحداث الواقعية فى تصوير دال للواقع السردى فى إشارته للواقع الاجتماعى المتعين. ويمكن رصد عدد من الخيوط الأساسية التى تتشكل من:
- مستوى الحياة الاجتماعية والواقع المصرى خارج العاصمة كما رصدته فى ” بائع الفستق “.
- الواقع الجامعى على مستوى الحياة الجامعية والأكاديمية المصرية كما طرحته رواية ” الدكتورة هناء “.
- الواقع العربى على مستوى الحياة الإقليمية العربية كما رصدته فى ” الحب على الطريقة العربية “.
- الواقع المصرى على مستوى الحياة السياسية و الاجتماعية فى ” أشياء رائعة “.
فى سياق ” أشياء رائعة ” تبدو الروايات السابقة منطقة عبور وصولا إلى هذا الواقع كما تطرحه الرواية وعبر مساحات الحركة فى رواياتها السابقة يمكن للمتلقى المتابع أن يساير الخطوط ذات الدلالة والتأثير فى مسيرة الشخصيات بين ظهورها واختفائها لصالح الواقع كما يطرحه النص. ويمكن الاستدلال على ذلك بواحد من الخيوط الجامعة بين رواياتها ” بائع الفستق ” و” الدكتورة هناء ” و” أشياء رائعة ” أعنى خط الفساد أو ظهور الفساد فى المجتمع المصرى من وجهة نظر الرواية. فى الرواية الأولى تطرح الفساد الأخلاقى وفعل الخيانة الذى بدأ ينمو عند الأم. وفى الرواية الثانية تطرح الفساد الأكاديمى الذى يقدم السم مع العسل منبهة إلى خطورة هذا النوع من الفساد فماذا سيقدم أستاذ جامعة فاسد. وهل يكون عليه أن ينقسم بين أستاذ فاسد أخلاقيا وناجح علميا. وفى الرواية الثالثة تتسع مساحة الفساد لتكشف عن مجتمع ليس غريبا عليه أن يضرب الفساد فى كل مناطقه الحساسة. وعبر الصراع المزدوج بين شخصيتين: القبطان مراد والدكتور حازم المهندس ثم صراعهما من جهة أخرى مع أسماء المصرية الأرمل التى تطمح إلى تربية أبنائها وفق مبادئ طبقة أعلى من طبقتها. هنا نكون إزاء مجموعة من القيم المتصادمة التى تتجلى من خلال عدد من العلامات الأساسية فى رسم صورة كل واحد منهم لصالح الرمز كما تطرحه الرواية. وهى قيم دافعة لأصحابها مما يجعلها ليست تتصادم فى ذاتها بقدر ما تتصادم فى محاولة تحققها. إذ هى تمثل أحلاما لأصحابها لتكشف عن بعد نفسى يميز كل منهم ويخلق مجالا حيويا للشخصية منفردة:
- القبطان مدفوع بحلم الخلود.
- المهندس مدفوع بحلم التميز والابتكار.
- أسماء مدفوعة بحلم الطموح وفى قلبها الحب لأبنائها أولا وللمهندس ثانيا.
إنسانيا تتفوق أسماء لأن طموحها ليس لذاتها بقدر ما هو لأبنائها وعندما تقع فى الحب. حب المهندس حازم تجد نفسها تزداد عطاء وتزداد استكشافا ومعرفة بنفسها. وهو ما يجعل منها أيقونة النص أو نموذجه الإنسانى الطامح للحياة.
تقيم الروائية روايتها على خطين متوازيين يمثلان متنين:
- المتن الأول نصوص بعنوان ” من كتاب الموتى والأحياء “.
- المتن الثانى. نص الرواية من حيث هى نص يتشكل من أربعة عشر فصلا سرديا.
فى الخط الأول تندرج النصوص المنتمية إلى ” كتاب الموتى والأحياء ” تلك المتكررة عشر مرات مما يعنى أنها تتصدر عشرة فصول من فصول الرواية ( أربعة عشر فصلا) والتصدر ليس معناه تموضعها قبل عنوان الفصل وإنما هى تتموضع بعد العنوان لتكون سابقة لمتن الفصل ولتكون عنصرا أساسيا فى تشكيله. والنصوص للوهلة الأولى تطرح دلالتين أساسيتين:
- أولاهما: دلالة الانتماء لكتاب الموتى ( [2] ) مع العزف على تنويعة الموت والحياة فى مخالفة واضحة للنص القديم بإضافة الأحياء إلى العنوان. والدلالة هنا تنبنى على تواصل النصوص المدرجة فى تراتبها بوصفها خطا منفصلا عن الرواية وإن جاء فى سياقها والنص الأول من النصوص يضع الأساس أو يأتى بمثابة النص التأسيسى للرواية أولا وللنصوص المدرجة ثانيا، ويضع مجموعة من المفاتيح لقراءة عالم الرواية :” إلى اللص الأول صاحب خطوة المبادرة. أرجوك لا تفكر فى سرقة مقبرة بل فى قراءة جدرانها. فعلى الجدار الأخير ستقرأ عن الثورة الأولى والثانية والثالثة… وعلى الجدار ستعرف كيف يختلج الحب فى القلوب…
وعلى الجدار يموت المرء ثم يبعث مرات ومرات.
وفى بلدنا.. لا نختار المقبرة. وليس لنا حيلة فى كتابنا.
فى بلدنا تقرأ كتابك مكتوف اليدين. وتبحث عن المقبرة منذ الأزل.
وفى بلدنا أيضا تنكشف روعة كل الأشياء ” ( [3] )
والمفاتيح هنا تتشكل من مجموعة من العلامات ذات الصلة بالنص الروائى فى مجمله وفى خطوطه المتشابكة المشكلة لشبكة علاقاته ومن هذه العلامات:
- اللص: ويظل شخصية يوجه إليها الخطاب على مدار عشرة نصوص تطرح صوتين: صوت المتكلم الملتبس ( الكاتبة – السارد العليم بكل شيئ). وصوت المخاطب الموجه إليه الخطاب المتنوع فى طرائقه ( إلى اللص الأول- أيها اللص الأول – أيها اللص- عزيزى اللص الأول – يالص ) بما يوحى بدرجة من الوعى يمتلكها المتكلم يكشف بها طرائق المخاطب ساعيا إلى محاولة تغيير وعى اللص وتحويل مجرى اهتمامه من سرقة المقبرة إلى قراءة جدرانها داعيه إلى المعرفة عبر الاكتشاف. وعلى مدار الخطاب المتعدد يصف السارد اللص بعدد من الصفات الدالة فى مقدمتها ” الأول ” بما يعنى أن وراء اللص لصوصا متعددين وهو ما يشكل نوعا من التأسيس لبناء الرمز فى الرواية وبما يضع فى يد المتلقين واحدا من أهم المفاتيح لقراءة الرواية. فاللص يفتح الباب لإدراك العناصر الخرى المشكلة لبناء الصورة ( المسروق – المسروق منه ) طارحا مجالا لصورة تتشكل من المجنى والمجنى عليهم وخالقا ثنائيا لا تخطئها عين المتلقى فى سياق العالم المسرود.
- الرسالة الموجهة للص: وتوحى بداية أنها مقدمة من شخص يمتلك وعيا تاريخيا واجتماعيا عازفا على وتر له طبيعته الإنسانية وهو ما يتجاوز مجرد الرسالة المجهة إلى اللص المطروح فى سياق النص إلى أشباهه خارج النص أو إلى الذين يأخذون وضعيته فى العالم المحيط.
- النبوءة: عبر مساحة الطرح المدونة على جدران المقبرة تخص الإشارات إلى الثورة الأولى والثانية والثالثة وهو ما يطرح على القارئ إشارات لها مرجعيتها التاريخية يجد نفسه ملزما بربطها بمرجعيته التاريخية ( قارئ الرواية المعاصر لتجربة كتابتها أو قراءتها لا عيرف من الثورات غير ثورة 1919، وثورة يوليو 1952) والثورة الثالثة تعد إشارة استباقية على مستوى الرواية التى نشرت قبيل الثورة بقليل وهو ما يحيل إلى نوع من الاستباق الحامل لنبوءة الثورة الثالثة. يضاف إلى ذلك أن ما تطرحه الرواية على مستوى الواقع – المرسوم بعناية – كان لابد أن يفضى إلى ثورة على واقع يحمل كل هذا القدر من الفساد.
- الجدار: يحمل دلالتين تمثلان نوعا من التأويل. أولاهما: يكون فيها الجدار واقعا متعينا مرئيا. متحققا مما يجعل قراءته محكومة بنوع من الحتمية. حتمية قراءة الواقع بغية فهمه لإنجاز المستقبل. وثانيتهما تجعل من الجدار نوعا من الواقع النفسى حيث يكون للجدار دلالة الواقع النفسى للذات فى قراءتها لداخلها. وفى حتمية معرفتها بطبيعتها فى محاولة لاستيعاب النفس تحقيقا للهدف ذاته.
- فى بلدنا: عنصر يمنح واقع النص خصوصية يقرها الراوى. وتؤكد خطابه ( الراوى ) للص ومحاولته بث رسالة لها خصوصيتها لهذا اللص سارق المقابر ( صفة تحمل دلالة على سارق التاريخ. وناهب كنوز الماضى. وعندما يعدد السارد صفات الواقع المصرى. بما يشكل خصوصية للثقافة السلبية الجامعة للمتضادات. المؤطرة بالقهر(بلدنا تقرأ كتابك مكتوف اليدين. وتبحث عن المقبرة منذ الأزل) والمتضمنة للروعة والجمال (تنكشف روعة كل الأشياء).
- المقبرة: يلتقى عنصر المقبرة فى النص المفتاحى بالعنصر نفسه فى النص المتن حيث الأول مقبرة تحيل إلى الماضى. المقبرة الفرعونية تحديدا وهو طرح يعضده العنصر الأخير من عناصر النص المفتاحى فى إشارته إلى المقبرة الفرعونية التى نهبها كارتر. الذى يمثل عنصرا مؤجلا ينفتح على عتبة الرواية الأولى ( العنوان ) وليأتى هذا العنصر مطروحا على هيئة هامش نهائى. ولكن هامشيته لا تعنى التقليل من أهميته إذ هو يقيم دائرة تبدأ من العنوان وتنغلق عند الهامش الأخير والوحيد:” عندما اكتشف كارتر مقبرة توت عنخ آمون ونظر من الفتحة الصغيرة التى فتحها فى الحائط. سأله اللورد كارنفان فى حب استطلاع وعدم صبر: ماذا ترى ؟
فقال كارتر: أرى أشياء رائعة ” ( [4] ). وما بين النصين: الأول فى مستهل الرواية. والهامش فى نهايتها يطرح النصان دلالة رؤية الواقع المصرى وفق زاويتين مختلفتين: زاوية السارد وهو يقدم أشكال الفساد الذى يمارسه رموز المجتمع تجاه ” أسماء الشرقاوى” وأسرتها وهى زاوية تتكشف من خلالها كل مظاهر الفساد الاجتماعى والسياسى. وزاوية كارتر بوصفها الزاوية الأخرى المغايرة أو الآخر الذى ينقل السارد رؤيته. وهى زاوية تكشف عن رؤية الغرب للمجتمع المصرى متضمنا الأشياء الرائعة. تلك الأشياء التى لا يكتشف روعتها سوى ذلك القادم من الغرب محملا بحلم الاكتشاف أو حلم اقتناص الأشياء الرائعة التى تبدت له فور اكتشافه مقبرة توت عنخ آمون ويلاحظ ان السارد وهو يطرح هذا الموقف لا يصف الأشياء الرائعة ولا يكشف كارتر نفسه عن طبيعتها فقط يشير إلى أن ما يراه أشياء رائعة وهو ما يعنى أن الروعة داخله هى حلم بالاكتشاف والسارد حين يضع على لسانه جملته فإنما يكشف عن البعد النفسى للرجل قبل الكشف عن مقتنيات المقبرة.
والمقبرة تعيدنا (مستقبلا ) إلى حلم القبطان مراد ببناء المقبرة ومطالباته الدائمة للدكتور حازم المهندس للبدء فى تصميمها وبنائها وهو حلم يلقى فى نفس كل منهما قبولا يحقق رغبة دفينة:” كان يوم إبرام الدكتور حازم الاتفاق على بناء المقبرة من أجمل أيام حياته. إن لم يكن أجملها جميعا. فالقبطان مراد أعطاه فرصة الخلود والإبداع. والرجل لا يطلب من الزمن أكثر من ذلك. ولما كان مبدعا يعشق تصميم التحف والأصرح فقد سئم تصميم الفنادق والبنوك والنوادى والسينمات. واحتاج إلى تحد جديد يملأ أيامه ولياليه ” ( [5] )
- ثانيتهما: دلالة الانتماء للرواية من حيث هى مجموعة من النصوص المتصلة بالسياق الروائى تتواشج معه منتجة رسالة لا تتحقق بمعزل عن النص الروائى. فالروائية تضفر بين النصين. النص / العتبة. والنص/ المتن. وليس من الممكن الفصل بينهما. فالنص العتبة لا يقف عند دوره مدخلا للمتن وإنما يتجاوز هذا الدور إلى طرح عدد من الدلالات متعددة المستويات يأتى فى مقدمتها دلالة الماضى ممثلا فى النص العتبة. والحاضر ممثلا فى النص المتن، وفى أعمقها طرح النصين بوصفهما صورة بصرية عن الشخصيات. فالنصان متوازيان تماما كتوازى الشخصيات ( يكفى الإشارة إلى حالة التوازى التى تضم مراد وحازم على سبيل المثال )
ديناميكية التاريخ
فى معظم أعمالها يتجلى التاريخ طارحا نفسه بوصفه تيمة تحيل إلى زمنين ينفلتان أحيانا من رابط يجمعهما سويا: زمن يخص العالم الخارجى ممثلا فى زمن يحيل غلى وقائع تاريخية عامة تمثل وعيا للشخصيات وقد تجلى هذا النوع بوضوح فى روايتها ” بائع الفستق “. وزمن يخص الشخصيات وعالمها الداخلى الذى لا يؤثر فيما سواه وهو الماضى الخاص بالأشخاص فى محاولتهم التصالح مع الواقع أو التصالح مع الزمن. وهو ما يتجلى فى كل الشخصيات التى تتحرك فى عالم الروايات كلها بداية من ” رائحة البحر ” روايتها الأولى. وانتهاء برواية ” أشياء رائعة ” ومرورا بكل الأعمال التى يمكن ببساطة الوقوف عند هذا النوع متجليا فيها. الشخصيات هنا تحاول التوافق مع عالمها ( عصرها ) والمساحة الزمنية التى تتحرك فيها ( يمكن العودة للدكتورة هناء وهى تحاول التوافق مع زمنها عندما تكتشف وصولها سن الأربعين وهى ما تزال عذراء ). التاريخ. أو الزمن فى بعده التاريخى يباغت الدكتورة هناء. وتكون حركته دافعا لإعادة التفكير فى حياتها. ولذا فإنها تفكر فى اللحظة دون التفكير فيما سيترتب عليها فى المستقبل. هنا فى ” أشياء رائعة ” يعتمد التاريخ على طرح زمنى يخص المستقبل. أسماء مشغولة بسؤال وماذا بعد بخصوص أولادها ( بوصفهم امتدادا لها وصورة لمستقبلها هى ) وبخصوص حياتها هى فى مجتمع يرفض منها أن تعيش مستقبلها ( عبر قبول المجتمع زواجها ) هنا يتغلب التاريخ فى ماضويته ( الأعراف الاجتماعية الموروثة ) على المستقبل مما يفضى إلى اختناق هذا المستقبل بكل ما يتضمنه من أحلام وطموحات مشروعة يتناسى المجتمع مشروعيتها ويتعامل معها بمنطق الصواب والخطأ. لك أن ترى أسماء رمزا للوطن الذى لا نقبل له إلا ما يتوافق مع عقليتنا تماما كالطريقة التى يفرضها الزوج الشرقى على زوجته.
وفى سياق الرمز يمكن للمتلقى اكتشاف مستويات متعددة للرمز فى مجال دلالى متسع تضمه روايات الكاتبة فى أولها تقف هناء أستاذة الجامعة. بكل ما تملكه من مستويات للرمز. وما تطرحه شخصيتها من جوانب كاشفة عن الوسط الجامعى وما آل إليه حال الجامعة. مرورا بمستوى هناء الشخصية الرامزة للمرأة المصرية وتشاركها فى هذا المستوى شقيقتها ليلى ( ترتبط ليلى بدورها بشخصية العمة فى رواية ريم بسيونى السابقة ” بائع الفستق ” فى كشفها عن الجانب الدينى لدى المرأة المصرية خاصة والشخصية العصرية بعامة ). وانتهاء بمستوى هناء فى علاقتها بخالد تلك العلاقة التى مارست فيها هناء دور الجيل الذى لم يحقق ذاته على المستوى الإنسانى فيلجأ لتحقيقه على حساب الجيل اللاحق. وهو ما يتجلى واضحا فى سطوة هناء التى حاولت ممارستها على تلميذها. والعلاقة هنا تحيل إلى واقع خارج النص يتجلى فى فضاءين: الأول الجامعة والمبادئ المنظمة للعلاقة بين الأستاذ وتلاميذه. والثانى فضاء الواقع الذى يكاد يكون ملحوظا فى جيل مصرى سابق ( ربما يمكن رصده بجيل الستينيات أو جيل الهزيمة الممتدة ) مما جعله بمثابة القانون الاجتماعى الذى ما يزال مطبقا فى نطاق واسع من القطاعات وهو ما كان له آثاره الاجتماعية السلبية على التركيبة الاجتماعية الخاصة بالأجيال وتواليها ومساحات الصراع بينها.
لا ينحصر الرمز فى ” أشياء رائعة ” عند مستوى الشخصيات الثلاثة الأساسية (حازم- مراد – أسماء ) وإنما يتجاوزه إلى مساحات من المشاهد القابلة للتأويل الرمزى بالأساس ويكفى الوقوف عند مشهد اللقاء بين أسماء والدكتور حازم فى المقبرة التى ذهبت إليها مدفوعة بنداء الجسد والقلب معا ولم تكن كلمات الدكتور وهو يحدد الموعد بصرامة سوى مفتاح كانت هى من تصنع ضياعه أو ادعى ذلك:” سوف نتقابل غدا.. فى المقبرة.. فى التاسعة مساء.. لا تنطقى. استمعى إلى للنهاية.. سنتقابل غدا.. وأريد ان اقضى الليل كله معك.. هل فهمت ؟” ( [6] )
وعندما تذهب تقضى ليلتها معه ليكون المشهد محملا بكل ما فيه من رمزية تتعانق فيها الحياة ( الحب ) مع الموت. حيث يلتقى عالمان. عالم أسماء التى أضاء حازم حياتها بالحب وقد وجدت فيه الحماية لها من مراد. وعالم حازم الذى غادرته زوجته يوما ليعيش متعطشا للمرأة كما يريدها هو أو كما يحلم بها. هى فقدت زوجها فبحثت عن الحب وقدمت الجنس لتجد الحب. والدكتور حازم فقد الجنس فقدم الحب ليجد الجنس. أليست هى واحدة من خصائص العلاقة الإنسانية (تقدم المرأة الجنس لتحصل على الحب. ويقدم الرجل الحب ليحصل على الجنس ). لقد كان لظلام المقبرة دوره الرمزى فى الكشف عما لم يكشفه خارجها. ومالم تبح به أسماء فى النور طرحته فى الظلام. هل كان حازم يريد تخليد القصة ؟ أو كان يسعى إلى الاحتفاظ بعلامة من علامات انتصاره على المرأة تعويضا عن هزيمته من زوجته. ولم يكن لغير أسماء ( المتمسكة بزوجها ) امرأة تستطيع أن تمنحه هذا الشعور بالانتصار لذا استحضر فى لحظة النشوة صورة الزوج:” قالت وهى تغلق عينيها: ماذا نفعل الآن ؟ ثم قال فى تأمل وكأنه يتكلم مع نفسه: تعرفين ؟ كنت أغار من زوجك.. جدا. كانت صورته تطاردنى كل يوم.. ولكننى لم أعد أغار منه.. لأنك لم تشعرى بهذا معه ” ( [7])، فلحظة نشوته هى لحظة انتصاره زوجته المغادرة عبر انتصاره على الزوج الراحل ممثلة فى نجاحه اختراق عالم أسماء فى خصوصيته. هنا يأتى المشهد الحميم علامة على انتصار حازم على مشكلاته النفسية واستمرار لحياة مجتمع يعيش لحظاته الأبقى فى عالم تحتى. مظلم فى حين يعيش حياته المزيفة فى النور.
ومن ثم فالأشياء الرائعة – تماما كروعة اللحظة الحميمية – لا توجد فى وضعها الطبيعى. أو فى مكانها وإنما هى فى الظلام. هل لأن النص يحيلنا إلى دلالة أن الماضى منذ فجر التاريخ يؤكد أن الأشياء الرائعة هى هناك فى الخفاء. دون التخلى عن علامات من شانها إثراء النص تتمثل فى رسالة تؤكد أن الأشياء الرائعة لابد أن نتجاوز السطح لنفوز بمتعة اكتشافها. ولابد من بذل مجهود يفضى إلى هذا الاكتشاف. هنا نجد الرواية تحيل إلى ذاتها هامسة لمتلقيها: عليك أن تبذل قصاراك للوصول إلى النص فى أشيائه الرائعة.
……………...
هوامش وإشارات
[1] – ريم بسيونى. روائية مصرية. حصلت على درجة الدكتوراه من جامعة أوكسفورد. حازت عددا من الجوائز الأدبية فى مجال الرواية. منها جائزة ساويرس عن روايتها الدكتورة هناء تعمل أستاذة اللغويات بجامعة جورج تاون الأمريكية. صدر لها أربع روايات:
– رائحة البحر – دار البستانى – القاهرة 2005.
– بائع الفستق – مكتبة مدبولى – القاهرة 2006.
– الدكتورة هناء – مكتبة مدبولى – القاهرة 2007.
– الحب على الطريقة العربية – دار الهلال – القاهرة 2009.
– أشياء رائعة – دار الآداب – بيروت 2010.
[2] – ” كتاب الموتى “مصطلح أطلق تجاوزا على عدد من الرقى والتعاويذ وعلى صور تعبر عن الخيال الفرعونى فى تعبيره عن طموح الفراعنة فى الآخرة واصفا حساب الميت ووزن أعماله وكيفية مروره وإرشاد روحه فى رحلتها الأخيرة وهو مستمد من بردية “بردية آنى ” التى ترجمها عن الهيروغليفية عالم المصريات المعروف والس بدج والتسمية الفرعونية للكتاب ” الخروج فى ضوء النهار “.
– انظر: الموسوعة العربية الميسرة – المكتبة العصرية – بيروت – الطبعة الثالثة 2009، ص 2663.
والكتاب تعددت ترجماته وطبعاته فى العربية ومنها:
- ترجمة: د. فيليب عطية – مكتبة مدبولى – القاهرة 1988.
- ترجمة: محسن لطفى السيد – الهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة
[3] – ريم بسيونى: أشياء رائعة – دار الآداب – بيروت 2010.
[4] – أشياء رائعة ص 280.
[5] – أشياء رائعة ص 18.
[6] – أشياء رائعة ص 206.
[7] – أشياء رائعة ص 212.