ريحانة  الصحراء

ريحانة ميسون صقر
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. عفاف عبد المعطي

ظلت الصحراء مجالا رحبا لكتابة النص الروائي حيث جوهر الكون وكُمُونه بما في ذلك من نُدرة وقسوة وامتداد للعلاقة الوطيدة التي تربط بين الطبيعة الصحراوية والشخصية محور الكتابة. وفى تناول الروائي الكبير ابراهيم الكوني والتاريخ الطويل الذي عبّر فيه روائيا عن إنسان الصحراء القار والمرتحل حيث تضم نصوصه العناصر المحددة من عالم الصحراء بما في ذلك انفتاحه على الكون، أيضاً تظهر الصحراء التى تمثل أرباع الوطن تجسيدا للعراقة حيث الاتساع هو الحرية والسفر إلى الفضاء الرحب. والصحراء في نص غسان كنفاني “ما تبقى لكم” تصوير لمخلوق أشبه بالميت مع استخدام الكاتب وتجسيده لها بأنها تمارس طقوسها كما تشاء وتمتلك واقعا لا يشبه طبيعتها أبداً، فعند فرار حامد إلى الصحراء التي تربط بين فلسطين والأردن لاهثًا في ثرى المجهول باحثًا عن الأم الضائعة، هارباً من العار الذي صار يلاحقه كظله، تبقى بداخله جملة “ما تبقى لها، ما تبقى لي، حساب البقايا، حساب الموت، حساب الخسارة ما تبقى لي فى العالم كله”، والمجال يتسع لرواية “صلاة الغائب” للطاهر بن جلون و”الباذنجانة الزرقاء” لميرال الطحاوي.

وقد ظلت الصحراء محط اهتمام المبدعين حتى اللحظة عبر  رواية “تغريبة القافر” للكاتب العُماني زهران القاسمي التي تنحو إلى القرية الصحراوية العمانية وكيفية الاستعانة بالبطل  سالم بن عبد الله أحد مقتفي أثر الماء الذي تستعين به القرى في بحثها عن منابع المياه الجوفية، وعبر الاحداث المتراتبة يظهر التاريخى التراثي والصحراوي والفني فى نص متماسك يعلو على الصحراء ب الأفلاج لري البساتين والخروج من نفق القرية المُعتم.

وإن كانت الرواية الأكثر تفاصيل وألماً رواية “ريحانة” للكاتبة ميسون صقر الصادرة عن دار الهلال، حيث تقوم على فكرة البناء متعدد الطوابق والسلسلة التي تُفضي إلى أخري، والحكي التراتبي فى موضعه، ففي الجزء الاول “الاجنحة لا تترك أثرا في الهواء بل تهيئ الروح للانفلات” تحكي الراوية عن حصن الأجداد في رواية تحكيها ريحانة وشمسة عن حصن الاجداد في الشارقة التي تطل على الخليج وتحكي شمسة حكاية جدها حاكم الشارقة (من القواسم).

وتطل الشخصية الاولي ريحانة التي هي عبدة من عبيد هذا الحاكم الذي يستنجد ب جمال عبد الناصر ليساعده في عمل نهضة تعليمية وصحية في بلده، فيطلب الإنجليز من الحاكم أن يعتذر عن استقبال عبد الخالق حسونة أمين عام الجامعة العربية لكنه يصمم على نهضة بلده ويجهز لمظاهرات لاستقبال مندوب عبد الناصر فيقوم الإنجليز بتدبير انقلاب ضده ويهرب إلى مصر كلاجئ سياسي وتنتقل الأسرة ومعها ريحانة “عبدة الاسرة” لكنها تطلق على الحاكم لقب عم وعلي زوجته لقب عمة واللذين يعاملانها برقي شديد كفرد من أفراد الأسرة.

لكن الكاتبة الحاذقة “ميسون صقر” تفاجئنا أن ريحانة كانت قد تزوجت “حبيب” سائق الحاكم وهو شخص حر وليس عبدا وأنجبت منه، وحين تنتقل أسرة الحاكم إلى القاهرة تنشطر اسرة ريحانة إلى شطرين “حبيب” الزوج في الشارقة وريحانة وابنها في القاهرة فيخلف ذلك هُوّة نفسية عميقة في نفس ريحانة لأنها فقدت الزوج والحبيب وصارت مشتتة بين هجر الحبيب والولاء للأسرة التي ربتها صغيرة.

ولأن عتبات النص في العناوين؛ فإن عنوان الفصل الأول “الطفل الموجود في الصورة” تظهر الشخصية النسائية الثانية “شمسة” ابنه الحاكم التي شاهدت صورة أبيها تتكسر، وتتحايل الأم لتحمل كل مستندات الأسرة إلى القاهرة وتظهر قلة حيلة ريحانة حين تطلب منها شمسة أن تصنع لها ساندويتش فتضع في الخبز أرزاً ولحما وخضروات مما يؤدي لسخرية الأطفال من شمسة ولكنها إشارة نصية وعلامة على قلة حيلة الأسرة القادمة من مجتمع بدوي غير قادر على الاندماج في المجتمع الحضري.

وتتخذ الكاتبة من نظرية “بافلوف” في الفيزياء إشارة إلى الاستدعاء؛ فكلما شاهدت صورة استدعت الذاكرة صورا وكلما تذكرت شيئا أحالتها الذاكرة إلى أشياء أخري؛ فتتذكر ريحانة كيف أنجبت ابنها نصورا بالطريقة التقليدية على يد عمتها زوجة الحاكم دون استخدام الطريقة الحديثة للممرضة القاهرية التي أرادت إدخال الطفل إلى رحم ريحانة بدلا من إخراجه إلى الحياة حتي تمام شفائه من مرحلة مابعد الولادة فلم تستخدم الأدوية بل لجأت للطريقة الشعبية التي كانوا يستخدمونها في الشارقة وهي بيضة الملح اليومية.

تنتقل الكاتبة بطريقة عتبات النص من عتبة إلى أخري في العنوان؛ عتبة لابد أن تمر عليها لتفهم الفصل؛ حيث فطوم ضرة ريحانة الزوجة الثانية لحبيب تصفها ريحانة بأنها “رِجل بنطلون” وهكذا تنطلق من العنوان إلى الحكاية الواردة بالفصل ويكون زواج زوجها من فطوم “رِجل البنطلون” علامة فارقة على دخول ريحانة إلى عالم الإدمان واهتزاز عالمها النفسي حتى تأتي إلى القاهرة أخت زوجة الحاكم “عمتها الثانية ” وتصطحب معها ريحانة إلى البلد الأم الشارقة وتختفي مع ريحانة أوراق الحاكم وثوب زوجته.

وتتوالى أجزاء الرواية، فالجزء الثاني يبدأ بعنوان عام “لم أر السمراء وإن رأيتها” هذا العنوان العام يرد بعده عناوين جانبية أولها مقطع؛ “مشتاقة وعندي لوعة” شطر البيت الشعري في قصيدة أبي فراس الحمداني “أراك عصي الدمع” التي تغنيها أم كلثوم وتشاكس به شمسة (والاسم له معني فهي النور والبهاء).

تحكي الراوية أيضاً حكاية حب ابنة الحاكم “شمسة” لزميلها هادف (والاسم أيضا له دلالة) ثم تحكي تحت عنوان “رجل أسمر ضعيف حكاية حب “علي” السباك لها والذي يحضر لها الورود والهدايا في المناسبات عكس هادف حبيبها الذي يمطرها بالمناقشات الفكرية والسياسية. ثم تعرج للأصول العِرقية لحبيبها هادف فهو من النوبة والنوبيون حطبة النوبة ورماة الحدق الذين يجيدون التصويب على العين مباشرة وقد كوّنوا إمبراطورية قديمة ولم ينجح المسلمون آن الفتح الاسلامي في غزوهم حتي عصر ابن قلاوون.

يصر “هادف” على ألاَّ يكون رومانسيا فتهديه شمسة وردة حمراء فيأكلها لأنه جائع ثم تعرج على مظاهرات سنة 1977 حيث انتفاضة الجوع التى أطلق عليها السادات انتفاضة الحرامية، ثم زيارة السادات للقدس ومظاهرات الطلبة حيث تمنعها أمها زوجة الحاكم من الذهاب للجامعة حتي تنتهي المظاهرات. وعندما تعود من الجامعة لتحكي لجدتها قصة حبها وتتخذ عنوانا “ولكن مثلي لا يذاع له سر” وهي تقنية الأغاني والموسيقي التي تفتح عالم الدلالات والإحالات.  

تقوم الرواية بسياحة فكرية في مصر إبان مرحلة الانفتاح الاقتصادي فتحكي عن محمد دولار الذي كان يشارك عم على السباك في تصريف الدولارات ولكنه لم يستطع استكمال هذا الطريق واتجه لتجارة الفراخ فصار اسمه محمد فراخ. وتدخل الكاتبة ميسون صقر العالم النفسي لشمسة التي يتمني أ[وها أن يربط قدميها حتي تصيران صغيرتين علامة على خصوبة الأنثى وتتخذ كالعادة عنوانا موحيا “قَدم مريم” ثم تعرج لعالم الحاكمة فاطمة بنت محمد وكيف غزى العمانيون الساحل الشرقي لأفريقيا وكيف تحكُم النساء البيوت والعقول!!

تتفتح الرواية على عالم ريحانة النفسي وانكسارها لزواج حبيب من أخري “فطوم” ولجوئها للمخدرات، وعالم المخدرات في الباطنية كذا العالم النفسي لسيدتها شمسة، وكيف لا تتطابق فكرة الحب مع حبيبها هادف في عناوين جانبية غاية في الدلالة مثل (وجود له دراميته). هذا التقابل بين العالمين يحيلنا إلى عناوين أخرى مثل “الأولة في الغرام” وهي أغنية معروفة لأم كلثوم حيث لو كانت أطول قليلا لسارت بجانب حبيبها ووصلت إلى قلبه، ثم تعود لريحانة التي تحصل على صك انعتاقها وتسعي بوساطة عمتها الجديدة لينتقل زوجها للعمل في الشرطة فتحصل على تعويض من الحكومة ليبني منزلا جديدا وتصبح ريحانة سيدة الدار بعد أن تجبره أن يطلق فطوم. وتنتقل ريحانة من حياة العبودية إلى السيادة فيصير لها عبيد وتنقلب حياتها فتردد لنفسها “نحن السادة” لكن فقدها لحياة العائلة وعمتها التي تعيش معها تأكيد لمعني الفقد والالم النفسي الذي يؤدي إلى فقدها كل شيء، ويتحول ابنها إلى شاذ جنسيا ويتحول زوجها إلى مدمن ويموت في حادث سيارة وهو مخمور. أما ابنها نصور فيصبح متطرفا دينيا يسافر إلى أفغانستان ويعود للبحث عن ريحانة التي وصلت لمرحلة الجنون والسير في الشوارع على غير هُدي حيث يفقدها ذويها ولا يعرفون مكانها.

ثم تراوح الكاتبة في السرد بين ريحانة وشمسة في فصول متتالية وأحيانا يحدث الانتقال في نفس الفصل فشمسة تنصحها أمها بمَثل يقول “عش جبانا تعش لأمك زمانا” وترد على حبيبها بأنها ليست ابنة سُلطة وحياتها مؤسسة على الفقد “فقد الأب ثم الأخ” وأعتقد أنها كانت تشير إلى فقد الوطن. ولم توضح الرواية هل تزوجت من ابن عمها أم أنها وقفت عند حد معاناتها من فكرة عدم تحقق الحب مع هادف فتشعر بالقهر والعبودية مثل ريحانة تماما وكأنهما صنوان لشخص واحد وكأنهما يرددان “قتلتنا الرِدّة قتلتنا إن الواحد منا يحمل في الداخل ضده”.  

تقترب الرواية من فكرة السيرة الذاتية لكنها مكتوبة بحرفية شديدة وبالنَفَس الروائي الطويل فالجانب الإنساني يكمن في كل التفاصيل، وكلما كان الأدب إنسانيا كان جميلا، لأنه يحكي سيرة الإنسان وما حكايات الليالي (ألف ليلة وليلة) إلا سيرة الناس فمن عرف الناس عرف الدنيا ومن عرف النساء عرف الدنيا والآخرة، والرواية تحكي سيرة النساء والوطن، ولكنها ليست نسوية فهي تحكي حكاية الإنسان الذي يُحب ويبحث عن وجوده وتحققه وكيانه في الحياة والحب بفلسفة شفيفة. فريحانة تريد حبا وزوجا وأسرة وحين تفقد أحدهما تنشطر وتتحول إلى مجنونة؛ أما شمسة فلا تتحقق في الحب وتنشطر داخل الأسرة (بين ما هو كائن وما يجب أن يكون) اللاجئة في الحياة إلى بلد أخري وكأنه واقع مفروض يجب أن تقبله فتعيش كمن يسير على وخز الإبر فتكرر كل يوم مرثية لاعب السير الذي يقول ” في هذا العالم المليء بالأخطاء مطالب وحدك ألاَّ تخطئ لأن جسمك النحيل مرة لو أسرع أو أبطأ هوي وغطي الأرض أشلاء.

تلجأ الرواية إلى الاسترجاع “طريقة الفلاش باك” والصورة والموسيقي وأغاني أم كلثوم والشعر وبطولة المكان من الشارقة إلى القاهرة. مرورا بالهم السياسي الذي هربت منه في الأسرة لتجده حين يذهب السادات إلى إسرائيل فتقوم أختها بضرب التلفزيون بالحذاء لتجسد مقاومة العاجز وتمثيل واضح للبطل الإشكالي الذي لديه مشكلة سيزيف.

ليست ريحانة وحدها من تجد الراحة في عبوديته، بل كلنا، ففي الرواية تأتي الطلقة الأخيرة التي تكشف المضمون كأنها فكرة الحرية المراوغة؛ الحرية التي ليست إلا عبودية يرددها نصور ابن بطلة الرواية ريحانة.  

وأخيرا يتبدى الخطاب الروائي في خطاب المثقف والسُلطة، فابنة الحاكم تشعر بالضعف وقلة الحيلة وكأن سايكس بيكو تتكرر أمامها كل يوم بصورة جديدة واعادة تقاسُم السُلطة يحيلها لقصة أبيها؛ حيث ألعاب الاستعمار لا تنتهي لتترك المثقف متورطا في قِلّة الفهم وقلة العجز أو سيف اللاجدوي وسيف اللافعل كما قال صلاح عبد الصبور (بتصرف) فبدلا من أن نكون محاربين وعشاقا صِرنا مخذولين في الحب والوطن، وكأن الرواية هي البطل الضد الذي يدعو لاستعادة الهُويّة في الحب حيث يحارب المثقف لتحرير وطنه بالوعي. ولأن الملايين من المهاجرين قبل ارتحال الجسد يكونون قد هاجروا نفسيا بأرواحهم، والغُربة كُربة وخُبز الوطن خير من كعك الترحال حيث يتعلم فيه الإنسان المُحال فيقدّر قيمة تراب وطنه.     

 

مقالات من نفس القسم