روبير فالزير منعزلا في “إقليم قلم الرصاص”

روبير فالزير
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

تقديم وترجمة: عثمان بن شقرون

لا يلبث الأديب السويسري روبير فالزير (1878-1956) ينبعث من رماده كل مرة كطائر العنقاء الأسطوري. فالرجل الذي اختار بإرادته الهامش المتجول والغياب خلد إلى الصمت وانسحب من الحياة الثقافية والمجتمعية تاركا وراءه الأثر الذي لا يزال ينمو ويفاجئ، بفضل الاكتشافات الجديدة لهذا الأثر الذي أدخل شخصية هذا الكاتب بالتأكيد في حيز الأساطير التي هو نفسه تبرأ منها. بعد إقامته في برلين حيث تردد على الأوساط الأدبية الطليعية وكتب بالقلم، وبدون محو تقريبًا، ثلاث روايات: الإخوة طانير1907 ؛ الناسخ 1908؛ معهد بنجامينتا1909 ؛ يعود سنة 1913 إلى بيين، مسقط رأسه غير قادر على الكتابة بالحبر. لكن على خلفية هذه الحياة العامة التي أدار لها ظهره، ودون علم الجميع، بلور روبير فالزير نصوصه متحررا من اشمئزاز القلم على حد تعبيره ليرسم ويمرح وليعثر على “متعة الكتابة” بحرية في منطقته السرية، عن طريق كتابة مجهرية وبأحرف لا تكاد تصل إلى مليمتر واحد أو مليمترين، على أوراق منفصلة: ظهر أظرفة الرسائل وهوامش المستندات الرسمية، وعلى مساحات ضيقة في أوراق الجرائد وعلب السجائر أو حتى مغلفات بسيطة…، وقد منحته فضاء من الإبداع الجامح الذي شكل قارة نصية غير متوقعة، أطلق عليها الباحثون اسم “إقليم قلم الرصاص”. لم تكن هذ النصوص المجهرية التي سميت “منمنمات” مخصصة للجمهور. وقد شكلت لفترة طويلة مشكلة في قابلية القراءة للعديد من مفسري فالزير، كما لم يهتم بها أقرب أصدقاء فالزير الكاتب والصحافي كارل سيليج Seelig Carl، واعتبرها تهجئة مخترعة وسرية غير ذات معنى، حتى أنه أوصى بتدميرها. وهكذا كتب فالزير روايته الأخيرة “اللص” سنة 1925، بهذا الشكل. لم يشرح فالزير نفسه أبدًا طريقة الكتابة الفريدة هذه، لكنه تحدث ببساطة، كما أوضحت مترجمته ماريون جراف، عن “إفلاس اليد” واستخدام “طريقة قلم الرصاص” للتعويض عن ذلك. وكتجربة تسمح له بالاختباء والاختفاء، وأن يصبح صغيرًا جدًا حتى يكاد أن يكون غير مرئي. والرواية “اللص”Der Räuber  التي نروم ترجمة مقطع منها نموذج من إحدى هذه الكتابات. وهي في الأصل نص بدون عنوان أو انتماء صريح إلى نوع أدبي ما، كان الناشرون الألمان هم الذين أطلقوا عليها هذا الاسم نسبة إلى البطل الذي لم يحمل اسما شخصيا سوى صفة اللص. وعلى عكس الكتابات الأخرى في هذه الفترة، لم يقترحها روبير فالزير أبدا على ناشر، كما لم يلمح إليها قط. ظل وجودها مجهولا تماما حتى تم اكتشافها ونشرت لأول مرة في سنة 1972 من قبل يوخن جريفن Jochen Greven  ومارتن يورغنز  Martin Jürgens اللذين أمضيا قرابة عشرين سنة في فك رموزها. وهي كتابات تشكل علامة فارقة لأسلوب فالزير، وتجسد لحظة تغيير في وجود الكاتب الشخصي وأزمة حادة في الشكل. من الواضح أن الرواية تختلف عن سابقتها، وتعد أكثر ارتباكا. ويأتي هذا الانطباع بعدم الاكتمال من صوت اللص/ البطل، أو بالأحرى من الأصوات المختلفة التي تتداخل داخل الرواية. تضع هذه الرواية رجلاً تحت الأضواء، وهو لص يتصرف بطريقة هامشية إلى حد ما، بعيدا عن ما يسمى بالأشخاص “العاديين”. إنه محرج بعض الشيء ويحكم عليه الآخرون بشكل رئيسي بسبب غرابته وبسبب أن الناس يفشلون في محاصرته أو السيطرة عليه. من جانبه يسخر اللص من المجتمع بسبب عدم قدرته وعدم رغبته في التأقلم مع عالم برجوازي آيل للانهيار، على الرغم من أنه لم يرتكب أي عمل إجرامي إطلاقا. والحقيقة أن لا صوت يعلو على صوت فالزير، فشخوصه ليسوا سوى أكبر عدد ممكن من الصور الذاتية للكاتب، الذي كان يمشي مشيه الأخير أمام مراياه المكسورة. ويعتبر المقطع الذي أقدمه مترجما إلى اللغة العربية من أمتع المقاطع التي تشعر فيه بالكاتب يتحدث إليك، وتدرك أن الكلمات تنتقل من عزلة إلى عزلة أخرى، وحيث يتجلى رقراقا في لعبة مرايا مع اللص من خلال جلسة اعتراف عند الطبيب. وقد اخترت لهذا المقطع اسم: “اعتراف”.

اعـتـراف

وها هو الآن أمام الطبيب، الذي بدا له ودودا. علاوة على ذلك، كان اللص أيضًا هو المودةُ نفسها. على الأقل هنا، في الوقت الحالي، في عيادة الدكتور. لم يكن مضطرا إلى الانتظار طويلا في غرفة الانتظار. كان هناك عدد قليل من الرجال والنساء ينتظرون. وامرأة مجنونة أيضا. ثم سألته خادمة الطبيب، وهي تفتح باب غرفة الانتظار فجأة، إن كان بالفعل هو اللص ذا الوشاح الشهير. فأجاب بالإيجاب، عندها قالت الخادمة: “في هذه الحالة، يطلب منك السيد الدكتور أن تدخل”، عندها حَطَّ مرة أخرى المجلة التي كان يقرأها، وولج بخطوة متحمسة غرفة مقببة ذات سقف عال، وجلس قُبالة السيد الدكتور، حيث توجه مخاطبا إياه على النحو التالي: “أعترف لك دون مواربة أنني من وقت لآخر أشعر كما لو أني كنت فتاة.” بعد هذه الكلمات توقعَ بأن يرغب الطبيبُ في الكلام لكن هذا الأخير قال ببساطة وبصوت منخفض: “استمروا”. لذلك أوضح اللص: “ربما كنتم تتوقعون مني أن آتي لزيارتكم في يوم من الأيام. بادئ ذي بدء، أود أن ألتمس منكم أن تروا في داخلي شخصا فقيرا للغاية. يخبرني وجهكم بأن الأمر ليس خطيرا، لذا فلتعلموا سيدي، أنني مقتنع اقتناعا راسخا بأني رجل مثل أي رجل آخر، ولكن هذا ببساطة، ولعدة مرات، بمعنى لم يحدث في الزمن أبدا، ولكن في الآونة الأخيرة نعم، لقد صُدمت بحقيقة أنني لم أكن أشعر في داخلي، بأدنى  رغبة في العدوان أو التملك. ولا حدث أن دبرته ولا سعيت إلى سبيله. ومع ذلك، أعتبر نفسي رجلا شجاعا إلى حد ما، رجلا صالحا للغاية. أحب العمل على الرغم من أنني لا أقوم بالشيء الكثير هذه الأيام. يشجعني هدوءك على أن أعهد إليك مرة أخرى بهذا: أعتقد أنه من الممكن أن نوعا من الأطفال أو نوعا صغيرا من الصبيان يحيا بداخلي. ربما لدي شخصية مرحة للغاية بعض الشيء، والتي يمكن للمرء أن يستنتج منها، أليس كذلك، جميع أنواع الأشياء. أما بالنسبة لاعتبار شخصي كفتاة، فقد حدث لي ذلك في بعض الأحيان، لأنني أحب تلميع الأحذية ولأن الأشغال المنزلية تسليني. كان هناك وقت لم أترك فيه لأي شخص أمر ترقيع بذلة ممزقة. وكنت دائما الشخص الذي يشعل الموقد في فصل الشتاء، كما لو كان الأمر يسري من تلقاء نفسه تماما. لكن كفتاة فتاة حقا، بطبيعة الحال أنا لست واحدة. إذا تفضلتم، اسمحوا لي بالتفكير للحظة في أسباب كل هذا. في المقام الأول، يتبادر إلى ذهني، هنا والآن، أن مسألة معرفة ما إذا كان بإمكاني أن أكون فتاة عن طريق الصدفة لم تقلقني أبدا، ولكن أبدا، ولا للحظة واحدة، ولا كلمة واحدة، ولا المواطن الذي أنا عليه، ولا جعلتني أيضا شقيا. أنتم لا شأن لكم، بأي حال من الأحوال، بشخص شقي، وأركز على هذا بشكل خاص، لم أشعر أبدًا بالمعاناة أو الضيق بسبب الجنس، لأن الاحتمالات البسيطة جدا لتحريري من الضغوط المحتملة لم تخذلني أبدا. هذا الاكتشاف التالي الذي قمت به عن نفسي كان مذهلا، أي مُهِمًّا في نظري: كنت أدخل في إثارة عاطفية في كل مرة أتخيل نفسي خادما، بغض النظر لأي كان. وبطبيعة الحال، فإن هذه الاستعدادات ليست لوحدها حاسمة. لقد تساءلت عدة مرات عن أي الظروف والعلاقات والأوساط التي يمكن أن تؤثر فيَّ، ولكن دون نتيجة حقيقية. لقد تبين أن عازفي البيانو الموهوبين، على وجه الخصوص، هم أعدائي، وأنا بطبيعة الحال لا أعرف كيف يحدث ذلك. ضد رغبة معينة في الخضوع لشخص ما، امرأة كانت أو رجلا، كان عليَّ أن أقاوم بشدة منذ ذلك الحين دوما، ليس منذ ذلك الحين دوما، ولكن خصوصا منذ بضعة أيام فقط، كما لو كان عليَّ الانتظار حتى وقت قريب للخروج من صنف من أصناف الجهل. أن أرى نفسي على هذه الشاكلة فأنا أستمتع بصحة جيدة. باستثناء مرة واحدة عندما كلفتني حماقة طفل جرحا في وجهي، لم يسبق لي من قبل أن زرت طبيبا أبدا، ولكن بما أنني لم أنجذب أبدا لقضاء الليل مع امرأة، قلت في نفسي سينبغي عليَّ في يوم من الأيام أن ألتمس المشورة من الطبيب، ومرة أخرى أتوسل إليكم أن تتحلوا بالصبر ريثما أفكر، لأنني أرغب في تجنب إخبارك بأشياء غير صحيحة، وسوف تفهمون أنه من الصعب تفسير ما لا يمكن تفسيره. أنا شخص يمكن أن يوضع في أي مكان، على سبيل المثال في قعر بئر، في منجم أو على قمة جبل، في قصر سيد أو في كوخ. أنا ذو مزاج متساو للغاية، والذي غالبا ما تم الخلط بينه وبين اللامبالاة وعدم الاهتمام. لقد وُجهت إليَّ انتقادات لا تعد ولا تحصى. ومن كل هذه الانتقادات صنعتُ ما يشبه سريرا  واستلقيت عليه، وهو ما قد يكون غير عادل من جهتي، لكن قلت لنفسي إنه ينبغي علي أن أجعل حياتي مريحة لأن الانزعاج بجميع أشكاله يمكن أن يثقل كاهلي يومًا ما بالفعل، وبعد ذلك سيتعين عليَّ أن أكون في مستوى فعل شيء ما. عزيزي الدكتور، بطريقة ما يمكنني فعل أي شيء، وربما دائي، إذا جاز لي تسمية حالتي هكذا، يكمن ربما في إفراطٍ في الحُبِّ. إن طاقات المحبة التي في مخزوني ذاتُ سطوة مخيفة، وفي كل مرة تطأ فيها قدماي الشارع أشرع في محبة أي شيء، أي شخص، ولهذا السبب أبدو  في كل مكان بمظهر  رجل بلا  شخصية، الأمر الذي لا ينبغي أن يُفَوِّت عليكم فرصة من شأنها أن تدفعكم إلى الضحك قليلا، إذا رغبتم. أشكركم جزيل الشكر على التعبير الجاد الذي تريدون الاحتفاظ به على وجهكم رغم هذا، وأؤكد لكم أنه بمجرد ما أوجد في المنزل، منهمكا بشيء يتطلب الذكاء، أنسى كل هذا، وأشعر بأنني بعيد، وراضٍ على هذا النوع من الحب للعالم والناس. لدي إذن نزعة رئيسية تجبرني على أن أكون لطيفا مع الناس، وأن أكون في الخدمة، وما إلى ذلك. في الآونة الأخيرة حدث لي مع امرأة من وسط بسيط جدا أن حملتُ سلتها المليئة بالبطاطس الجديدة وتبعتُها بهرع جنوني. من الأكيد، أنها كانت جد قادرة على حملها بنفسها. ثم هناك أيضا هذا: إن سمة معينة من طبيعتي والتي اكتشفتها، تدفعني أحيانا إلى البحث أيضا عن أم، عن معلمة، أو بعبارة أفضل عن امرأة تجسد ما لا يمكن البلوغ إليه، نوع من الإلهة. في بعض الأحيان أعثر على الإلهة للوهلة الأولى، لكن أحيانًا يستغرق الأمر وقتًا طويلاً جدًا قبل أن أتمكن من تمثلها، أَيْ حتى أجدَ طيْفَها المُبهج والجذّاب وأختبرَ قدرتَها. ومن أجل بلوغ السعادة، ينبغي دوما أن أتخيل، قبل كل شيء، قصَّةً حيث يدخل هذا الشخص أو ذاك في علاقة معي وحيث أكون الطرَف الذي يستسلم ويخضع ويضحي، ذاك الذي يُوضع تحت الإشراف وتحت الوصاية. من الجليِّ، أن هذا ليس كل شيء، بالعكس تماما، لكن هذا يُلقي بعض الومضات على الكثير من الأشياء، وجراء ذلك يعتقد كثير من الناس أنه من السهل جدًا أن يجبروني على الخضوع والترويض، إذا جاز التعبير، لكن كل هؤلاء الأشخاص مخطئون للغاية. لأنه في كل مرة يتظاهر فيها شخص ما ببسط هيمنته علي، هناك شيء في داخلي يشرع في الضحك والسخرية وهناك يتلاشى الاحترام بشكل طبيعي، وبدلاً من الذي كان يُعتقد أنه أقل شأناً، ينبثق الأقوى، ذاك الذي لا أُجْليهِ عنِّي عندما يتجَلَّى فيَّ. الطفل الذي بداخلي لا يقبل على الإطلاق أن يُحتقر، ومع ذلك فهو يحب أيضا، عندما يحين الوقت، أن يُلقَّن الدرسَ. وهكذا أجعلكم شاهدا على هذا التناقض، وأضيف أن الصبيَّ الصغيرَ الذي بداخلي غالبا ما يكون سيِّئَ الخُلُق، وهو ما يُسلِّيني بطبيعة الحال، ولكن على أي حال، الآن، ومع كل هذه التعقيدات في طبيعتي، أحب فتاة، أحبها بقلب عفيف، بقوة ولكن برفق، كما يليق برجل نبيل، فقط حواسي تبقى هادئة تمامًا بهذه المناسبة، ولهذا أيضًا أبقى أمامها عاجزًا. لكنني لا أُقِرُّ بهذا العجز على الإطلاق، بمعنى لا أهمية له بالنسبة لي، ومع ذلك فهو يلعب دوره، إنه حاسم، بينما لا شيء يتقرر على الإطلاق، ولكن هذا أيضا لا يجعلني شقيا…. — قال الدكتور وهو ينهض من مقعده:  “كُونُوا كما أنتم، استمروا في العيش كما عشتم حتى الآن. يبدو أنكم تعرفون نفسكم جيدا، وتعتنون بها بشكل جيد للغاية،” ثم تحدث أكثر قليلاً مع اللص حول مواضيع أخرى، وأخبره بكونه مسرورا بمعرفته ودعاه لزيارته من وقت لآخر، وقاده إلى مكتبته وجعله يختار كتابًا ليأخذه معه. عندما سأله اللص عن تكلفة المتاعب التي تكبدها الطبيب، قال: “أتفكرون في الأمر!” ولكن ما الذي كانت تتحدث عنه الفتاتان في قاعة المرايا؟ لحسن الحظ أننا نفكر في ذلك.

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم