بهاء طاهر
أود أولاً أن أشكر أسرة مجلة الهلال لاحتفائها بالجيل الجديد من كتاب القصة والرواية، ذلك دور يليق بهذه المجلة الثقافية الرائدة والمتجددة باستمرار، يعطى للمرء الأمل وسط الكثير مما يدعو للإحباط فى حياتنا الثقافية الراهنة، الأمل فى أنه مازال هناك من يهتم بصوت المثقفين والإصغاء إلى رسائلهم ومحاولة إيصال هذه الرسائل إلى جمهور أعرض لا يجد فى وسائل الإعلام إلا ما يغيّب الوعى ويصرف الانتباه عن أى شىء جاد أو حقيقى فى حياتنا.
ومجلة الهلال العريقة تواصل أيضا بعملها هذا تقليدًا استنته منذ زمن بعيد، فإنى لأذكر مثلاً أنها قد خصصت فى عام 1970 عددًا خاصاً لكتابات جيلنا الذى كان وقتها فى أول الطريق، وكانت تلك دفعة حقيقية لنا وأتمنى أن يكون هذا العدد، وأعداد أخرى مماثلة، دفعة لجيل من المواهب التى تضيف بالفعل جديداً رائعاً إلى الإبداع الروائى دون أن تلقى ما هى جديرة به من الاهتمام، ولقد أتيح لى قبل هذا المقال أن أكتب أو أن أتحدث فى ندوات عن بعض هذه المواهب الجديدة مثل مى التلمسانى وشحاتة العريان ود.علاء الأسوانى وياسر عبداللطيف، وأعرف أن هناك أسماء كثيرة أخرى لكتاب وكاتبات من الجيل الجديد يسعدنى دائما أن أتعرف عليها وأن أتحدث عنها، فهؤلاء هم مستقبل الأدب القادم الذى يبشر بإضافات بالغة الثراء للإبداع الروائى، وهو شىء يفرح له كل محب للأدب.
هذا وبعض الروايات علامات، علامات فى مسيرة كتابها تشير إلى تحول كبير، وإذا ما تصادف أن كانت هذه الرواية هى الأولى لكاتبها فهى بشارة بمولد روائى يرجى منه الكثير فى مقبل الأيام، ولا أتردد فى القول بأن رواية “عين القط” لحسن عبدالموجود رواية علامة بهذا المعنى، وأدعو من قلبى أن تتحول البشرى إلى واقع نكسب بفضله روائياً ممتازاً فى مستقبل قريب.
تخلّص الكاتب أولاً فى هذه الرواية من عيب يشوب الكتابات الأولى للشباب وهو الرثاء للذات، فإذا كانت مجموعته القصصية الأولى “ساق وحيدة” تكشف عن حساسية مؤكدة، بل مفرطة، إزاء الألم الإنسانى، وتقع فى فخ الإدانة المباشرة للقيم وللشخصيات التى يكرهها الكاتب، فهو فى هذه الرواية الجميلة يتجاوز ذلك ليطل على العالم بعين الفنان الحقيقى التى ترى كل جوانب الصورة وتترك للقارئ مهمة الإدانة أو التبرئة أو التعاطف أو تعليق الحكم، و”عين القط” أنسب عنوان وأنسب وسيلة لهذه الرؤية.
فعين القط لماحة، سريعة الحركة، ترى وترصد وتجاور الأشياء وتناقضها دون أن تتطوع أو تبالى بالتفسير أو الحكم على ما ترى، ولكن نتيجة هذا الرصد المدهش والمتتابع للجزئيات وللشخصيات كما يسجله الورائى يفجر فى وقت واحد الفكاهة والأسى والمفاجأة والتعاطف والغضب ويجعل القارئ شريكاً للقط وللروائى فى لملمة مئات أو آلاف الصور المبعثرة ليكون بنفسه فى النهاية لوحة جدارية لتلك القرية التى نعرف عنها فقط أنها فى الصعيد وأنها تجاور نجع السناوى.
وربما كان أول عنصر أحب التوقف عنده هنا هو عنصر الحس الفكاهى أو المفارقة النابعة من تتابع الأحداث.. ليس فقط للإشادة بقدرة الكاتب على خلق هذه المواقف بدرجة عالية من التلقائية والنجاح دون أى تصنع وإنما لأن رصد المفارقة والجانب الفكه فى الحياة فى إطار وقائع مؤلمة فى حد ذاتها هى شهادة للكاتب، على المقدرة على تجاوز ذاته لرؤية الحياة فى تكاملها حتى ولو كان هو نفسه مصدر الضحك.
ولنأخذ مثالاً من مقطع صغير فى الرواية بلغة الكاتب نفسه:
“فى كل مرة يقابلنى سعفان يسألنى واد مين إنت؟ وحينما أجيبه يبدى تهللا ويقول إبقى تعال بيت عمك، وبعد أن اعتبرته عمى وذهبت بالفعل إلى بيته سأل زوجته: واد مين؟ أخبرته، فنظر إلىّ قائلاً عيال إيه ولاد الكلب دول.. مالكمش بيوت تقعدوا فيها؟!”.
هذا المقطع هو من رواية تتضمن أحداثاً من بينها القتل والمعارك التى يدوى فيها الرصاص ويسقط الجرحى وهموم أخرى لا حصر لها ولكن انبثاق الفكاهة المفاجئة والعفوية وسط تلك الأحداث دليل على قدرة الكاتب على رؤية الحياة من جوانبها المختلفة، وهى من ثم دليل على النضج، والفكاهة بطبيعة الحال ليست هى الوسيلة الوحيدة لتقديم هذه الرؤية المتكاملة، فلكل كاتب طريقة فى رصد مفارقات الحياة، ولكنى أشير فقط إلى أن حسن عبدالموجود قد اختار هذا المنهج فى روايته الأولى وأنه حقق فيه نجاحاً باهراً.
وتحضرنى بهذه المناسبة عبارة أذكرها كثيراً للمسرحى الفرنسى الشهير جان لوى بارو يقول فيها إن الملهاة أشد حزناً من المأساة، قول صادق تماماً، فقد ابتسمت كثيراً وضحكت أحياناً وأنا أقرأ هذه الرواية ولكن الانطباع النهائى الذى تركته فى نفسى هو نوع من الأسى على أبطال أو شخصيات تلك القرية المنسية وعلى القرية ذاتها وتلك كما قلت هى شهادة للكاتب.
بطل هذه الرواية إذن وراويها هو قط اسمه قط وهو يتحول فى بعض الأحيان إلى قط حقيقى أو يتقمص قطًا حقيقيًا يرى العالم بعينه.. وفى المشاهد التى يروى فيها كشخص حقيقى أو كطفل فهو يسرد لنا الأحداث بشكل مباشر ومحايد ويقدم لنا الشخصيات الأخرى بلمسات سريعة كما يراها بعين طفل فى حدود العاشرة من عمره، هناك أسرته ـ والده الصارم القاسى فى أكثر الأحيان، وأمه التى تحنو عليه وتصدق على عكس أبيه أنه يتحول بالفعل إلى قط حقيقى عندما يحل الليل، وهناك أيضا جده، وزوجة جده لأبيه، وعمه – وهم يسكنون جميعا فى بيت واحد، أما جدته لأبيه فتسكن مع عمته فى بيت مستقل، وهذه الشخصيات القريبة هى محور الأحداث فى الرواية، وإلى جانبها حشد من الشخصيات الأخرى تكمل صورة القرية والأحداث، أبرزها الفتن، ولن ألخص الرواية أو أحداثها لأترك للقارئ متعة اكتشافها ولكنى أريد الإشارة فقط إلى الاختلاف فى منهج السرد بين ما يحكيه الراوى عن الأحداث التى يراها مباشرة وتلك التى يراها حين يتقمص القط، قد لا يكون الاختلاف فى الرؤية كبيراً ـ فعين الطفل الراوى هى أيضا عين لاقطة كعين القط، ولكن الاختلاف فى الإيقاع ملحوظ تماماً، حيث تتابع المشاهد والجزئيات بسرعة دون فاصل أو تمهيد، ويمكن أن نقارن مثلاً بين مشهد لقاء الراوى بحناوى فى أول الرواية حيث يجسد فى مشهد متكامل وطويل نسبياً بالمقارنة مع بقية الرواية شخصية ذلك “الخباص” الذى يحاول أن يستدرج الأطفال لمعرفة أسرار البيوت، كما يجسد احتقار أطفال القرية له، وفى مقابل ذلك مشهد آخر يستغرق نفس الحجم تقريباً فى الرواية ولكنه من منظور القط ويحفل بجزئيات ومواقف متعددة غير مرتبطة يراها القط الذى ينتقل من عشة الفراخ التى يرصد الحركة داخلها، إلى وصف تفصيلى للسلم وللفرن، إلى مشهد بين عباس السائق وعشيقته، إلى جلسة فى محل سعد حلاق القرية وشاعرها.. إلخ ص64 من طبعة دار ميريت للراوية.
تفجير اللغة الشاعرية
ولا أريد أن أترك مسألة اللغة والإيقاع قبل الإشارة إلى أن حسن عبدالموجود يحقق من خلال البساطة المتناهية فى الأسلوب جواً شاعرياً حقيقياً يغلّف العمل بأكمله، تحاول روايات حديثة أخرى تحقيقه عن طريق ما يوصف بتفجير اللغة أو المقاطع شبه الشاعرية أو الغنائية التى تتخلل النثر الروائى وكثيراً ما تفسده.
ومسألة أخرى كان يحبها أستاذنا يحيى حقى، وهو على حق، أى استخدام كلمات عامية ذات جرس خاص لا يتحقق من خلال الفصحى مثل” جسمه مسوهج” أى محموم أو “الرصاصة زوّت جنب ودنى” وتأتى مثل هذه الألفاظ فى مواضعها دون إسراف أو رغبة مفتعلة فى الإدهاش فتنقل للقارئ جو القرية ولغتها المميزة وتكسب الأسلوب تفرداً خاصاً.
وفى سياق هذه الملاحظات السريعة عن رواية عين القط أود الإشارة إلى أنى قد توقفت عند نقطتين محددتين أثناء قراءتى لها:
أولاهما هى شخصية حناوى الذى يبدو منذ اللحظة الأولى أو المشهد الأول فى الرواية شراً مطلقاً ـ فهو يؤلب الأهالى على بطرس الحلاق ثم يكون بعد ذلك سبباً فى مقتل ابنته، وهو يؤلب نصف القرية من الفلاحين على نصفها الآخر من الحلب أو المساليب وبدا لى ذلك دون دافع محدد غير حقد دفين فى النفس ضد الضعفاء بالذات، وقد سألت نفسى إن كان ذلك مبرراً فى الإبداع الروائى ثم تذكرت أن هذا الشر الطليق هو جزء من حقائق الحياة حتى وإن لم نجد له التبرير داخل الرواية ذاتها، ألا يتساءل القراء والنقاد حتى الآن مثلاً عن سر حقد ياجو على عطيل فى مسرحية شيكسبير الشهيرة دون أن يتوصلوا إلى دافع مقنع غير أنه هو ذلك الحقد الطليق؟
أما الملاحظة الثانية فهى أننى لم أكن مرتاحاً فى أول قراءة للرواية إلى نهايتها التى بدت لى مفاجئة ومبتورة، لكنننى فى القراءة الثانية وجدتها نهاية مفتوحة قد تكون منطقية، فإذا جاز استخدام كلمة الصراع لوصف علاقات الشخصيات فى هذا العمل، فإن الصراع يظل مفتوحاً فى واقع الحياة وفى الرواية على حد سواء.
على أن هاتين الملاحظتين لم تؤثرا أبداً على استمتاعى بهذه الرواية الفاتنة التى أتمنى كما قلت منذ البدء أن تكون فاتحة لإبداع جديد ومستمر يسعدنا به حسن عبدالموجود.