اللغة اللعوب والحكي المعتق في رواية “حانة الست”

حانة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

خمر محمد بركة  حين ينسكب في حقل البلاغة الشعبية

علاء البربري

 “حانة الست”رواية  تدعوك للسكر الحلال بأحداث معتقة لم يعرف بها إلا القليل في كؤوس من لغة رائقة رشيقة حتى لو نفد الشراب منها تستمتع بها وحدها.هذا على الأقل ما جال بصدري وأنا أنتظر أن تهدأ عاطفتي بعد قراءة هذا النص العبقري للأديب محمد بركة. أما بعد فنحن أمام نص حر يتعدى – في رأيي – التصنيف التقليدي، فليس مجرد  رواية محضة ولا هو تحقيق صحفي استقصائي ، ومن نافلة القول أن الكاتب يمتهن العمل الصحفي وخبير به، ولا هو قصة طويلة أو نصا مسرحيا … هذا النص الحر يولد بطبيعته طريقة التلقي الحرة بلا قواعد مسبقة تحدد حوافه وطرق حكيه، غير أن الجانب الذي تركز عليه هذه القراءة هو جانب لغوي أسلوبي ليس إلا، مكتفيا من القراءات العديدة التي طالعتها عن ” حانة الست” بما قدمته من كشف واع وأصيل لعناصر العمل الأدبي أيا ما كان مسماه. محمد بركة يقول مايقول ببركة دعاء الوالدين فأي مايسطره طازج ومنعش وكاسر للرتابة الحكائية وذلك بفضل مزجه بحساسية ميزان الذهب لكلماته وحروفه المختزنة في ذاكرته من التراث الشعبي ومن النص المقدس القرآني مستخدما في أكثر من موضع خفة دم “المصري” ونكاته ولو في أحلك لحظات حياته وأشدها. لنجرب معا فتح أي صفحة عشوائيا من نصه الحي هذا ، يصف الراوي الذي استخدمته ” الست” ليحكي ما خفي من حياتها للعالم المبهور بصوتها موقف مقابلة بطلتنا وهي صبية في أحد كتاتيب السنبلاوين لمفتش وزارة ” المعارف” بعد أن انتقمت من زميلتها بإتلاف لوحها “الإردوازي” و لننظر ونحن في بدايات النص بماذا شحن محمد بركة لغته ؛ فأم كلثوم التي تعترف لراوي قصتها ” المحجوبة”  بأن موهبتها ليست فقط في الغناء بل في التلاعب بالرجال أيضا تحتار بأي اسم تجيب مفتش المعارف الذي سألها اسمك ايه ياشاطرة؟ “احترت بأي اسم أجيبه ، الاسم الذي اختاره أبي وفق نظرية الديكتاتورية الناعمة أم أخبره بالاسم الذي اختارته أمي كنوع من المقاومة الشعبية “.

إذن هي ديكتاتورية ناعمة لأب أمام مقاومة شعبية لأم، هكذا وببساطة شديدة وخفة يلخص “بركة” عبر لسان صبية واعية ما يحدث في الريف وربما في الوطن العربي كله والأوطان المشابهة حيث يتم اختيار اسم المولود فيطلق عليه اسمين. ولننظر إلى هذا الوصف :” شارب يقف عليه الصقر ، رجاحة عقل تؤهله لتولي أمانة الجمعية العامة للأمم المتحدة ، حتى يراني. يسقط من عليائه إلى الأرض وهو يصيح : أنا حمارك يا سيدتي فأنعمي علىّ واركبيني!“التراث الشعبي يستدعي ” شارب يقف عليه الصقر ”  و القراءة الساخرة لمواقف الأمم المتحدة من شجب وإدانة وطاعة لمن يدفع أكبر الأسهم تجعل الراوية ترى مفتش المعارف حمارا محتملا ولو كانت رجاحة عقله تؤهله للمنصب الخطير !

و يقول “بركة ” على لسان الصبية الذكية الانتهازية: وبدلا من أن تكون تلك الإشادة نيشانا على صدري ، كانت عظمة شهية معلقة برقبتي جعلت كلاب السكك الضالة لا تكف عن مطاردتي !

 ولا يخفى على القارئ أن تعبير ” كلاب السكك ” أيضا ينتمي لحقل البلاغة الشعبية بينما ” العظمة المعلقة في رقبة الصبية” ينتمي لجيش من تعبيرات المجاز “البركاوي”  لن نعدمه في أي صفحة من هذا العمل الذي أتمنى أن يدرس بلاغيا في كليات الآداب وكورسات الكتابة الإبداعية. وعشوائيا أيضا لنتوقف عند هذه الصفحة وهذا الموقف

الرجل الذي كنت أعتبره بطلا عتيدا لا يُقهر رأيت كيف لقروش معدودات أن تهزمه ، مرة بالقاضية و أخرى بالنقاط

هي تتحدث عن أبيها والراوي يقص لنا ما تقوله هي ، هذه هي اللعبة الحكائية التي اختارها محمد بركة .. حسنا، لكن انظر للقروش التي تهزم الرجل بالقاضية مرة وبالنقاط مرة ! انظر إلى رشاقة الانتقال من غرفة بالريف فجرا والرجل المسكين أبو أم كلثوم مهموم لأن العيد اقترب وليس معه مايشتري به للأولاد خاصة أم كلثوم ملابس العيد إلى حلبة ملاكمة ، المزج بين عالمين هكذا ببساطة ورشاقة لا تجدها – صدقني- عند كتاب كثيرين، بل انظر إلى الراوي الخفي الساخر وراء كل ذلك وهو يسخر في مرارة من حال أب لايحسن استشعار بهجة العيد ويندب حظه مقابل الفلاحة التي “تستدعي رصيدها الاحتياطي من الصبر”  في مثل هذه المواقف فتقول له ” تبات نار .. تصبح رماد ” فتصبَر البطل العتيد زوجها بمصريتها المعجونة بالصبر. قبل أن انتقل للمثال الأخير أود الإشارة إلى عين ذكورية اشتهائية لا نعدمها في كل أعمال محمد بركة وهي تصطاد كلماتها لوصف كاشف مدعوم أيضا بتراثنا الشعبي في الأغلب الأعم ورغم أن هذا ليس مقام الحديث عن هذه الزاوية إلا أن من المهم الإشارة إليه من خلال هذا الموقف حين التقت عين أم كلثوم بملامح فاتنة أربعينية وكأن الكاتب يلمح إلى الجانب الذكوري من صاحبتنا يقول الراوي\ الراوية :

جسد ليس بحاجة للي رقاب الرجال كي يعزز ثقته بنفسه. الفم يفوح بالنعناع والنهدان يحكيان مسيرة نبات إكليل الجبل والإبطان يعصفان بمزيج من اليوسفي والليمون. ولا شك عندي أن هناك،تفهمون ما أعني بالتأكيد، تهب بقوة رائحة العشب المجزوز.”.

 صفحة أخرى نختارها عشوائيا أيضا ونكتفي بهذا القدر من الرصد حتى لا نثقل على القارئ . موقف موت زعيم الأمة والحداد عليه ومحاولة العودة للغناء مع تسجيلات شركة أوديون نجد في النص المبهر :

رغم الطابع الفج لكلمات (صديق) الذي استعاد خبراته القديمة كصبي جزار يعرف من أين تؤكل الكتف” نفس التراث الذي يستدعي صورة محمد بركه يطل علينا من خلال صبي الجزار” صديق” الذي يعرف من أين تؤكل الكتف تأملوا انه ليس حتى جزارا يقطع شلو ذبيح ويبيعه بالكيلو بل يسخر منه الراوي\ الراوية ويهبط به درجة ليصبح مجرد مساعد جزار! ثم تكمل أم كلثوم التي أرادت أن يعرف العالم حقيقتها بلا رتوش كأنه التكفير بفن الاعتراف الكنسي فتقول في الفقرة التالية:

نجح القصبجي بعوده أن يغترف من أسرار مقام نهاوند ليعالج عيوب صوتي الحاد الرفيع آنذاك ويغطي على ركاكة الكلمات!”

وفي النهاية ، تبقى كلمة أخيرة : ادخلوا حانة الست آمنين وأعدمكم بكأس رائق شفاف يمتلىء بواحدة من أجمل تجليات لذة النص!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 أديب مصري مقيم بالكويت 

مقالات من نفس القسم