القسّ عيد صلاح*
تقدّم رواية طبيب أرياف للروائيّ المصريّ محمد منسي قنديل الصادرة عن دار الشروق في القاهرة 2021م تشريحًا دقيقًا وعاريًا للمجتمع الريفيّ المصريّ في نهايات السبعينيّات وبدايات الثمانينيّات من القرن الماضي، من خلال عين طبيب شاب خدم في إحدى قرى الريف المصريّ، ثم نُقل إليه بعد تجربة قاسية مع السلطة.
تعمد الرواية إلى عدم تسمية القرية صراحة، مكتفية بالإشارة إلى وسيلة المواصلات الشهيرة، الأتوبيس المسمّى «أحلاهم»، في دلالة رمزيّة على تعميم التجربة، وكأن القرية الواحدة تختصر آلاف القرى. ومن خلال علاقة الطبيب بالناس، وبالنظام الإداريّ، وبالموظفين والفلاحين، تكشف الرواية شبكة معقّدة من العلاقات المشبعة بالقهر، والاستبداد، والتواطؤ، والعجز.
بفضل ثقة الأهالي في الطبيب، تنفتح أمامه أسرار البيوت والقلوب، فيساعد من يستحق المساعدة، ويصطدم بمن يستغل جهل الناس ومرضهم. يشهد تزوير الانتخابات، وسطوة السلطة، ويُسجن على خلفية مواقفه، ليخرج من السجن إلى مصير أشد قسوة في صعيد مصر. وفي مسار آخر، يدخل في علاقة حب لم تكتمل، بل انتهت إلى الخراب، لتوازي في انكسارها انكسارات المجتمع من حوله.
ومن أبرز خطوط الرواية الموجعة قصة الحب بين أبانوب وجليلة، التي تنتهي نهاية مأساوية: يُطرد أبانوب من البلدة بسبب كونه قبطيًّا، في واحدة من أكثر لحظات الرواية فضحًا للعنف الطائفيّ الكامن، وتُقتل جليلة بعد أن تُجهض نفسها من ثمرة هذا الحب المستحيل. هنا يربط قنديل بين القهر الاجتماعيّ، والدينيّ، والجسديّ، في مأساة واحدة كثيفة الدلالة.
تكتسب الرواية أهميتها من كونها شهادة فنية على المجتمع الريفي من الداخل: طبقاته، شرائحه، أمراضه، جهله، حرمانه، عزلاته، وأحلامه المؤجلة. مجتمع غارق في الضرورة، ومشدود إلى بنية قمعية تحكمه من أعلى، بينما يتآكله العجز من أسفل. وقد نجح محمد منسي قنديل، ببراعة الحكي ودقة التفاصيل، في تسجيل تشابكات هذه القضايا، وربط مصير القرية المهمَّشة بالهمّ السياسيّ الأكبر للوطن.
لهذا، فإن طبيب أرياف ليست مجرد رواية عن طبيب يعمل في الريف المصريّ، بل وثيقة اجتماعيّة وإنسانيّة هذا الريف المصريّ المهمش البعيد عن أعين المسؤولين، في واحدة من أكثر مراحله قسوة. وهي قراءة واجبة لكل من خدم أو يخدم في الريف، ولكل من يريد أن يرى مصر من هامشها المنسي.
أما على المستوى الشخصي، فقد انتهيت من قراءة الرواية وأنا مشدود بين الدهشة والحزن؛ إذ إنني وُلدت ونشأت في الريف حتى المرحلة الإعداديّة، ثم خدمت فيه كقسّيس لاحقًا، وأعرف كثيرًا من هذه التفاصيل عن قرب. ومع ذلك، فقد أبهرَتني الرواية بصدقها، وأوجعَتني بمرآتها التي لا تُجامل. وهي تعطي صورة مكتملة لما دونه توفيق الحكيم في يوميات نائب في الأرياف، ورواية بيت القبطية لأشرف عشماوي.
هذه رواية لا تُقرأ للتسلية، بل للشهادة. لكل من عاش في الريف، أو خدم فيه، أو من يريد أن يعرف عنه، أو مرّ به يومًا دون أن ينتبه لوجعه الخفي.
…………………….
* باحث في التراث العربيّ المسيحيّ، راعي الكنيسة الإنجيليّة بعين شمس، القاهرة





