خالد البقالي القاسمي
بدعم من وزارة الثقافة والاتصال المغربية صدرت للمبدع عبد الإله حبيبي عن مكتبة سلمى الثقافية بمدينة تطوان بالمملكة المغربية رواية ” سيرة الجندي المجهول “، وقد نشرت الطبعة الأولى للرواية سنة 2019 بمطبعة الخليج العربي بمدينة تطوان. تتشكل الرواية من مائتين وسبعين صفحة متوسطة الحجم، ويعد هذا الإصدار الرواية الثالثة للمبدع بعد صدور رواية “بيوس أو طفل الحكمة والطقوس” سنة 2011، ورواية “نحيب الأزقة” سنة 2016. عبد الإله حبيبي يشتغل بالفلسفة ولذلك فإن نصوصه الروائية تتميز بعمق الرؤية، وبعد النظر، ودقة التناول، حيث تغري كثيرا بالقراءة، والتتبع، والفهم، والتفسير، والتحليل، ومن ثمة التأويل. المبدع يعرف جيدا ماذا يكتب، وماذا يقول، نصوصه تجدها مشرعة أمام المتلقي، يكفيه أن يتعامل معها، ويقلبها على وجوهها لكي يقف على قيمة أبعادها الفنية، والأدبية، والدلالية.
رواية “سيرة الجندي المجهول” تعد واحدة من النصوص القليلة التي تتميز بطابعها الأدبي وهي تتناول مرحلة هامة من تاريخ المغرب، فالنصوص الروائية التي صدرت في هذا المجال نادرة للغاية، ولذلك سجلت هذه الرواية قصب السبق في تربعها على شاشة تمرير بعض من أهم صور عربدة الاستعمار الفرنسي في المغرب، بالإضافة إلى عملية التجنيد الواسعة التي قادتها القوات المسلحة الفرنسية والتي بموجبها عملت على تعبئة عدد هائل من الشباب المغربي لكي يساهم في مواجهة الدولة الألمانية التي كانت في حالة حرب مفتوحة مع الدولة الفرنسية إبان الحرب العالمية الأولى، لقد اعتبرت فرنسا أن شباب مستعمراتها عبارة عن وقود للحرب ضد ألمانيا، عليهم أن يشاركوا فيها برغبة أو بدونها. لقد كان هذا النص الروائي بأدبيته الفنية الجميلة ناقلا أمينا للأساليب غير المقبولة التي مارستها فرنسا عن طريق نزع شباب مغربي فتي من أسره الفقيرة المعوزة مستغلة فاقة هذه الأسر قصد جر هؤلاء الفتية إلى أتون حرب طاحنة ليس لهم فيها رغبة أو فائدة.
لقد وسم المبدع روايته بالسيرة، والسيرة لا تعني دائما أحداث الحياة الماضية، إن السيرة ليست الماضي فقط، وليست الذاكرة فقط، بل هي كذلك الطريقة والمنهج، والروائي بهذا العمل يعود بنا إلى عبق الماضي، مستحضرا مختلف أنواع الروائح التي ثبتت ورسخت بفضل العناصر الأربعة الأساسية للحياة، وبغض النظر عن تحليل ” غاستون باشلار ” العميق لهذه العناصر وطبيعتها، فإنني أرى أن هذه السيرة تستدعي سياق عنصر خامس، وهو السماء، لأنه بين السماء والأرض، وفي ساحات المعارك، وداخل الغابات، وفوق الجبال، نسجت رواية ” سيرة الجندي المجهول “.
لقد عمد المبدع إلى تصدير الرواية في شكلها الجمالي الفني عن طريق تقسيمها إلى فصول أو أجزاء، كل فصل أو جزء يحمل عنوانا خاصا مغايرا، وقد وردت في هذا السياق العناوين الآتية: ” الطريق نحو الثكنة – ص.7 “، ” رحلة العقاب – ص.47 “، ” لقاء مرسيليا – ص.65 “، ” لوعة الفراق – ص.89 “، ” في أهوال جبهة القتال – ص.101 “، ” نادلة الجنود – ص.109 “، ” الرحيل – ص.125 “، ” القرية الألمانية – ص.129 “، ” صمت المدافع – ص.141 “، ” ميشيل في خدمة المرضى المغاربة – ص.163 “، ” في الطريق إلى بلدة عبد الله – ص.179 “، ” رحلة في شعاب الموت – ص.195 “، ” ميشيل في ضيافة غير المتوقع – ص.215 “، ” ************** ص.260″، فهي إذا أربعة عشر عنوانا، كل واحد من هذه العناوين يدل على أحداث خاصة ترتبط ببعضها البعض وتشكل في مجموعها النص الروائي عن طريق البناء بالتراكم، كل عنوان يسجل هويته ويعتبر إضافة تراكمية للعنوان الآخر، وهو ما شكل تنامي السرد بطريقة جمالية فنية أنتجت لنا النص الروائي، وقد لجأ المبدع إلى تقنية العناوين لكي يتحكم جيدا في المادة التي بحوزته عبر الذاكرة أو التسجيل، لقد كان الروائي يشتغل عن طريق توظيف مفهوم ” الوفرة “، حيث إن وفرة المادة الحكائية لديه كانت تفرض عليه اللجوء إلى تقسيم النص الروائي عبر عناوين مستقلة لكي يكون موجها دقيقا لعملية الحكي حتى لا يقع له تيه في سياق الأحداث والوقائع بسبب وفرتها وكثرتها، ويمكن أن نعتبر أن كل عنوان أصل في الرواية وبنائها، كل عنوان مستقل بذاته، ولكنه مرتبط بطريقة عضوية مع العناوين الأخرى، إنه منطق ارتباط السابق باللاحق، وتعلق اللاحق بالسابق، سرد في شكل تسلسل منطقي صارم لا يمكن أن يخرج عن الدائرة المرسومة له بدقة. العنوان الأخير تركه الروائي مسودا، لم يضع له عنوانا معبرا، لقد تركه يتيما بدون سند، والأصل أن هذا العنوان الأخير يسجل ضمن المجموع بعدا جماليا، لكونه يتوفر على وضعية خاصة، حيث من كثرة الهموم، وكم الحزن الهائل، والعدد غير المحصور من المآسي التي طبعت النص الروائي فإن المبدع لم يستطع اقتراح عنوان معبر يفي بالغرض المقصود ويعكس الوضعية النفسية الحرجة للشخصيات، فاكتفى بوضع سواد بالغ التعبير عن الوضع القائم المتجسد في عودة الفرنسية ” ميشيل ” إلى فرنسا وهي تعاني كل أنواع الإحباط، والانهيار، والخواء بعد موت أو استشهاد حبيبها المغربي ” عبد الله “. هوال
رواية ” سيرة الجندي المجهول ” هي رواية للمكان بامتياز، حيث للمكان في الرواية مفهومان: مفهوم العمق الباطني، ومفهوم العمق الخارجي، هناك طبيعة نظرة الجندي ” عبد الله ” و الجندي ثم المقاوم ” حمو ” للمكان، ثم طبيعة رؤية وطريقة نظرة الفرنسية التي أحبت عبد الله بشدة ” ميشيل “، والراهبة الفرنسية في بلاد المغرب، والطبيب العسكري المرافق لهما ” دولاكروى ” للمكان في المغرب. كل طبيعة مكان تعبر عنه رؤية مخصوصة، المدينة الفرنسية ” مارسيليا ” بالمؤنث التي تحولت فجأة إلى رحم يبتلع جميع الشباب المغربي اليافع الذي وصل على متن بواخر مهترئة للمشاركة القسرية في الحرب ضد دولة ألمانيا، إنها مدينة تؤجل الموت المحتوم ضمن حياة مقتنصة، منفلتة، هاربة، إنها مكان أفسح للفرنسية ” ميشيل ” المجال للحب، سيتعرف ” عبد الله ” على فرنسية حسناء، صدمة المكان داخل حيز صدمة الأنثى في قلب وعقل المغربي اليافع، ” ميشيل ” هي أول أنثى يتعامل معها الذكر ” عبد الله “، لقد حركت أحاسيسه وعواطفه، مع التأكيد على أننا نشير في هذا السياق إلى مفهوم الجنسانية، لقد أحبت ” ميشيل ” الجندي المغربي ” عبد الله ” حبا ممزوجا بالهشاشة الاجتماعية، بالعاطفة والشهوة، لأنها من النوع الذي يعشق عبق الشرق، وأصالته، وروائحه، وذكوره، ” ميشيل ” عرضت حبها على ” عبد الله ” بهويته المجروحة، وماضيه المؤلم.
بالنسبة لمفهوم الزمن فقد استطاع المبدع أن يوظف عدة صور له في بناء النص الروائي، ولكن يبقى الزمن الطاغي في الرواية هو الذي يعبر عنه في الأدبيات النقدية بالزمن ” المروي “، لقد كانت للمبدع قدرة فنية على جعل الزمن مساوقا ومحايثا لجميع الأحداث، بحيث كلما عرج على حدث إلا ومرغه في شظايا زمنه، فحق لنا أن نشير إلى الزمن الفرنسي، والزمن النفسي، وزمن الحرب والمعارك، وزمن قمة السرد في أعالي الجبال، وزمن سفح السرد في ربوع السهول…
لقد تمكن المبدع من المزج جيدا بين الزمن والمكان في الرواية، حيث في أعلى قمم جبال الأطلس المغربية كان ” عبد الله ” قد استطاع أن يضبط بدقة مفهوم التنقل بين الماضي والمستقبل عن طريق صهر الزمن الإنساني بالمكان، والزمن الإنساني هو الذي يضمن الفاعلية السردية للآليات التخييلية الإبداعية، إذ هو خليط من الآمال والتطلعات والأحلام، والانهيارات والإخفاقات والإحباطات…، ويحقق هذا ما يصطلح عليه في الفكر الألماني ” بفضاء التجربة “، حيث أفلح ” عبد الله ” في استحضار هيرمونيطيقا التاريخ، أو إن شئت أفلح في تأويل الزمن التاريخي، ولا يؤول الزمن التاريخي بمعزل عن المكان.
تشغيل الذاكرة من طرف السارد، وتشغيلها من طرف الشخصيات كان المبدع موفقا في تحقيقهما عبر تناغم بين السيرة من جهة، وبين الحكي بضمير الغائب من جهة أخرى، ويفضل الروائي ترك الحكي لسارده الذي يحسن الرجوع إلى الماضي لكي يستحضر الغياب ويعيد نسجه من جديد عن طريق المزج بين الواقع والخيال. إننا نتحدث في هذا السياق عن الذاكرة بالصيغة الأفقية، حيث تروى الأحداث وتسترجع حدثا بعد حدث بطريقة منتظمة عبر توارد الحكي في صيغة سلاسل سردية أو ما يصطلح عليه فلسفيا بالحقل العباري. ثم الذاكرة بالصيغة العمودية حيث يتم تشغيل الخيال، وتوليد الأفكار، واجتراح المغيب الإبداعي. إن الذاكرة لا تعني دائما الاسترجاع، بل هي تمتلك كامل القدرة على تفجير الطاقة التخييلية وتشغيلها ضمن حقول متنوعة، وضمن الرواية عمل هذا التنوع على توليد الحكي، إذ كل عنصر في الرواية يولد الحكي عبر مشاركة الشخصيات في بناء الأحداث. لقد ضمن لنا كل من نوعي الذاكرة المذكورين في الرواية إيراد السياقات التاريخية عبر استحضار الغياب، ثم تقنية الحوار بين الشخصيات التي كانت تكسر طبيعة الحكي بضمير الغائب، ويصبح الحكي حضورا مباشرا، ثم يعود كالموج متراجعا إلى…السيرة…إلى…الماضي.
ثم إن الهوية حاضرة في النص بطريقة واضحة، بل طاغية، ولكن طريقة تشغيل الهوية في الرواية كانت طبيعية ومنطقية أمام الاجتياح الفرنسي، فهذا التشغيل لم يكن يسقط في الإسفاف فيصل الأمر إلى درجة الذل والانهيار، ولم يكن يسقط في التطرف فيصل الأمر إلى درجة الشوفينية والانحدار. لقد مجدت الرواية ما يصطلح عليه بالهوية الجماعية، وقلصت كثيرا من طموحات الهوية الفردية.
شرارة الهوية تفجرت في النص الروائي في عدة مواقع وأحداث، الهوية الرجولية لدى الجندي ” عبد الله “، والجندي ” حمو ” عندما رفضا بشدة تدخل العقيد في الجيش الفرنسي أبو ” ميشيل ” في أمر إعفائهما من الذهاب إلى جبهة الحرب أمام ألمانيا. موقف ” عبد الله ” و” حمو ” من ضابط الصف المغربي ” العوني ” الذي كان يذل نفسه ويهمل عمق هويته. ثم المثال الحي لعمق الهوية، وحضورها الطاغي في الرواية عندما كلفت قيادة القوات المسلحة الفرنسية ” ميشيل ” والراهبة ” كاترين “، والطبيب العسكري ” دولاكروى ” بحمل جثمان الشهيدة المغربية المقاومة ” إيطو ” وإيصالها إلى أهلها في أعلى قمم جبال الأطلس بعد أن قتلها الجنود الفرنسيون، لقد تمظهرت الهوية التي يمكن أن نسميها بالهوية ” الحاضنة ” وهي تجسد الكبرياء الشامخة في قبول دمج ” الآخر ” ضمن ” الذات ” رغم غدره بالشهيدة، والعمل على إنزاله منزلة الضيف المرحب به والمحمي من طرف القبيلة الأمازيغية، ثم انصهار الفرنسية العاشقة ” ميشيل ” في عمق هذه الهوية بجوارحها، ووقوف الراهبة موقف المحايد، واتخاذ الطبيب العسكري المخابراتي ” دولاكروى ” موقف الحذر، والتوجس، والاحتياط، والشك أمام هذا الهوية المبهرة والمرعبة، وهي في أوج عنفوانها.
لقد قدم المبدع ” عبد الإله حبيبي ” النص بواسطة خصائص المدرسة الفكرية الألمانية، وذلك عن طريق سرد الوقائع أو الأحداث التاريخية، معرضا بذلك عن مدرسة الحوليات الفرنسية التي تلغي التركيز على الحدث التاريخي، فكان حسب هذا المنوال وفيا ” لمارتن هيدغر ” في النظر إلى أنطولوجيا الفهم، والتفسير عبر رؤية تاريخية، زمانية، قصدية.
ويدلنا هذا السياق على أن النص الروائي غير مكتمل، وعدم الاكتمال صيغة من صيغ التأويل، وعندما ننظر إلى النص الروائي تأويليا يصبح لامكتملا، بمعنى حقيقيا على المستوى الفني والجمالي. ويصبح التأويل منطقيا ومشروعا ضمن هذا النص الروائي تبعا للأقواس الدلالية غير المكتملة التي نجدها متعددة في ثنايا الحكي، كانت البداية لدى المبدع قوية معلنة بواسطة موت ” رقية ” أخت ” عبد الله “، وهذا يدلنا على أن الرواية تؤرخ للفاجعة بالموت وبؤس الجماعة، وهنا جعلت الرواية الموت مركزا للتفكير قبل الحياة. ثم هذا الحديث عن العودة الأبدية التي تتجدد في كل مرة، عودة ” عبد الله ” بأغنامه، وعودة الرجل الخمسيني وحده، وعودة المهدي المنتظر… دائما في الثقافة العربية هناك عودة، وهي عودة لا تكتمل أبدا. بعد موت الأب أصبح ” عبد الله ” مطالبا بتعويضه، وهذا عنصر آخر من عناصر الثقافة العربية، البديل، لماذا يجب أن يحل الواحد محل الآخر؟ لماذا عليه أن يتقمص الدور بفظاظة؟ لقد كان الفتى ما زال صغيرا يافعا، لا يعرف كثيرا من الأمور التي ينبغي أن تؤهله لتحمل المسؤولية، ما زال في حالة دهشة وفجيعة، لقد وجد نفسه فجأة عسكريا ضمن جند الفرنسيين، وأصابه الاستغراب الشديد عندما نسج أولى علاقاته بالمرآة، بواسطتها اكتشف ذاته، وتعرف على أناه، وكانت هذه بداية الوعي بالذات والعثور على حقيقة الوجود بما هو موجود، إذ عبر المرآة اكتشف عبد الله ذاته داخل حيزها التاريخي وانتقل بعدها إلى التدرج المكاني للشعور باعتباره معطى واعيا، واللاشعور باعتباره معطى تأويليا، بهذه الطريقة تعلم ” عبد الله ” ولوج الخيال بالهروب من الواقع المر للمعسكر الفرنسي، والتحليق عاليا في عالم فسيح من الخيال الخاص، وأخيرا سقط صريعا شهيدا في أعالي قمم جبال الأطلس الشامخة برصاصة من جندي فرنسي، وكأن قتله ويا للمفارقة كان عبارة عن عرفان جميل بخدمته في الجيش الفرنسي ومحاربته القوات الألمانية دفاعا عن مجد فرنسا. ……………………….
*كاتب وناقد من المغرب