روائع الأدب خلف قناع الطفولة

هانز كريستيان
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. عـزة مـازن

بعد أكثر من قرنين من الزمان ورغم التقدم التكنولوجي وثورة الاتصالات والمعلومات لاتزال حكايات الإنجليزي “لويس كارول”، والألماني “هانز كرستيان أندرسون” تجتذب الصغار والكبار، تحكيها الجدات فتبقى حية في وجدان الأطفال في كل زمان ومكان. حكايات بسيطة بريئة تتوجه للصغار في إطارها العام، ولكن خلف قناع الطفولة تكمن دلالات رمزية يفسرها الكبار، وفي رداء البساطة يتدثر العمق. حكايات بسيطة من القرن التاسع عشر تثير جدل الباحثين والنقاد في القرن الحادي والعشرين.

    على مدى ما يزيد من قرن من الزمان ظل اسم لويس كارول، وهو الاسم القلمي لتشارلز رودجسون (1832 – 1898)، يستحث الباحثين ويثير خيال الأطفال. استغل كارول موهبته في اللعب بالكلمات والرموز ليحمل الناس على أجنحة الخيال إلى عالم يتحدى قوانين العصر الفيكتوري وقواعده الصارمة. فرغم براءتها الظاهرة لم تكن حكايات “أليس” سوى تحدياً للعصر الفكتوري وأطره الفكرية والأخلاقية. وفي ذلك ترى ويندي فون، من جامعة براون، أن قصة “في المرآة” تحمل نقدًا لاذعًا للتفرقة العنصرية السائدة في ذلك العصر. ففي الغابة تسير أليس ومعها الغزال الصغير، تلف ذراعيها حول رقبته ، أما عندما يخرجان منها ينفلت الغزال ويصرخ قائلاً: “ما أنا سوى غزال صغير وأنت طفلة من بني البشر”. وتلمع في عينيه نظرة رعب، ثم يجرى مبتعداً بأقصى سرعته. غابت الأسماء في الغابة، ولم يدرك الاثنان سوى سعادة كل منهما بصحبة الآخر. ولكن ما أن يتركا الغابة حتى يدرك الغزال حقيقة الأمر، ويعرف أن أليس طفلة من البشر، فيجري مبتعدا في خوف. وبذلك تتضح فكرة كارول في أن التفرقة العنصرية في انجلترا لا تقوم على المعرفة إنما على الجهل ومحض مسميات. أما الباحثة ماي لي فتشير إلى نقد كارول لقيم التعليم السائدة في العصر الفيكتوري. فعلى مدى حكايات “أليس” تشير الفتاة إلى رقي تعليمها، وتجتر ما تعلمته في فخر واعتزاز، إلا أن المعلومات التي تتذكرها تبدو دائماً إما خاطئة أو عديمة الفائدة. فقد اعتمد التعليم التقليدى في العصر الفيكتوري على اللاتينية والإغريقية وكانت مهمته أن يخرج أسيادًا مهذبين. ومن ثم فكل ما لدى أليس من معلومات ينحصر في مقولات أخلاقية عن الطاعة والآمان. وبذلك يرفض كارول التعليم والسلوكيات السائدة في ذلك العصر، مؤكداً على قيمة الخيال لدى الطفل. ويرى الباحث جوشوا بلوستين أن كارول يوجه نقده اللاذع إلى النزوع الرأسمالي في ذلك العصر، والرغبة المحمومة في امتلاك الأفضل . ففي قصة “في المرآة” أيضًا يتمحور الحدث حول الرغبة في الحصول على الأجمل. وتري جلين دوني، من جامعة كلومبيا، أن الحكاية نفسها  تنتصر للمرأة وتدرك مأزقها في ذلك العصر. وهي في هذا الصدد تقتبس قول أليس للفارس الأبيض “لا أرغب أن أكون سجينة أحد. أريد أن أكون ملكة”. تؤكد الباحثة أنه بتلك العبارة يبين كارول كيف أن أليس سجينة عجزها عن الخروج من مأزقها، لأن عليها أن تختار بين نموذج السلوك لدى الملكة البيضاء الطيبة التي لا حيلة لها أو الملكة الحمراء القادرة والوضيعة في نفس الوقت.

    تتعدد الحكايات ويعيش الأطفال مع أليس في عوالمها السحرية، تشحذ أفكارهم وتثير خيالهم، وفي الحكايات نفسها يقرأ الباحثون ويحللون نقد كاتب يسخر من عصر بأكمله. ربما كانت حكايات كارول للأطفال ارهاصاً ألهم كتاب القرن العشرين، مثل جورج أورويل في روايته “مزرعة الحيوانات”.

   وقبل أن يعرف العالم الكاتب الانجليزي لويس كارول، كان الدنماركي هانز كرستيان أندرسون (1805 – 1875 ) ينسج بعضاً من أروع القصص والأساطير التي عرفتها الإنسانية، فكانت قصصه التي استوحت التراث الشعبي الشفاهي في بلاده، وغيره من التراث الشعبي في العالم، ومنها “عروس البحر” و”البطة القبيحة” و”ملابس الإمبراطور” و”الحذاء الأحمر” وغيرها.  وقد لمس النقاد في قصصه عمقا يتجاوز مظهرها البسيط. فعندما تُقرأ في لغتها الأصلية تشي بكاتب جاد وأديب بارع ومراقب لطبائع البشر ثاقب البصر، بل وناقد للسياق الاجتماعي في الدنمارك في القرن التاسع عشر. كانت قصصه الأولى مستلهمة من التراث الشعبي الدنماركي، ولكنها أضافت إليه وانطلقت في اتجاهات أخرى جريئة وجديدة. كما استلهم أندرسون أيضًا أعمالاً فلكلورية أخرى، منها ألف ليلة وليلة، وحكايات شعبية من فرنسا، والحكايات الألمانية التي جمعها الإخوة جريم. احتفى القراء في القرن التاسع عشر بتلك القصص التي تبعث القوة في الضعفاء والصغار والفقراء والعجائز، وتمدهم بقوى خاصة وحكمة وقدرة على الاتصال بالعالم في نقائه الأول، مقابل عالم العقل المصطنع، أو حماقات المجتمع. ففي قصة “ملابس الإمبراطور” يتجاوز الطفل بحكمته الملك. وهي تيمة تتكرر في قصص التراث الشعبي حيث يكسب الطفل الصغير أو الفلاح البسيط ثروة كبيرة لحكمته وطيبته. ولكن أندرسون ينفخ روحاً جديدة في تلك التيمة، فيضع شخصياته في سياق اجتماعي معاصر يتيح له نقد بعض القيم الاجتماعية السائدة في ذلك العصر. ومن ذلك ما جاء في بحث قدمه هانز هولمبرج للمؤتمر العالمي لأعمال أندرسون عام 1999، إذ يتناول البحث تحليلاً نقديًا مستفيضاً لقصة أندرسون “ملابس الإمبراطور”، التي لا تتجاوز الأربع صفحات. يرى الباحث أن هذه القصة، رغم شكلها البسيط الذي يعتمد على الأسطورة، تخلص إلى ما تقدمه أعمق الدراسات النفسية التي تناقش سيكولوجية الغش والخداع. فهي تناقش كيفية رؤيتنا للواقع، وكيف تتأثر صورة الواقع لدينا وفهمنا له بالظروف المحيطة. فعندما تتعرض مكانة المرء الاجتماعية وكرامته للخطر، يصبح مؤهلاً لرؤية مالايمكن رؤيته، لأنه غير موجود في الواقع. تماماً كما رأى الامبراطور أنه يرتدي ملابس جديدة على حين أنه كان يقف عاريًا. وعلى جانب آخر تناقش القصة أنه إذا توفرت الظروف المحيطة الصحية التي تتيح الاختيار للمخادعين بين أن يروا أو لا يروا لرأوا الحقيقة. ولكن الطفل وحده لا يرى الواقع في مرآة الظروف المحيطة، فلا يخضع فهمه للحقيقة لهذه الظروف، ومن ثم فهو وحده الذي يرى الحقيقة مجردة، وهو وحده الذي رأى الإمبراطور عارياً وجهر بالقول. يركز أندرسون في أعماله للأطفال على امتلاك الطفل لحقيقة الحياة الإنسانية في نقاء جوهرها أمام تفكك عالم الكبار، وهي  تيمة أساسية في أعمال الكتاب الرومانسيين. ومن ثم يرى بعض النقاد أن أندرسون كان نتاجاً للحركة الرومانسية التي سادت في القرن التاسع عشر، والتي اعتمدت على الخيال وترويج الأفكار الديمقراطية. فهو إذ يسمح للطفل أو الدمية أو حيوان المزرعة بالتعبير عن مشاعره يصبح جزءًا من تلك الحركة الرومانسية، التي تتخذ من المنبوذين والفقراء محوراً لموضوعات أدبية.

وبعد أكثر من قرنين الزمان تبقى حكايات أندرسون وقصص كارول علامة مهمة في  تراث الأدب الإنساني العالمي، تتخفى وراء قناع الطفولة وتتدثر في رداء البراءة،  لتقدم نقدا اجتماعيًا  وتطرح قيمًا إنسانية عامة.

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم