ادجار آلان بو.. والتحليل النفسي في القصة البوليسية الحديثة

ادجار آلان بو
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. عـزة مازن

اشتهر الكاتب الأمريكي “ادجار آلان بو” (1809 – 1849) بشعره وكتاباته النقدية وقصصه القصيرة، وبأنه أحد أهم أساطين الحركة الرومانسية في الأدب الأمريكي. ولكن ذاع صيته بقصصه البوليسية القصيرة ذات الأبعاد النفسية والتحليل النفسي، ويرى النقاد أنه أول من أدخل هذا النوع في الأدب الحديث. فظهرت شخصية المخبر أوجستي سي دوبين في ثلاثيته القصصية  “قتل في مشرحة رو”  (1941 )، و”سر ماري روجيت” (1842 ) و”الخطاب المسروق” (1845)، لترسي دعائم ذلك النوع من القصة البوليسية في الأدب العالمي.  

يُعد ادجار آلان بو أول من اهتم بتحويل اهتمام القصة البوليسية في القرن التاسع عشر من جماليات الموقف إلى واقع أكثر عقلانية. فانتقلت قصصه من التركيز على المفردات الخارجية للبيئة المحيطة وأجوائها المرعبة وأحداثها المثيرة إلى التحليل النفسي لأعماق شخوصه  ودراسة العقل الإجرامي. ومن أهم قصصه القصيرة ذات الأبعاد النفسية قصتا “انهيار منزل أشر” (1839 ) و”القلب الواشي” (1841 ). في القصة الأولى يتمحور السرد حول رودريك، شاب من النبلاء تسكنه هواجس بأن لعنة عائلية أصابته وأصابت المنزل. تتمحور الأحداث حول طبيعة مرض “رودريك أشر” وغموضه. ورغم أن أعراض المرض تتركز في الحساسية المفرطة  للمثيرات الحسية والخوف الشديد غير المبرر، لا يفسر الكاتب أسباب المرض بغير أنه لعنة سوداء أصابت العائلة أو مرض وراثي. ولكن يركز السرد على الطبيعة المثالية للعمل الفني والطبيعة القلقة للفنان. فرودريك فنان يرسم اللوحات ويؤلف أعمالًا موسيقية ويكتب شعرا. بيد أن أعماله الفنية ترتبط بمرضه ارتباطًا خاصًا ومعقدًا. فهو منفصل تمامًا عن العالم الخارجي ومكوناته، التي قد تخدم موضوعاته الفنية. ولا يقتصر الأمر على التزامه المنزل فحسب، ولكنه أيضًا لا يحتمل الضوء أو اللمس أو الأصوات أو الرائحة. فهو في الواقع أغلق حواسه جميعًا، ومن ثم فهو يرسم أفكارًا مجردة. أسفر ذلك عن أنه لا يجد زادًا مجازيًا لفنه سوى ذاته.

يعيش رودريك في منزل أشبه بتحفة فنية ذات طراز خاص – فهو صرح كبير يميزه معمار فريد. يزور الراوي صديقه رودريك أشر بعد انقطاع طويل، ولكنه قرر الحضور للاطمئنان عليه بعد أن وصلته منه رسالة أقلقته عليه. عندما لمح الراوي المنزل من بعد، ولاحظ تكوينه الفريد الباعث على الغموض، انقبض قلبه ووقع في نفسه شعور غريب بالحزن والكآبة:

“اجتاحني شعور قابض بالحزن بمجرد أن وقعت عيناي على المبنى. أقول شعورًا قابضاً، لأنه لم يفلح في الذهاب به ابتهاج العقل بعاطفة شاعرية تثيرها صور الطبيعة، مهما كانت وحشتها أو بشاعتها. تطلعت إلى المشهد الممتد أمامي، إلى المنزل وملامح المشهد الطبيعي الممتد في الضيعة، إلى الأسوار الكئيبة والنوافذ الخالية الشبيهة بالعيون، بضعة أعشاب كثيفة النمو وبعض جذوع كالحة لأشجار تالفة، فانقبضت روحي وانتابها شعور لا يضاهيه سوى ما ينتاب مدمن أفاق من نشوة الأفيون على سقوط مروع للحجب. فيغوص قلبه وتشمله برودة وتسيطر على فكره وحشة لا ينقذه منها الخيال مهما هام في أجواء الروعة والجمال. وتوقفت أتساءل مفكراً لماذا انقبضت نفسي وأنا أتأمل منزل أشر؟ …. وفكرت أنه ربما لو أعيد ترتيب المكونات الدقيقة للمشهد وتفاصيل الصورة لخفف ذلك مما يخلفه من انطباع حزين أو قضى عليه تماماً. وانطلاقاً من تلك الفكرة توقفت بفرسي عند حافة منحدرة لبحيرة صغيرة لامعة السواد ينعكس عليها المنزل ببريقه الهادئ، وحدقت إلى أسفل فرأيت الصورة المنعكسة المعاد تركيبها للأعشاب الذابلة وجذوع الأشجار الشاحبة والنوافذ الخالية التي تشبه العيون، فاجتاحتني قشعريرة وانتابني خوف أكثر من ذي قبل”.

 وعلى الجانب الآخر يشعر أشر، صاحب القصر، أن التكوين الخاص للمنزل وترتيب أحجاره يؤثر على حالته النفسية، وهو سبب ما يعانيه من انقباض ووحشة. يصفه الراوي بأنه:  “مكبل بانطباعات خرافية عن منزله الذي يقيم فيه، والذي لم يجازف بالخروج منه لعدة سنوات – ويظهر ذلك في افتراضه بأن قوة مبهمة، تتمثل في غرابة شكل قصر العائلة ومادة بنائه، تؤثر على روحه – وهو تأثير ينبع من مادة الأسوار الرمادية والأبراج الصغيرة والبحيرة المعتمة، التي تطل عليها، مما أدى في النهاية إلى ما يعانيه من حالة نفسية.” يعكس ذلك، كما يذهب بعض النقاد، النظرية الجمالية عند بو، فهو يرى أن حياة العمل الفني وحيويته تنبع من تكوينه ونمطه الخاص، وليس من تقليده للواقع الخارجي.

ينفصل رودريك تماما عن العالم الخارجي، ولا يربطه به سوى أخته التوأم، والتي ليست شخصية واقعية في القصة بقدر ما هي التجلي الأخير لارتباطه بالعالم الواقعي المادي. كانت الأخت مصابة بمرض غريب ونادر، ففارقت الحياة بعد أن ذهبت في غيبوبة طويلة تخشب معها جسدها. وبمجرد دفنها انفصل رودريك تمامًا عن الحياة الواقعية. تعود مادلين، الأخت، من قبرها في قبو أسفل المنزل، ليلتقي جسدها الميت مع روح أخيها الساعية نحو الكمال. بينما تتصاعد الأحداث نحو ذروتها المرعبة يتضافر الفن مع الواقع. كان رودريك يستمع إلى صوت خيالي سرعان ما راح صداه يتردد في الواقع، بينما تخرج مادلين من القبو المدفونة فيه، وترتقي درجات السلم في سرعة غاضبة لتتوحد بأخيها. يغرق رودريك في الجنون، ويراه السارد يجاهد لإفشاء سر قاهر، فهل دفن أخته حية؟: “الآن وقد مرت سبعة أيام من الحزن المرير، طرأ تغيير ملحوظ على مظاهر الاضطراب العقلي عند صديقي…. في أحيان كثيرة كنت أظن عقله، الذي لا يتوقف عن الاضطراب، يجاهد لإفشاء سر قاهر، ولكنه يصارع ليجد الشجاعة اللازمة. وفي أحيان أخرى كنت أرى ذلك كله تقلبات مستغلقة من الجنون، وذلك أني كنت أراه يحملق في الفراغ ساعات طوال في حالة من التركيز العميق كأنما يستمع إلى صوت خيالي”.

يغرق السارد في مشاعر الفزع والكآبة ويحاول جاهدًا إنقاذ روحه:

“طغت على نفسي تلك المشاعر خاصة عند خلودي للنوم في وقت متأخر من اليوم السابع أو الثامن بعد وضع السيدة مادلين داخل السرداب. فلم يقترب النعاس من مضجعي بينما الساعات تمر بطيئة. كنت أصارع لأتخلص مما اعتراني من توتر. وحاولت أن أقنع نفسي أن ذلك يرجع في بعض منه للتأثير المحير لقطع الأثاث في الحجرة – للستائر القاتمة التي تتحرك مع نفحات الهواء وتتأرجح من وإلى الجدران وتضرب في زينة السرير محدثة خشخشة مزعجة. ولكن باءت جهودي بالفشل. وشيئاً فشيئاً اجتاحت كياني رعشة لا تقاوم؛ وبعدها وقع في قلبي فزع لا مبرر له…. أرهفت السمع وسط ظلام الحجرة المتكاثف… ورحت أنصت إلى أصوات خافتة غير مميزة تتخلل فترات صمت العاصفة وتمتد بين حين وآخر، ولا أعرف متى حدث هذا بالضبط…. حاولت أن أنزع نفسي من الحالة البائسة التي وقعت فيها بأن رحت أقطع الحجرة ذهاباً وإياباً في سرعة”.

يدخل أشر حجرة السارد، ويردد السؤال: “ألم تره؟ إنك إذن لم تره؟ ولكن انتظر! ستراه.” وسرعان ما فتح النافذة في وجه العاصفة، فكأنما ليغرق المنزل وسكانه في هوة الفناء: ” وبينما هو يتحدث هكذا ويظلل على مصباحه، أسرع إلى أحد النوافذ وفتحها على مصراعيها في وجه العاصفة”. في العالم الجمالي عند إدجار آلان بو يصبح الفناء هو الثمن الذي لابد أن يدفعه الفنان لانفصاله عن العالم الخارجي.

تأتي قصة “القلب الواشي” (1841)، لتكون واحدة من أهم قصص بو البوليسية التي تتناول جنون القتل، ومن أكثرها تعقيدًا على المستوى النفسي. تدور قصة “القلب الواشي”  من منظور القاتل، الذي قتل جاره لأنه يكره منظر إحدى عينيه. يبرر القاتل فعلته ويدفع عن نفسه صفة الجنون، معللًا ذلك بأسلوبه الهادئ في ارتكاب جريمته ومحاولة إخفاء معالمها:

 “حقاً إنني لشديد التوتر؛ لقد كنتُ كذلك ولازلت! ولكن لماذا تقول عني أني مجنون؟ فلقد شحذ المرض حواسي، ولم يحطمها أو يعطلها. وفوق ذلك فلدىَّ سمع مرهف، أسمع كل ما يدور في الأرض والسماء. لقد سمعت الكثير مما يدور في جهنم؟ كيف ذلك، هل أنا مجنون؟ اسمع ولاحظ كيف أني سليم معافى أروي الحكاية كاملة في هدوء. يصعب أن أخبرك كيف واتتني الفكرة في البداية، ولكن بمجرد أن استوعبتها ظلت تراودني صباحاً ومساءً. لقد أحببت الرجل، فهو لم يسء إلىَ أو يهينني أبداً. ولم تكن بي شهوة لذهبه. أعتقد أن إحدى عينيه هي السبب! نعم إنها هي! فقد كانت إحدى عينيه تشبه عين الصقر – باهتة الزرقة، عليها غشاوة رقيقة. وبمجرد أن تقع تلك العين علىَّ يتجمد الدم في عروقي؛ وهكذا بالتدريج قررت أن أقتل الرجل وأتخلص من تلك العين إلى الأبد. هذا هو السبب. فأنت تخالني مجنوناً، ولكن المجانين لا يعون شيئاً. فكان لابد أن تراني وترى كيف أتقدم بحكمة وحرص وبصيرة وأعمل برباطة جأش”.

يتمحور السرد حول دافع الراوي لقتل الرجل العجوز. فهو يبدأ بأن يؤكد لمستمعيه (وقراءه) أنه كان يحب الرجل العجوز وأنه لم يطمع في ذهبه، وأن الرجل لم يكن فظًا معه. ولكنه كان يخشى إحدى عيني الرجل ويصيبه الرعب عندما يراها، فقرر التخلص من تلك العين إلى الأبد. وحيث إن الراوي لم يقدم ثمة تفسير لرعبه القاتل من عين الرجل، يحاول القارئ فهم دافعه لارتكاب جريمته، ومن ثم الدافع وراء كتابة القصة نفسها، وذلك بالالتفات لأدق التفاصيل، ومحاولة الوصول للعلاقات الموضوعية التي تربط بعضها بعضًا.

يرى كثير من النقاد أنه في أعمال إدجار آلان بو لا يمكن إغفال التفاصيل الصغيرة، فكلها تٌسهم في الوصول إلى الفكرة الرئيسية، ويتضمن ذلك الإطناب والتكرار، كما في قصته “القلب الواشي”، لأن الراوي تتملكه أفكار بعينها، ومن ثم تُلح عليه تلك الأفكار وتتردد في ثنايا السرد.

وبالإضافة إلى ثيمة أو موتيفة العين، التي تتمحور حولها أفكار الراوي المستحوذة على ذهنه، ومن ثم تتكرر كثيرا في ثنايا القصة، يأتي تماهي الراوي مع الرجل العجوز ليشكل ثيمة أساسية أخرى في النص. فبينما كان يخطط لجريمته بأن يطل برأسه من باب حجرة نوم العجوز كل ليلة، يقول الراوي إن العجوز يجلس في فراشه يرهف السمع، تماما مثلما كان يفعل هو نفسه ليلة إثر أخرى. أضف إلى ذلك قوله أن أنين العجوز صوت يعرفه جيدًا، وذلك لأنه شعر في ليال عديدة أن ذات الصوت يصدر عنه هو نفسه: “وسرعان ما سمعت آنة خافتة، وعرفت أنه كان يئن من الخوف. لم تكن آنة ألم أو حزن – كلا! إنها ذلك الصوت الخافت المخنوق الذي ينبع من أعماق الروح عندما يثقل عليها الرعب. فأنا أعرف ذلك الصوت تماماً. فأكم من ليال، تماماً في منتصف الليل والناس نيام، ينبثق في صدري هذا الصوت ويعمق بصداه المخيف الرعب الذي يشوش نفسي”.  وربما يتأكد ذلك التماهي بين الراوي القاتل والعجوز القتيل، ورغبة الراوي في التخلص من ذاته في شخص العجوز بأن يتخلل النص ثيمتا الوقت والقلب الواشي. فعلى مدى السرد يلاحظ الراوي أن نبض قلب العجوز يشبه دقات الساعة. وهو أيضًا يقول إنه والعجوز استمعا إلى ساعات الموت (نوع من الخنافس يصدر صوت تكتكة) في الجدار في الليل: ” كنت قد أدخلت رأسي وأوشكت أن أفتح المصباح عندما اصطدم إبهامي بعمود معدني لتثبيت مصراع النافذة، فقفز العجوز من فراشه وصاح: “من هناك؟” التزمت الهدوء ولم أقل شيئاً. وبقيتُ ساعة كاملة لا أحرك ساكناً، وفي تلك الأثناء لم أسمعه يرقد. فقد كان لا يزال جالساً في الفراش يتسمع – تماما مثلما فعلت أنا، ليلة إثر أخرى، أتسمع دقات ساعات الموت في الحائط”. وفي النهاية هناك ثيمة القلب الواشي – ذلك القلب الذي يشي بالحكاية. فرغم أنه في الحبكة الظاهرية للقصة يعتقد الراوي أن قلب العجوز وشى به عندما حضر رجال الشرطة للتحقق من صرخة تم الإبلاغ عنها، يتضح أنه كان يسمع قلبه هو يدق. بيد أنه على المستوى النفسي للقصة، فإن الحكاية التي وشى بها القلب والتي تستحوذ على الراوي، هي الحكاية التي يحكيها كل قلب. فتلك الحكاية تربط نبضات القلب بدقات الساعة، فكل نبضة لحظة من الوقت تقرب المرء من الموت:

 “تعالى الصوت…. كان صوتاً خافتاً سريعاً، مثل صوت الساعة عندما تُلَف في قطعة من القطن…. ولكن الضباط لم يسمعوه. وتحدثتُ أسرع وبمزيد من الحماس، ولكن الجلبة أخذت تتزايد….. أرغيتُ وأزبدتُ وأقسمتُ! وأدرت المقعد الذي كنت أجلس عليه، وجررته فوق البلاط، ولكن الجلبة ارتفعت وازدادت…. أخذت تتزايد وتتزايد. ولازال الرجال يثرثرون بلطف ويبتسمون. هل معقول ألا يكونوا قد سمعوا شيئاً؟ يا إلهي! كلا، كلا! فلابد أنهم سمعوا! لقد سمعوا وشكّوا في الأمر، وهم الآن يعرفون. إنهم يسخرون من رعبي! هكذا بدا لي الأمر. ولكن أي شئ أفضل من هذا العذاب! أي شئ يمكن تحمله أكثر من هذا الرعب! لم أعد أحتمل تلك الابتسامات المرائية! شعرت أنني لابد أن أصرخ وإلا سأموت! ومرة أخرى ازداد الصوت ارتفاعاً وارتفاعاً! وصرختُ “أيها الأنذال! كفوا عن الرياء! فأنا أعترف بفعلتي! انزعوا البلاط! فهنا، هنا دقات قلبه الكريه!”·  

“القلب الواشي”، مثلها مثل كثير من قصص إدجار آلان بو، تبدو في ظاهرها قصة بسيطة من قصص الجنون، ولكن، كما كان بو يعلم جيدًا، ليس ثمة جنون بلا معنى، فجنون الراوي في القصة يشبه جنون شخوص أخرى في أعمال بو القصصية؛ جميعهم يتوقون إلى الفرار من لعنة الزمن والفناء، ولكنهم يكتشفون أن الثمن خسارة أنفسهم.

…………………….

*الاقتباسات الواردة بالمقال من ترجمة سابقة لكاتبة هذه السطور لقصتي “منزل أشر” و”القلب الواشي”.

مقالات من نفس القسم