“الإحساس بالنهاية”.. ذكرياتنا بين الحقيقة والخيال

الإحساس بالنهاية
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. عـزة مـازن

عندما يتقدم بنا العمر ونخلد إلى الذكريات نظن أننا نستعيد تاريخنا الفردي وأحداث حياتنا، ولكننا في الواقع ننسج لأنفسنا تاريخاً يرضينا. وذريعتنا في ذلك أن ما من شاهد على حقيقة ما عشناه سوانا والمقربون منا، ممن يطويهم النسيان، ولن يبقى للأجيال التالية سوى ما نتركه لهم موثقاً بالكلمة والصورة، ليستدلوا بها علينا. ذلك الجدل بين ما نتذكره ونحكيه على الورق أحياناً وبين ما عشناه بالفعل هو التيمة الرئيسية لرواية “الإحساس بالنهاية” The Sense of an Ending (2011 ) للكاتب الإنجليزي جوليان بارنز – أحد أهم الكُتاب الإنجليز المعاصرين – والفائزة بجائزة البوكر للعام نفسه (2011 ). في رواية رائعة بالغة العمق والإيجاز – مائة وخمسين صفحة –  ولغة مفعمة بالدلالات الفكرية يتناول بارنز حقيقة ما نتذكره وما تحكيه كتب التاريخ، وهل نتذكر ما عشناه بالفعل، أم أننا نحذف ونضيف حتى نتغلب على إحساس بالندم قد يداهمنا في أواخر العمر؟

 يُستهل السرد بشذرات من الذاكرة يعلق عليها الراوي ” ما ينتهي بنا الأمر إلى تذكره ليس هو نفسه ما عشناه” ويتابع: “نعيش في الزمن – يستحوذ علينا ويصيغنا – ولكني لم أشعر أنني فهمته قط…. أعني بذلك زماننا اليومي المعتاد، ذلك الزمن الذي تؤكد مروره الساعات… وهو مع ذلك زمن قابل للطرق والتشكيل. تسرع به مشاعر وتحد من سرعته أخرى؛ ويتراءى لنا أحياناً أنه ضاع منا. وما نلبث أن نصل إلى النهاية حتى نفقده حقيقة بلا عودة”. تتمحور الرواية حول التاريخ الشخصي أو الذكريات، لتنفتح على مفهوم جديد للتاريخ في إطاره العام.   يعود توني وبستر، وقد تقاعد وتجاوز الستين، إلى ذكريات صباه، في محاولة لكشف سر مبلغ من المال ومذكرات صديقه، أدريان فين، الذي توفى منتحراً في صباه، وقد تركتهما له في وصيتها أم فيرونيكا، صديقته في الصبا، والتي كانت تركته إلى صديق صباه المنتحر.

 تتمحور الرواية حول حبكة بسيطة. أربعة أصدقاء من الدراسة بينهم توني وبستر، الراوي، وأدريان فين، أمهرهم وأكثرهم ذكاء. فقد الأصدقاء تواصلهم مع الزمن. ومع أن وبستر يحيا حياة مريحة في تقاعده ويحتفظ بعلاقة طيبة مع طليقته وابنته وأحفاده، إلا أنه لم يستطع التخلص من مرارة ذكرياته مع صديقته السابقة، فيرونيكا، التي قضى عطلة  لنهاية الأسبوع في منزلها. وشعر أنذاك بالمهانة لما أحاط به من مظاهر الثراء وما لاقاه من والدها وأخيها من تعال، ولكن أدهشه ما لاقاه من والدتها من لطف. وزاد من مرارة إحساسه ارتباط  فيرونيكا، ذات الشخصية الغامضة، بصديقه أدريان الذي يفوقه مكانة اجتماعية. وقد تطور ذلك الإحساس بالمرارة إلى سوء فهم، بل إلى لغز، بعد أن علم بانتحار أدريان. والتبس عليه أيضاً سبب وصية والدة فيرونيكا له بذلك المبلغ من المال ومذاكرات أدريان التي كانت بحوذتها – مما زاد من دهشته.

   يتذكر وبستر سؤال يطرحه مدرس التاريخ في المدرسة “ما التاريخ؟” فتأتي إجابته : “التاريخ أكاذيب المنتصرين” وتأتي إجابة صديقه المتوهج الذكاء أدريان فين : “التاريخ هو اليقين الذي ينتج عند نقطة التقاء عجز الذاكرة مع عدم كفاية الأدلة الموثقة.” تغلف إجابة أدريان السرد لتتحول إلى موتيفة تتكرر في ثنايا تلك الرواية الآسرة. فبينما يتذكر وبستر، في شيخوخته، أحداث صباه يكتشف أن ما يتذكره وما حدث بالفعل لا يتطابقان. يغرق وبستر في ذكريات مر عليها أكثر من أربعين عاماً، في محاولة لفك غموض ذلك الإرث الذي آل إليه. فيعود إلى علاقته بفيرونيكا وأدريان، وإلى شعور المهانة الذي انتابه  في عطلة نهاية ذلك الأسبوع التي قضاها في منزل فيرونيكا، وإلى شعور بعدم الراحة لم يستطع تفسيره حتى بعد أن تقدم به العمر. وقد أبرزت تلك الوقائع عجزه عن إعادة بناءعلاقاته مع كل من أدريان وفيرونيكا.  ولكن هل ما يتذكره هو ما عاشه بالفعل : “يدهشني … أننا في صبانا ننسج في خيالنا أنماطاً مختلفة من الحياة المستقبلية لأنفسنا، أما عندما يتقدم بنا العمر فإننا ننسج أنماطاً مختلفة من الحياة الماضية للآخرين.” فها هو أمام تركيب جديد للأحداث ينضم إليه آخرون، ولكن دون مزيد من الكشف. 

  تعود فيرونيكا لتدخل حياته من جديد، ولكنها ترفض إعطاءه المذكرات. ما يكتشفه من مراسلتهما المتبادلة على الإيميل يبعثر هدوء حياته، ويجبره على مواجهة حقيقة أحداث حياته الماضية، وليس ذكرياته عنها فحسب، لينتهي في النهاية إلى أن “التاريخ ليس أكاذيب المنتصرين… ولكنه ذكريات الباقين على قيد الحياة، ومعظمهم من غير المنتصرين ولا المهزومين.”

 رغم الحبكة الروائية البسيطة في ظاهرها، تضمر الرواية في جوهرها  مستويات متعددة أكثر تعقيداً. يخلو العمل من الأحداث المهمة، إلا أن وبستر يغوص عميقاً في تحليل شذرات ذكرياته وإعادة تركيبها ليخرج في النهاية بأن “ما ينتهي بنا المطاف إلى تذكره ليس دائماً ما عشناه”. فما قام به لاحقاً من تركيب لشذرات ذكرياته أجلى بصره وأمده بمزيد من الكشف. ومن ثم انفتحت أمامه رؤية بديلة، سلم بها على أنها التفسير الصحيح ، وإن كانت خيانة لكل الذكريات التي عاش عليها أربعين عاماً وظنها حقيقة ما عاشه من أحداث.

يهتم السرد في ظاهره بالذكريات والتاريخ الفردي، ولكنه في جوهره يناقش مسألة التاريخ وما يكتبه المؤرخون. فما الشاهد على صدق الأحداث التي نقرأها في كتب التاريخ، خاصة تلك التي تغوص عميقاً في الزمان. فما الضامن أن ما نفعله بتاريخنا الفردي لا يفعله بنا المؤرخون في التاريخ العام ؟ “ما أكثر ما نروي قصة حياتنا. وما أكثر ما نعدل فيها، نجملها ونحذف منها بمكر وعن عمد. وكلما امتد بنا العمر تناقص المقربون منا ممن يستطيعون تحدي رواياتنا، ليذكرونا أن حياتنا ليست حياتنا، إنما مجرد قصة نحكيها عن حياتنا. قصة نحكيها للآخرين، ولكننا نحكيها لأنفسنا في الأساس.”

………………………………

* الاقتباسات الواردة بالمقال من ترجمة كاتبة هذه السطور عن النص الإنجليزي

   

مقالات من نفس القسم